نيسان April 2005

اكسر قارورة الطيب، أي قم بعمل غير عادي. نجد في حياة الإيمان صنفين من المؤمنين: صنفاً عادياً وآخر غير عادي، لكنه طبيعي.

نرى في هذه الحادثة، أن يسوع وتلاميذه جاءوا إلى بيت عنيا إلى بيت سمعان الأبرص، حيث توافد جمع كثير. أكلوا وشربوا، وربما رنموا وصلّوا، وكان اجتماعاً روحياً إلى حد كبير، كما أبدى يسوع الذي حظيَ وجوده باحترام الجميع، اهتماماً بحياة الإيمان والفقراء، لكن بين كل هؤلاء برز شخص غير عادي، قام بعمل غير عادي.

 

يزخر الكتاب المقدس بأناسٍ غير عاديين أتوا أعمالاً غير عادية، نأتي على ذكر بعض منهم:

 الرسول بولس: كان إنساناً غير عادي. فبعد أن حصلت الزلزلة في سجن فيلبي واستلّ السجان سيفه ليقتل نفسه، "نادى بولسُ بصوت عظيم قائلاً لا تفعل بنفسك شيئاً ردياً لأن جميعنا ههنا" (أعمال 28:16). ربما لم يكن في نيّة السّجناء الآخرين أن يوقفوه عن قتل نفسه، ولا سيما أنهم لا يستطيعون الانتقام منه وقتله، فليقتل نفسه. هذا الكلام عادي لشخص عادي، أما الرسول بولس فأشفق عليه وأراد خلاصه.

موسى كان إنساناً غير عادي، وهكذا شهد الله عنه عندما وبّخ مريم وهرون، اللذين تكلّما عليه، بقوله تعالى: "إن كان منكم نبي للرب فبالرؤيا أستعلن له، في الحلم أكلّمه. أما عبدي موسى فليس هكذا... فماً إلى فم وعياناً أتكلم معه" (عدد 6:12-8). وقد برهن موسى فعلاً عن هذه الشخصية غير العادية عندما صلّى لأجل أخته التي تكلمت عليه فضُربَت بالبرص: "فصرخ موسى إلى الرب قائلاً اللهم اشفها" (عدد 13:12).

قدّم الله شهادة عن ثلاثة أشخاص مميَّزين، نوح وأيوب ودانيال، الذين وجدوا مقاماً خاصاً أمام الله. ويوحنا المعمدان الذي مدحه المسيح بقوله: "الحق أقول لكم لم يَقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان" (متى 11:11).

نحن اليوم في زمن الانحلال، زمن الرخاوة والميوعة، زمن العيش بحسب تقلبات الظروف والمزاج، بدل التمسك بالمواقف الكتابية الصلبة. هنالك درجات للإيمان، درجة أولى، وثانية، وثالثة، ودرجة تفوّق بامتياز عالٍ، وهذا هو الوضع الطبيعي للمؤمن. فالإيمان الطبيعي هو أن نكون مثل هؤلاء الأشخاص غير العاديين الذين قاموا بأعمال غير عادية.

إنّ المؤمن العادي يقوم بأعمال عادية ليس لها أي وقع أو تأثير، ولا تدخل في التاريخ المسيحي. بينما المؤمن غير العادي يقوم بأعمال غير عادية، فيسجّل الانتصارات ويسطّر الفتوحات فيخطّ له التاريخ المسيحي ما أنجزه لحساب المسيح.

إنّ المؤمن العادي يسكب قليلاً من الطيب إمّا على رأس يسوع وإمّا على قدميه، أي مثل بقية الناس وكما يفعل العالم. وهل نرضى بأن نفعل كما يفعل العالم؟ هل نقبل أن ننحدر إلى مستوى هذا العالم الذي تدنّى إلى ما دون الصفر؟

لام الرب قديماً من استخفوا بالأمور الروحية، بقوله: "وجئتم بالمغتصب والأعرج والسقيم فأتيتم بالتقدمة. فهل أقبلها من يدكم قال الرب؟ وملعون الماكر الذي يوجد في قطيعه ذكر، وينذر ويذبح للسيد عائباً. لأني أنا ملك عظيم قال رب الجنود واسمي مهيب بين الأمم"
(ملاخي 13:1و14).

أما حان الوقت حتى نكسر القارورة؟ نعرف كثيراً، لكن، أما حان وقت العمل والتنفيذ؟ نعرف أنّ كَسْر القارورة أفضل من السكب منها.. ولكن، متى نقوم ونكسرها كما فعلت مريم أخت لعازر؟

"طيب ناردين خالص كثير الثمن" كما يشهد الكتاب، وربما كان هذا الشيء الوحيد الثمين الذي تملكه مريم؛ لكنها كسرت القارورة وسكبت الطيب بأكمله. قامت بعمل المحبة هذا بكل فرح وتعقل ووعي ومن دون ندامة. لم يكن عملاً ارتجالياً، أو حماساً مؤقتاً، أو ردة فعل متسرعة، لكنها قامت بعملها بعد أن فكّرت ملياً ووجدت أن هذا أقل ما يجب أن يُعمل، فكسرت القارورة وسكبت الطيب. كان هذا عمل محبة صافية نقية تقدِّر المسيح وعمل المسيح ومحبة المسيح ونعمة المسيح وعطاء المسيح.

لعازر كان أحد المتكئين (يوحنا 2:12)، وهل تنسى مريم من كفكف دموعها وأعاد إليها أخاها حياً وحوّل المأتم إلى عرس؟ أعاد الفرحة إلى القلب والبهجة إلى البيت. أحب هذه العائلة بمن فيهم مريم (يوحنا 5:11) وقدَّم كل ما عنده. ومريم بدورها ستحبه وتقدِّم له كل ما عندها.

المحبة النقية والصحيحة والسليمة والمقدسة هي محبة متبادلة بيننا وبين المسيح، وإلاّ أصبحت محبة نفعية.

هل العبادة أن نرنم ونسجد ونقترب إلى الله ونكوّن شركة بيننا وبينه؟ هل نصلّي: يا رب باركني واحفظني وسر بوجهك أمامي وأعطني حاجاتي؟ أما زلنا في دائرة الأخذ؟ هذه ليست العبادة المطلوبة، بل العبادة الصحيحة تبغي العطاء بدل الأخذ: "أطلب إليكم برأفة الله أن تقدِّموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله عبادتكم العقلية" (رومية 1:12).

انكسرت القارورة وفاحت رائحة الطيب وامتلأ الجو من روح العبادة. إنها العبادة الصحيحة اللائقة بإلهنا العظيم والقدير والمهوب. وماذا كانت ردة فعل الناس؟ إنه عمل حماقة وتسرّع وتبذير. هكذا يُسيء الناس فهم كسر القارورة، أي الحياة غير العادية. فالمؤمن العادي يُسيء فهم المؤمن غير العادي، والناس الذين يقومون بأعمال عادية يُندّدون بالأعمال غير العادية. إنها حماسة أحمق، كان من الممكن أن يُعمل شيء أفضل، و"أن يباع هذا الطيب بأكثر من ثلاثمئة دينار ويُعطى للفقراء" (مرقس 5:14).

إنه عمل غير منطقي لكنه عمل محبة. ومتى كانت أعمال المحبة الصحيحة الصافية منطقية بالنسبة إلى الحياة المادية والناس الماديين؟ لم تخضع محبة المسيح لنظام المنطق البشري. أين المنطق في أن يُخلي ابن الله نفسه، وينزل إلى عالمنا، ويرتضي أن يحمل شرورنا وخطايانا، وأن يموت بديلاً عنا لكي يرفع عنا الغضب الإلهي، ويُلغي حكم الموت، ويعطينا حياة أبدية.. ونحن خطاة وأعداء وبعيدون ولا نستحق كل هذا العمل؟ إنه عمل محبة، له قانونه ونظامه ودافعه وسموّه.

وعندما يلوم المسيح الكنيسة لنقصان المحبة يقول: "عندي عليك أنك تركت محبتك الأولى" (رؤيا 4:2). بذلك يعني المحبة الصافية التي كانت من نوعية محبة المسيح. "نحن نحبه لأنه هو أحبنا أولاً (1يوحنا 19:4)، أي يجب أن نحبه من النوعية نفسها وعلى المستوى نفسه.. وكل محبة أخرى مرفوضة، وكل عمل خاضع للمنطق البشري ليس على المستوى المطلوب.

المحبة تسبي قلوبنا وتأسر أرادتنا فتغدو تصرفاتنا صادقة وعفوية. فتصرّفات المحبة تلقائية ومدهشة ومثيرة للجدل. أن نسكب من القارورة، عمل عادي وغير مدهش، لكن أن نكسر القارورة، عمل مثير للجدل والدهشة. هذه المحبة يسجلها التاريخ، وتترك آثاراً لا تُنسى ولا تُمحى. إنها فرصة كسر القارورة، وعمل شيء غير عادي، وتقديم محبة خالصة للمسيح. ما أكثر الفرص التي نضيعها.. وهذه الفرص ربما لا تعود. قد يكون الثمن غالياً "ناردين خالص"، لكن المكافأة أغلى.

يقول المسيح من فمه المبارك: "أحسنوا واقرضوا وأنتم لا ترجون شيئاً فيكون أجركم عظيماً" (لوقا 35:6). لم تكن مريم طالبة أجر ولم تفكر في المكافأة، وبما أنّ الرب لم يكن يوماً مديوناً لأحد، فقد مدحها قائلاً: "قد عملت بي عملاً حسناً... حيثما يُكرز بهذا الإنجيل في كل العالم يُخبر أيضاً بما فعلته هذه تذكاراً لها" (مرقس 6:14و9).

ألا يوجد تذكار ليهوذا المعترض على هذا العمل؟ أجل: يهوذا الخائن، "ذكر الصدّيق للبركة واسم الأشرار ينخر"
(أمثال 7:10).

أخيراً، يذكر الكتاب المقدس أيضاً ما فعلت المرأة الخاطئة حين دخلت بيت سمعان الفريسي، إذ قامت بعمل مميَّز بكل محبة وإخلاص. وذلك على مستوى الدرجة التي وصلت إليها في العبادة، فسكبت من القارورة ولم تكسرها. ويا ليتها فعلت. "وقفت عند قدميه من ورائه باكية وابتدأت تبل قدميه بالدموع وكانت تمسحهما بشعر رأسها وتقبل قدميه وتدهنهما بالطيب" (لوقا 38:7).

وتأتي المكافأة: "قد غُفرت خطاياها الكثيرة لأنها أحبت كثيراً" (لوقا 47:7).

لا بد من مقارنة بسيطة بين من يغتنم الفرصة للعطاء وللعبادة، وبين من لا يقتنص الفرص. سمعان الفريسي خسر الفرصة، والمسيح لامه قائلاً: "إني دخلت بيتك وماء لأجل رجليّ لم تعطِ. وأما هي فقد غسلت رجليَّ بالدموع ومسحتهما بشعر رأسها. قبلة لم تقبّلني. وأما هي فمنذ دخلت لم تكفّ عن تقبيل رجليَّ. بزيت لم تدهن رأسي وأما هي فقد دهنت بالطيب رجليّ" (لوقا 44:7-46). خسرْتَ الفرصة يا سمعان الفريسي. أنا بحثت عنك ودخلت بيتك لكنك لم تكرمني.. عواطفك لم تتحرَّك؛ لقد خسرت الفرصة. عندك قارورة طيب، لم تكسرها، حيث إنك لم تسكب منها لتتدرّب على العطاء.

ألديك قارورة؟ إكسرها. أعندك مجال؟ أغتنمه. أعندك محبة؟ عبّر عنها. أعندك فرصة للخدمة؟ أخدم. ما نعمله لغير المسيح لا قيمة له. ما قيمة المياه أو الزيت الذي بقي في بيت الفريسي؟ كل ما نستخدمه خارج نطاق المسيح هو تبذير وإسراف وإتلاف، وكل ما نعمله للمسيح، وحده باقٍ.

المجموعة: نيسان April 2005