نيسان April 2005

يبدأ سفر العبرانيين بالكلمات التالية :

"الله بعد ما كلم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة، كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه الذي جعله وارثاً لكل شيء... وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته بعدما صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا جلس في يمين العظمة في الأعالي صائراً أعظم من الملائكة بمقدار ما ورث اسماً أفضل منهم“.

 

فالمعنى ببساطة أن الله في زمن العهد القديم، زمن التوراة كلم الناس عن طريق الأنبياء، ومن هؤلاء الأنبياء: ابراهيم ويعقوب وموسى، وهرون ويشوع وصموئيل، وداود وسليمان وإشعياء، وإرميا وحزقيال ونحميا، وعزرا ودانيال ويوئيل وملاخي وغيرهم.. فهؤلاء الأنبياء كان الله يكلم الناس من خلالهم، فيحمل النبي الرسالة من الله وينقلها إلى الشعب. ويلاحظ القارىء في أسفار التوراة عبارة تتكرر بلسان الأنبياء تقول: "هكذا قال الرب".

وهي عبارة كان ينطق بها النبي حامل الرسالة لشعبه، أما الوسائل والطرق التي كان الله يستخدمها لإعلان رسالته لأنبيائه فمتنوعة ومتعددة نذكر منها أولاً المعجزات كمعجزات الضربات العشر عن طريق موسى وهرون أخيه التي نزلت على شعب فرعون.  فتلك كانت تحمل رسالة لفرعون ولشعب موسى.  ومنها معجزة شقّ مياه البحر الأحمر بعصا موسى كي يعبر الشعب الهارب من جيش فرعون.

ومنها معجزة المن والسلوى التي كانت تنزل على الشعب وهم تائهون في الصحراء في برية قاحلة ليتغذوا بها طيلة الأربعين سنة التي صرفوها في سينا تائهين.

وأحياناً كان الله يكلمهم بالأحلام كما مع يوسف الصديق في أحلامه المعروفة لدينا.

كما كان الله يكلم البعض بالرؤى المعجزية، فيرى الرائي من الأنبياء ما لا يراه غيره، فتتكشف له أسرار ما وراء الأفق المنظور.. كما في رؤى سفرَي دانيال وحزقيال المدوَّنة في التوراة.. أو كما مع يعقوب أبي الأسباط في رؤيا السلم التي رآها منصوبةً بين السماء والأرض، حين كان هارباً من وجه عيسو أخيه، فطمأنته الرؤيا بأن الله معه، يحميه ويهتم به.

وأحياناً كان الله يخاطب أنبياءه بالصوت المباشر المسموع دون وسيط من أحد بين النبي وربه، كما مع موسى النبي، ولذلك سُمِّيَ موسى بكليم الله، لأن الله كان يكلمه وجهاً لوجه من وراء سحابة من المجد والنور، دون أن يتوسَّط بينه وبين الله أحد، وهذا امتياز لم يحظَ به غيره.

وأحياناً، كان الله يكلم البعض عن طريق ملاكٍ مرسلٍ من الله يحمل رسالةً لنبيٍ أو لملكٍ أو لمسئولٍ في الشعب، أو حتى لفردٍ من الأمة يُحَمِّلُه مسئوليةً أو يعلن له إعلاناً، كما حصل مع العذراء المباركة مريم حين وقف بها ملاك وبشَّرها أنها ستكون أُمّاً للمسيح المنتظر، وهي عذراء دون أن يدانيها رجل.

وكان الله يكلم البعض أحياناً عن طريق حدثٍ أو منظر يجذب الانتباه، كما في أمر العليقة في البرية التي كانت تشتعل فيها النار ولا تحترق، وكان موسى حينها يرعى أغنام يثرون في البرية هرباً من فرعون، فلاحظ موسى المشهد، وتعجب كيف أنّ اللهيب في الشجرة والشجرة لا تحترق.  وما أن اقترب منها ليتحقَّق الأمر وإذ بصوت الله يناديه من وسط اللهيب. وعندها حمَّله الله مسئولية تحرير شعبه من عبودية فرعون وكلَّفه بالنبوة واختار له هرون أخاه مساعداً.

طرق عديدة ومتنوعة كان الله يعبِّر فيها عن إرادته ويعرِّف بمشيئته لمن شاء.

وهذا ما أشارت إليه افتتاحية سفر العبرانيين بأن الله في زمن التوراة، في العهد القديم كان يكلِّم الناس عن طريق الأنبياء بطرق ووسائل متنوعة تنقل الخبر لمن شاء..  ولكن هناك منعطف آخر في هذه الآية دعونا نلاحظه:

"الله بعد ما كلَّم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرقٍ كثيرة، كلمنا في هذه الأيام الأخيرة [أي في أيام ما بعد عهد التوراة] في ابنه [أي المسيح]".. فالمسيح صار هو رسالة الله لشعوب الأرض..

لكن لماذا يقول عنه ابنه؟. وهل لله أولاداً؟.. وهل ينجب الله أبناءاً؟.. أسئلة تمرّ في أذهان من لا يعلمون حقيقة هوية المسيح من هو.

لكن دعني أقولها، عزيزي القارئ، بصراحة لا لبس فيها، وهي أن كل المسيحيين في العالم من يوم المسيح حتى اليوم ليس بينهم واحد يؤمن أن الله يلد أولاداً أو ينجب البنين أو يعشق امرأة أو يتزوج. فمن السخف أن تراود مثل هذه الفكرة أحداً. ولماذا نذهب بعيداً، فأنت عندما تقول عن صديقك المصري: هذا ابن النيل. فالمصري قد يعتز بهذا ويبتسم لكن السؤال: هل تزوج النيل وولد المصري؟ أو عندما  تقول: هذا البدوي ابن الصحراء. فهل تزوجت الصحراء وأنجبت؟.. وأحياناً أنت قد تقول: عين الله تراقبنا، أو يد الله مع الجماعة، أو هذا أصبع الله، أو لا أبتغي إلا وجه الله.

فهل لله عين، ويد، وإصبع، ووجه؟! فها أنت تقول كلماتٍ لا تعنيها حرفياً، وبالمقابل تدين المسيحية بميزان آخر، بل وأحياناً تسخر من معتقداتهم وكأنك أنت عالم زمانه، العارف بكل ما يدور تحت الأفلاك… وأن المسيحيين جهال يكفرون بما لا يعلمون!!

عزيزي..  اعلَمْ أن ما تقوله المسيحية في المسيح هو عين الحق، وسيتَّضح لك الأمر في يوم الأبدية الرهيب. وستندم هناك حين لا ينفع الندم،  فنحن لم نقل شيئاً في المسيح غير ما نطق به الوحي. فإن قبله زيد أو رفضه عمرو فالحقيقة لا تتغير. المسيح ابن الله لأنه جاء من ذات الله ولم يُخْلَق من طينة البشر. وها أنت ترى، فهو جاء، ورجع إلى المقر الذي جاء منه إلى السماء، وسيعود مرة ثانية.  وقد أوضحنا هذا في حلقات سابقة لا متسع لبحثها الآن.

نقول هذا لمن يهمه الأمر بكل ودٍّ واحترام.

نعود لنص الآية: "الله، بعد ما كلم الآباء بالأنبياء قديماً، بأنواع وطرق كثيرة، كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه— الذي جعله وارثاً لكل شيء، الذي به أيضاً عمل العالمين. الذي، وهو بهاء مجده، ورسم جوهره، وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته...“ إذاً، الآن في زمن العهد الجديد لم يعد الله يكلمنا بالأنبياء بل يكلمنا في ابنه في المسيح. فالمسيح هنا صار الرسالة لكل البشرية، ومنه وبه يكلمنا الله. ألم نتّفق جميعنا على رأي واحد بأن المسيح هو كلمة الله؟  ما المقصود بالكلمة؟!

الكلمة تحمل رسالة.. تحمل بلاغاً.. فالمسيح بهذا صار رسالة الله للبشرية، هو رسالة تطرق آذان الشعوب وتتكلم إليهم.  فالسؤال الآن الذي نتركه في مرمى القارئ الكريم: بماذا يكلمنا الله من خلال المسيح؟ وماذا يقول لنا عن نفسه؟

هذا ما سنتناوله في المرة القادمة.

المجموعة: نيسان April 2005