أذار (مارس) 2009

كل مغترب يفتقر إلى التعزية..
كل حزين يحتاج إلى التعزية..
كل متألم يأمل بالتعزية..
كل مصاب بفاجعة أو ماساة يتشوّق إلى تعزية.


ولكننا نعيش في عالم موبوء بالشر، تسوده الخطيئة وتخيّم عليه نكبات هذا الدهر الذي لا يرحم. وكلّنا معرّضون لتقلبات الحياة، لا فرق في ذلك بين مؤمن وغير مؤمن، لأننا في غربتنا الأرضية نعاني من اللعنة التي نزلت بالأرض منذ لحظة السقوط الرهيبة. ولكن كثيرون منّا يحاولون أن يتحجّبوا بأقنعة مكثّفة لمواراة مخاوفهم الكامنة في أعماق نفوسهم، والتوشّح بالمظاهر الخدّاعة لإقناع أنفسهم أولاً، ولإقناع الآخرين أيضاً بأن حياتهم ما برحت تتمتّع بالغبطة والسعادة، بينما قلوبهم تئن في داخلهم بصمت مرعب. وهناك من هم أكثر جرأة فيدمنون على الكحول علناً، أو يتعاطون المخدّرات، أو يتكالبون على الشهوات ليخرسوا صرخات الألم الداوية في قلوبهم، مجاهدين بمثل هذه الوسائل المصطنعة أن يخلقوا عالماً وهميّاً يوحي إليهم أن دنياهم ما زالت تزدهر بالمباهج والأفراح، ليخفّفوا بذلك من عناء الحياة التي يقاسون منها، وإن كانوا في لحظات صحوهم يدركون أن ما يبنونه من سعادة مزيّفة ليست سوى قصورٍ شيّدوها على رمال متحرّكة سرعان ما تنهار عندما تهبّ عليها العواصف الهوجاء إذ تضربها المياه الهائجة؛ ومن ثمَّ يعودون إلى مستنقعات يأسهم، وحمأة بؤسهم.
ولا يغرَّنّك، يا قارئي العزيز، ما تراه من ابتسامات تسم على الشفاه، أو ما يرفلون به من نعيم الثراء لأن الخواء الداخلي لا يمكن لهذه الوسائل المصطنعة أن تملأه. إذ كيف يمكن أن يرتوي الظامئ من السراب؟ أو أن يشبع الجائع من الهواء؟ ومن المؤسف حقاً أن بعض المؤمنين قد غشيت أبصارهم فانكمشوا على أنفسهم قانطين وكأنهم هم أيضاً بلا رجاء، ولا يأملون تعزية حتى من الله. وأنا أصبو في هذا المقال الموجز أن ألفت انتباه هؤلاء الحائرين في قفرٍ من الضياع إلى أن في حوزتهم منبعاً فذّاً من التعزية لا يجفّ، يمكن اللجوء إليه في كل حين، بل أكثر من ذلك، إنه يحمل في ذاته النجع، والشفاء وينقلنا من وهاد الشقاء إلى جبال التجلي والفرح. فدعنا يا صديقي المتألم أن نقرأ معاً وحي الرب على لسان بولس الرسول: "مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، أَبُو الرَّأْفَةِ وَإِلهُ كُلِّ تَعْزِيَةٍ، الَّذِي يُعَزِّينَا فِي كُلِّ ضِيقَتِنَا، حَتَّى نَسْتَطِيعَ أَنْ نُعَزِّيَ الَّذِينَ هُمْ فِي كُلِّ ضِيقَةٍ بِالتَّعْزِيَةِ الَّتِي نَتَعَزَّى نَحْنُ بِهَا مِنَ اللهِ. لأَنَّهُ كَمَا تَكْثُرُ آلاَمُ الْمَسِيحِ فِينَا، كَذلِكَ بِالْمَسِيحِ تَكْثُرُ تَعْزِيَتُنَا أَيْضًا. فَإِنْ كُنَّا نَتَضَايَقُ فَلأَجْلِ تَعْزِيَتِكُمْ وَخَلاَصِكُمُ، الْعَامِلِ فِي احْتِمَالِ نَفْسِ الآلاَمِ الَّتِي نَتَأَلَّمُ بِهَا نَحْنُ أَيْضًا. أَوْ نَتَعَزَّى فَلأَجْلِ تَعْزِيَتِكُمْ وَخَلاَصِكُمْ. فَرَجَاؤُنَا مِنْ أَجْلِكُمْ ثَابِتٌ. عَالِمِينَ أَنَّكُمْ كَمَا أَنْتُمْ شُرَكَاءُ فِي الآلاَمِ، كَذلِكَ فِي التَّعْزِيَةِ أَيْضًا" (2كورنثوس 3:1-7).
في هذه الأعداد الخمسة التي اقتبسناها من هذه الرسالة نجد أن كلمة نتعزّى ومشتقّاتها ترد عشر مرات بصورة مدهشة وكأن الوحي يؤكد لنا أن الحاجة إلى التعزية في حياتنا المسيحية حقيقة لا بدّ منها. ولكن ما هو أهم من ذلك هو مصدر التعزية. إقرأ معي: "مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، أَبُو الرَّأْفَةِ وَإِلهُ كُلِّ تَعْزِيَةٍ". يقول آر. ف. تاسكر، أحد مفسّري الكتاب المقدس: "ليس الله فقط إله كل رحمة ورأفة بل إنه إله كل تعزية، وبذلك يؤكد الرسول أن الله هو مصدر كل تشجيع وتعزية للمؤمنين في جميع الظروف". إذاً، المعزّي الحقيقي هو الله نفسه. تردّد على لسان إشعياء قول الرب: "أَنَا أَنَا هُوَ مُعَزِّيكُمْ" (إشعياء 12:51). وفي مزمور 17:86؛ و19:94 يصلي المرنّم قائلاً: "... أَنْتَ يَا رَبُّ أَعَنْتَنِي وَعَزَّيْتَنِي". ولكن ما هي نتائج تعزية الرب لنا؟
أولاً: الرب هو المعزّي
تعزية الرب هي تعزية فعّالة تختلف كلياً عن تعزيات الناس التي تتجرّد من القوّة. قال أيوب لأصدقائه المعزّين: "مُعَزُّونَ مُتْعِبُونَ كُلُّكُمْ" (أيوب 2:16)، لأن كلمات تعزيتهم كانت خالية من كل قوّة. والواقع أن الإنسان مهما استخدم من أساليب البلاغة، وانتقى ألفاظه لكي يعبّر فيها عن كلمات عزائه فإنه يعجز عن استئصال الأسى من قلب المصاب. لا شكّ أن وجود المعزّين تعبير عن اهتمامهم، وحبّهم، ومشاركتهم في آلام المنكوبين، ولكن ذلك لا يمكن أن يغيّر شيئاً من واقع الحال. أما تعزية الرب فهي التعزية القادرة أن تمدّنا بالقوّة، وتؤيدنا بالنصر على مشاعرنا الحزينة التي تفضي بنا أحياناً إلى الاعتكاف في محاريب الشفقة على الذات. وفوق ذلك إن تعزية الرب تجعلنا نرفع أعيننا إلى الجبال من حيث يأتي عوننا، لأن عزاء الرب ينتشلنا ويرفعنا إلى صخرة عالية لا تطالها أو تؤثر فيها عوادي الأيام. من المؤسف حقاً أن كثيراً من المؤمنين في إبان مصائبهم يغفلون أن الرب هو وحده عزاؤهم الوحيد.
ثانياً: حاجتنا إلى التعزية
حاجتنا إلى التعزية تكون دائماً عندما تحدق بنا كوارث هذه الدنيا، ولا سيما في الظروف القاسية التي نفقد فيها حبيباً، أو نبتلي بمرض عضال، أو تضربنا الزلازل، أو تكتسح بيوتنا الأعاصير، إلخ... بمعنى آخر، في أيام الضيق ومن جملتها الاضطهادات، عندئذ نحتاج إلى تعزية الرب، أو كما قال الرسول في رسالته: "إِلهُ كُلِّ تَعْزِيَةٍ، الَّذِي يُعَزِّينَا فِي كُلِّ ضِيقَتِنَا". إننا لا نحتاج إلى التعزية في أفراحنا ومسراتنا، ولكن في زمن الضيق عندما تلمّ بنا المشكلات التي نعجز عن دفعها، نجد أنفسنا في أشدّ الحاجة إلى سندٍ أو قوّة تثبِّت أقدامنا فلا يجتاحنا موجها العنيف. هذه التعزية لا بدّ منها. ولا بدّ لنا أن نطلبها من الرب لأننا نصبح في موقف لا نجاة لنا منه. ماذا يمكننا أن نفعل عندما نقف وجهاً لوجه أمام الموت مثلاً؟ وأي شيء نستطيع أن نقوم به عندما تنتابنا الاضطهادات، وتهاجمنا جحافل الظلام الرهيب؟ في مثل هذه الأحوال تعوزنا التعزية الإلهية التي هي قادرة أن تثبّت قلوبنا، وتنهضنا من كبوتنا، وتغدق علينا التشجيع الذي نحن في أشدّ الحاجة إليه في تلك اللحظات الحرجة. غير أن من شأن هذه الضيقات أن تقوّينا عندما نرى تعزيات الرب، ومدى عنايته بنا. والواقع إن لفظة تعزية، كما يقول تاسكر، تشمل في اللغة اليونانية التعزية والتشجيع. ثم إن التعزية الإلهية هذه تملأنا بالسلام الذي تحدّث عنه المسيح عندما قال: "سَلاَمًا أَتْرُكُ لَكُمْ. سَلاَمِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا". فمن هنا، إن هذه التعزية التي يسكبها الرب في قلوبنا تغمرنا بالسلام الذي لا تستطيع كل تعزيات العالم أن تقدّمه لنا.
ثالثاً: مقوّم إيجابي
هناك مقوّم إيجابي في تعزية الرب لنا. إننا بمثل هذه التعزية نتخطّى حدود ذواتنا لأننا قد اختبرنا عمل نعمة الله في حياتنا وعرفنا أن ثقتنا هي فقط بالمسيح. هذا اليقين يسعفنا أن نمدّ يد العون للآخرين الذين يقاسون من التجارب والضيقات. وكما قال أحدهم: "والتعزية هي دائماً شخصية لكنها تمكّن الذي يختبرها من الدخول بدوره إلى آلام الآخرين والتعبير عن المشاركة الحقيقية معهم". فكما نحن قد تقوّينا واختبرنا وتباركنا بتعزية الرب، أصبح في قدرتنا أن نمدّ يد المعونة للمعذّبين، ونبدي تعاطفنا معهم، هذا التعاطف الذي مصدره الله وحده. إنه امتياز لنا أن نشترك في آلام الآخرين ونجنّد أنفسنا في إعانتهم في أثناء صراعهم مع متاعب الحياة. ولكن ليس في وسعنا أن نسعف هؤلاء المتضايقين بفعالية إن لم نكن قد مررنا في بوتقة الضيقات ونلنا تعزيات الرب أولاً. من الجليّ أن تحمّلنا لآلام هذا الدهر ونموّنا بتعزيات الرب هما أعظم شهادة على عمل الرب فينا. إن خطوط المواصلات بيننا وبين الرب يمكنها أن تمتدّ إلى حياة الآخرين، إذ يرون فينا النتائج الباهرة الناجمة عن تعزيات الرب لنا. ولا ريب أن هذه التعزيات هي متوافرة لجميع المؤمنين الذين ألقوا ثقتهم على الله. في رسالته الثانية إلى أهل تسالونيكي 16:2-17 يقول بولس الرسول:
"وَرَبُّنَا نَفْسُهُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ، وَاللهُ أَبُونَا الَّذِي أَحَبَّنَا وَأَعْطَانَا عَزَاءً أَبَدِيًّا وَرَجَاءً صَالِحًا بِالنِّعْمَةِ، يُعَزِّي قُلُوبَكُمْ وَيُثَبِّتُكُمْ فِي كُلِّ كَلاَمٍ وَعَمَل صَالِحٍ".
وهكذا، يا قارئي العزيز، نجد أن في تعزية الرب تتوافر القوة، والتشجيع، والثبات، والسلام، والثقة التي لنا فيه مما يساعدنا على مشاركة الآخرين في ضيقاتهم، والوقوف إلى جانبهم لا كمعزين متعبين بل كمن اختبر عزاء الرب وشهد فعاليته، وتمتّع بنتائجه المدهشة.
هذه هي التعزية الحقيقية التي يجب دائماً أن نسعى إليها.

 

كل مغترب يفتقر إلى التعزية..

كل حزين يحتاج إلى التعزية..

كل متألم يأمل بالتعزية..

كل مصاب بفاجعة أو ماساة يتشوّق إلى تعزية.

ولكننا نعيش في عالم موبوء بالشر، تسوده الخطيئة وتخيّم عليه نكبات هذا الدهر الذي لا يرحم. وكلّنا معرّضون لتقلبات الحياة، لا فرق في ذلك بين مؤمن وغير مؤمن، لأننا في غربتنا الأرضية نعاني من اللعنة التي نزلت بالأرض منذ لحظة السقوط الرهيبة. ولكن كثيرون منّا يحاولون أن يتحجّبوا بأقنعة مكثّفة لمواراة مخاوفهم الكامنة في أعماق نفوسهم، والتوشّح بالمظاهر الخدّاعة لإقناع أنفسهم أولاً، ولإقناع الآخرين أيضاً بأن حياتهم ما برحت تتمتّع بالغبطة والسعادة، بينما قلوبهم تئن في داخلهم بصمت مرعب. وهناك من هم أكثر جرأة فيدمنون على الكحول علناً، أو يتعاطون المخدّرات، أو يتكالبون على الشهوات ليخرسوا صرخات الألم الداوية في قلوبهم، مجاهدين بمثل هذه الوسائل المصطنعة أن يخلقوا عالماً وهميّاً يوحي إليهم أن دنياهم ما زالت تزدهر بالمباهج والأفراح، ليخفّفوا بذلك من عناء الحياة التي يقاسون منها، وإن كانوا في لحظات صحوهم يدركون أن ما يبنونه من سعادة مزيّفة ليست سوى قصورٍ شيّدوها على رمال متحرّكة سرعان ما تنهار عندما تهبّ عليها العواصف الهوجاء إذ تضربها المياه الهائجة؛ ومن ثمَّ يعودون إلى مستنقعات يأسهم، وحمأة بؤسهم.

ولا يغرَّنّك، يا قارئي العزيز، ما تراه من ابتسامات تسم على الشفاه، أو ما يرفلون به من نعيم الثراء لأن الخواء الداخلي لا يمكن لهذه الوسائل المصطنعة أن تملأه. إذ كيف يمكن أن يرتوي الظامئ من السراب؟ أو أن يشبع الجائع من الهواء؟ ومن المؤسف حقاً أن بعض المؤمنين قد غشيت أبصارهم فانكمشوا على أنفسهم قانطين وكأنهم هم أيضاً بلا رجاء، ولا يأملون تعزية حتى من الله. وأنا أصبو في هذا المقال الموجز أن ألفت انتباه هؤلاء الحائرين في قفرٍ من الضياع إلى أن في حوزتهم منبعاً فذّاً من التعزية لا يجفّ، يمكن اللجوء إليه في كل حين، بل أكثر من ذلك، إنه يحمل في ذاته النجع، والشفاء وينقلنا من وهاد الشقاء إلى جبال التجلي والفرح. فدعنا يا صديقي المتألم أن نقرأ معاً وحي الرب على لسان بولس الرسول: "مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، أَبُو الرَّأْفَةِ وَإِلهُ كُلِّ تَعْزِيَةٍ، الَّذِي يُعَزِّينَا فِي كُلِّ ضِيقَتِنَا، حَتَّى نَسْتَطِيعَ أَنْ نُعَزِّيَ الَّذِينَ هُمْ فِي كُلِّ ضِيقَةٍ بِالتَّعْزِيَةِ الَّتِي نَتَعَزَّى نَحْنُ بِهَا مِنَ اللهِ. لأَنَّهُ كَمَا تَكْثُرُ آلاَمُ الْمَسِيحِ فِينَا، كَذلِكَ بِالْمَسِيحِ تَكْثُرُ تَعْزِيَتُنَا أَيْضًا. فَإِنْ كُنَّا نَتَضَايَقُ فَلأَجْلِ تَعْزِيَتِكُمْ وَخَلاَصِكُمُ، الْعَامِلِ فِي احْتِمَالِ نَفْسِ الآلاَمِ الَّتِي نَتَأَلَّمُ بِهَا نَحْنُ أَيْضًا. أَوْ نَتَعَزَّى فَلأَجْلِ تَعْزِيَتِكُمْ وَخَلاَصِكُمْ. فَرَجَاؤُنَا مِنْ أَجْلِكُمْ ثَابِتٌ. عَالِمِينَ أَنَّكُمْ كَمَا أَنْتُمْ شُرَكَاءُ فِي الآلاَمِ، كَذلِكَ فِي التَّعْزِيَةِ أَيْضًا" (2كورنثوس 3:1-7).

في هذه الأعداد الخمسة التي اقتبسناها من هذه الرسالة نجد أن كلمة نتعزّى ومشتقّاتها ترد عشر مرات بصورة مدهشة وكأن الوحي يؤكد لنا أن الحاجة إلى التعزية في حياتنا المسيحية حقيقة لا بدّ منها. ولكن ما هو أهم من ذلك هو مصدر التعزية. إقرأ معي: "مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، أَبُو الرَّأْفَةِ وَإِلهُ كُلِّ تَعْزِيَةٍ". يقول آر. ف. تاسكر، أحد مفسّري الكتاب المقدس: "ليس الله فقط إله كل رحمة ورأفة بل إنه إله كل تعزية، وبذلك يؤكد الرسول أن الله هو مصدر كل تشجيع وتعزية للمؤمنين في جميع الظروف". إذاً، المعزّي الحقيقي هو الله نفسه. تردّد على لسان إشعياء قول الرب: "أَنَا أَنَا هُوَ مُعَزِّيكُمْ" (إشعياء 12:51). وفي مزمور 17:86؛ و19:94 يصلي المرنّم قائلاً: "... أَنْتَ يَا رَبُّ أَعَنْتَنِي وَعَزَّيْتَنِي". ولكن ما هي نتائج تعزية الرب لنا؟

أولاً: الرب هو المعزّي

تعزية الرب هي تعزية فعّالة تختلف كلياً عن تعزيات الناس التي تتجرّد من القوّة. قال أيوب لأصدقائه المعزّين: "مُعَزُّونَ مُتْعِبُونَ كُلُّكُمْ" (أيوب 2:16)، لأن كلمات تعزيتهم كانت خالية من كل قوّة. والواقع أن الإنسان مهما استخدم من أساليب البلاغة، وانتقى ألفاظه لكي يعبّر فيها عن كلمات عزائه فإنه يعجز عن استئصال الأسى من قلب المصاب. لا شكّ أن وجود المعزّين تعبير عن اهتمامهم، وحبّهم، ومشاركتهم في آلام المنكوبين، ولكن ذلك لا يمكن أن يغيّر شيئاً من واقع الحال. أما تعزية الرب فهي التعزية القادرة أن تمدّنا بالقوّة، وتؤيدنا بالنصر على مشاعرنا الحزينة التي تفضي بنا أحياناً إلى الاعتكاف في محاريب الشفقة على الذات. وفوق ذلك إن تعزية الرب تجعلنا نرفع أعيننا إلى الجبال من حيث يأتي عوننا، لأن عزاء الرب ينتشلنا ويرفعنا إلى صخرة عالية لا تطالها أو تؤثر فيها عوادي الأيام. من المؤسف حقاً أن كثيراً من المؤمنين في إبان مصائبهم يغفلون أن الرب هو وحده عزاؤهم الوحيد.

ثانياً: حاجتنا إلى التعزية

حاجتنا إلى التعزية تكون دائماً عندما تحدق بنا كوارث هذه الدنيا، ولا سيما في الظروف القاسية التي نفقد فيها حبيباً، أو نبتلي بمرض عضال، أو تضربنا الزلازل، أو تكتسح بيوتنا الأعاصير، إلخ... بمعنى آخر، في أيام الضيق ومن جملتها الاضطهادات، عندئذ نحتاج إلى تعزية الرب، أو كما قال الرسول في رسالته: "إِلهُ كُلِّ تَعْزِيَةٍ، الَّذِي يُعَزِّينَا فِي كُلِّ ضِيقَتِنَا". إننا لا نحتاج إلى التعزية في أفراحنا ومسراتنا، ولكن في زمن الضيق عندما تلمّ بنا المشكلات التي نعجز عن دفعها، نجد أنفسنا في أشدّ الحاجة إلى سندٍ أو قوّة تثبِّت أقدامنا فلا يجتاحنا موجها العنيف. هذه التعزية لا بدّ منها. ولا بدّ لنا أن نطلبها من الرب لأننا نصبح في موقف لا نجاة لنا منه. ماذا يمكننا أن نفعل عندما نقف وجهاً لوجه أمام الموت مثلاً؟ وأي شيء نستطيع أن نقوم به عندما تنتابنا الاضطهادات، وتهاجمنا جحافل الظلام الرهيب؟ في مثل هذه الأحوال تعوزنا التعزية الإلهية التي هي قادرة أن تثبّت قلوبنا، وتنهضنا من كبوتنا، وتغدق علينا التشجيع الذي نحن في أشدّ الحاجة إليه في تلك اللحظات الحرجة. غير أن من شأن هذه الضيقات أن تقوّينا عندما نرى تعزيات الرب، ومدى عنايته بنا. والواقع إن لفظة تعزية، كما يقول تاسكر، تشمل في اللغة اليونانية التعزية والتشجيع. ثم إن التعزية الإلهية هذه تملأنا بالسلام الذي تحدّث عنه المسيح عندما قال: "سَلاَمًا أَتْرُكُ لَكُمْ. سَلاَمِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا". فمن هنا، إن هذه التعزية التي يسكبها الرب في قلوبنا تغمرنا بالسلام الذي لا تستطيع كل تعزيات العالم أن تقدّمه لنا.

ثالثاً: مقوّم إيجابي

هناك مقوّم إيجابي في تعزية الرب لنا. إننا بمثل هذه التعزية نتخطّى حدود ذواتنا لأننا قد اختبرنا عمل نعمة الله في حياتنا وعرفنا أن ثقتنا هي فقط بالمسيح. هذا اليقين يسعفنا أن نمدّ يد العون للآخرين الذين يقاسون من التجارب والضيقات. وكما قال أحدهم: "والتعزية هي دائماً شخصية لكنها تمكّن الذي يختبرها من الدخول بدوره إلى آلام الآخرين والتعبير عن المشاركة الحقيقية معهم". فكما نحن قد تقوّينا واختبرنا وتباركنا بتعزية الرب، أصبح في قدرتنا أن نمدّ يد المعونة للمعذّبين، ونبدي تعاطفنا معهم، هذا التعاطف الذي مصدره الله وحده. إنه امتياز لنا أن نشترك في آلام الآخرين ونجنّد أنفسنا في إعانتهم في أثناء صراعهم مع متاعب الحياة. ولكن ليس في وسعنا أن نسعف هؤلاء المتضايقين بفعالية إن لم نكن قد مررنا في بوتقة الضيقات ونلنا تعزيات الرب أولاً. من الجليّ أن تحمّلنا لآلام هذا الدهر ونموّنا بتعزيات الرب هما أعظم شهادة على عمل الرب فينا. إن خطوط المواصلات بيننا وبين الرب يمكنها أن تمتدّ إلى حياة الآخرين، إذ يرون فينا النتائج الباهرة الناجمة عن تعزيات الرب لنا. ولا ريب أن هذه التعزيات هي متوافرة لجميع المؤمنين الذين ألقوا ثقتهم على الله. في رسالته الثانية إلى أهل تسالونيكي 16:2-17 يقول بولس الرسول:

"وَرَبُّنَا نَفْسُهُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ، وَاللهُ أَبُونَا الَّذِي أَحَبَّنَا وَأَعْطَانَا عَزَاءً أَبَدِيًّا وَرَجَاءً صَالِحًا بِالنِّعْمَةِ، يُعَزِّي قُلُوبَكُمْ وَيُثَبِّتُكُمْ فِي كُلِّ كَلاَمٍ وَعَمَل صَالِحٍ".

وهكذا، يا قارئي العزيز، نجد أن في تعزية الرب تتوافر القوة، والتشجيع، والثبات، والسلام، والثقة التي لنا فيه مما يساعدنا على مشاركة الآخرين في ضيقاتهم، والوقوف إلى جانبهم لا كمعزين متعبين بل كمن اختبر عزاء الرب وشهد فعاليته، وتمتّع بنتائجه المدهشة.

هذه هي التعزية الحقيقية التي يجب دائماً أن نسعى إليها.

المجموعة: 200903