كانون الأول (ديسمبر) 2005

يرتبط النمو المسيحي بمدى عمق العلاقة المتأصلة بين المؤمن والمسيح. وهذه العلاقة تقوم على المعرفة الواعية من ناحية وعلى الإيمان الحقيقي من ناحية أخرى. والواقع أن هناك دوراً بارزاً ينفرد به الله في تطوير هذه العلاقة لكي يكون المؤمن مشابهاً لصورة المسيح. في رسالته إلى أهل رومية 29:8، يقول الرسول بولس:

 

”لأن الذين سبق فعرفهم سبق فعّينهم ليكونوا مشابهين صورة ابنه“.

لقد خلق الله الإنسان على صورته ومثاله لأن الله أراد للإنسان أن يكون مختلفاً عن بقية مخلوقاته السماوية والأرضية، ويحمل في ذاته بعض السِّمات الإلهية. ولكن الخطيئة شوّهت هذه السِّمات، واستعبدت الإنسان، على غير ما استهدفه الله. ولكن إذ جاء المسيح إلى هذا العالم، آخذاً صورة عبد، صائراً في شبه  الناس، فقد رمى أن يسترد تلك الصورة إلى أصالتها التي كانت عليها قبل السقوط. والسبيل الوحيد إلى تحقيق هذه الغاية المقدسة كان في عملية النمو المتواصلة إذ على المؤمن، بل علينا كمؤمنين أن ”ننمو في كل شيء إلى ذاك الذي هو الرأس: المسيح“(أفسس 15:4).

تتطلب عملية النمو هذه تنقية، وتلمذة وتشذيباً. وهي اختبارات تقتضي جهاداً وتكريساً، وخوض امتحانات، وتغلباً على صعوبات، ومواظبة على التعمق بالحياة الروحية، واجتهاداً في السلوك والحياة كما يحق لإنجيل الخلاص، وتمثلاً أميناً بحياة المسيح. عندئذ في نهاية المطاف، نصبح مشابهين صورة ابن الله.

وأود في هذا المقالة الموجزة أن أعلق على ثلاث قضايا أو أساليب يستخدمها الرب لكي يصوغنا في القالب المناسب الذي نجسّد فيه تلك المشابهة المقدسة:

أولاً: يستخدم الله الضيقات ليعلمنا الاتكال عليه

يعلن بولس الرسول، بفعل اختبار شخصي، ”أن الضيق ينشئ صبراً، والصبر تزكية، والتزكية رجاء“ (رومية 3:5-4). ثلاثة مصطلحات لها مغزاها اللاهوتي والقيمي. فالصبر عملية تدريبية لها جذورها في معاملات الله مع الإنسان، ومعاملات الإنسان مع أخيه. فالله صبور، طويل الأناة، كثير الرحمة، وهي خصائص يجب أن تنعكس في حياة المؤمن مما تساعد على نموّه ونضجه  الروحي، وفي معاملاته مع أخيه الإنسان، يعكس فعل التغيير الأخلاقي والقيمي في حياته. ومع  الصبر تأتي التزكية التي هي عربون التنقية من الشوائب. إن مشيئة الله للإنسان أن يكون زكياً مجرداً من أي تلوث أو فساد، وعندما يبلغ المؤمن هذا المستوى الروحي فإنه يفيض بالرجاء القائم على مواعيد المسيح الصادقة.

 

ثانيًا:  يستخدم الرب التجارب ليعلمنا الطاعة

عندما نتعرض للتجارب علينا أن نتحرّى فيها الدروس البليغة التي من شأنها أن تثبتنا على رجاء الإيمان ”لأن خفة ضيقتنا الوقتية تنشئ لنا أكثر فأكثر ثقل مجد أبدياً“ (2كورنثوس 17:4). فالتجارب هي امتحان لا بُدّ منه، ويكون الفوز الحقيقي بل النجاح المتفوّق في عدم الاستسلام لها والانهيار تحت وقعها. التجارب هي جزء من المسيرة الروحية وعلينا أن نواجهها بشجاعة ثقة منّا بأننا لسنا وحدنا في خضم المعركة. في لحظات الصراع الدموية يستوجب علينا أن نركّز على معاملات الرب معنا، ونواجه التحديات بقلوب جريئة لأننا،  وإن سرنا في وادي ظل الموت لا نخاف شراً لأن الله معنا. نحن لا  نستطيع أن نهزم الشيطان بقوانا الذاتية، ولكننا عندما لا نسمح للتجارب أن تستأثر بنا، ونركز أنظارنا على المسيح، نتغلب آنئذٍ عليها إذ تفقد تأثيرها علينا. إننا نترك للمسيح أن يتعامل مع تجاربنا ويقهرها.

عندما أقدم الشيطان على تجربة المسيح في البرية (متى 1:4) لم ينشغل المسيح بالتجربة ذاتها بل قهرها بالكلمة المكتوبة قائلاً: ”للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد“ (متى 10:4). لقد عبّر المسيح في هذا الاقتباس من العهد القديم عن الطاعة الكاملة. ألم يكن هذا أيضاً موقف أيوب في معترك محنته وآلامه؟ قد تكون نصيحة بولس إلى أهل فيلبي خير تعبير عن موقف المؤمن في أثناء التجربة. ”أيها الإخوة كل ما هو حق، كل ما هو جليل، كل ما هو عادل، كل ما هو طاهر، كل ما هو مسرٌ، كل ما هو صيته حسن إن كانت فضيلة، وإن كان مدح ففي هذا افتكروا“ (فيلبي 8:4).

إن التفكير بمثل هذه  الأمور يسمو بنفوسنا فوق المحن، ويجعلنا نعيش في جوّ روحي تتصاغر فيه التجارب أمام هذه الفضائل الروحية التي هي من ثمار الإيمان والقلب المكرس لله، وبذلك نتدرّب على الطاعة الكاملة لله.

 

ثالثاً:  يستخدم الله الاضطهادات ليعلمنا المسامحة

إن أبرز صورة جسّدها التاريخ على ”فعل“ المسامحة هو موقف المسيح من أعدائه على الصليب. في لحظات الأزمات الرهيبة التي تعرض فيها فادي البشرية للإهانة، والبصق، والشتيمة، والسخرية، والضرب، والجلد، ثم التعليق على خشبة الصليب، وهو البريء من كل ذنب، هتف بصوت مفعم بالمحبة والغفران قائلاً:

إغفر لهم يا أبتاه لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون (لوقا 34:23). لقد أصبحت هذه الصرخة الداوية التي تردد صداها عبر التاريخ أروع رمزٍ لعمل المحبة في القلب الإلهي. إنها نبع فياض بالمسامحة والخيرات لها أبعادها التي لا تستقصى، فلا عجب، إن حث صاحب هذا الموقف الذي لا نظير له، أتباعه على محبة الأعداء، والصلاة من أجلهم، بل طلب البركة لهم. لقد طبّق القول على الفعل، فأي درس بليغ نتعلمه نحن، المؤمنين، في المسامحة؟ لقد سما المسيح فوق عواطفه الشخصية وتفجر قلبه بالمحبة، وصفح عن قاتليه.

أدرك بولس الرسول هذه الحقيقة العجيبة فكتب في رسالته إلى أهل أفسس 32:4: وكونوا... متسامحين كما سامحكم الله أيضاً في المسيح.

إن من امتلأ بمحبة المسيح لا يمكن أن يكون في محبته إلاّ مثل المسيح، لأن المحبة ذاتها التي انبثقت من قلبه الطاهر قد غمرت أيضاً قلوب المؤمنين. يتعذّر على غير المؤمنين أن يدركوا جوهر هذه المحبة التي تفيض مسامحة لأنهم لم يختبروها.

تأملوا بما قاله يوسف لأخوته الذين همّوا بقتله ثم باعوه للمصريين، فما كان من الله إلاّ أن بدل وضعه السيئ، ورفع من مقامه، وجعله متولياً لشؤون مصر بعد فرعون:

”أنتم قصدتم لي شراً، أما الله فقصد بي خيراً، لكي يفعل كما اليوم، ليحيي شعباً كثيراً“ (تكوين 20:50).

يا قارئي العزيز، إن الله هو مالك زمام أمور الحياة، وهو يستخدم ظروفنا وما نتعرّض له من ضيقات وصعوبات وتجارب لكي يصوغنا صياغة مقدسة نصير فيها مشابهين صورة ابنه فيرى الناس المسيح فينا.

فيا له من امتياز! ويا لها من مكافأة!

المجموعة: كانون الأول December 2005