شباط February 2005

في مستهل خدمة الرب يسوع الرسميّة التي انطلقت من الجليل، قام الرب يسوع بزيارة الهيكل في أورشليم. كان الهيكل مكاناً قد زاره مراراً وتكراراً، وربما كل سنة برفقة والديه (لوقا 41:2). لكن يسوع، عندما زاره هذه المرة، أراد أن يبيِّن أهمية الهيكل في حياة العابد. بالنسبة ليسوع، الهيكل هو "بيت أبي"، و"بيت الصلاة"، لذلك كان له الحق الكامل والشرعي في الوجود والتصرّف هناك.

 

بالنسبة لليهودي، كان الهيكل أهم أمكنة الزيارة. وفي مناسبات الأعياد، خاصة عيد الفصح عند اليهود، كانت أعداد غفيرة من الزائرين المتعبدين تئم الهيكل. هذه الأعداد الغفيرة من الزوار بعثت في نفوس بعض التجار جشعاً كبيراً للحصول على أرباح مادية طائلة في هذه الأجواء التعبدية. لكن وجودهم الهائل هناك سبَّب انحرافاً كبيراً في أجواء العبادة مما جعل الأذهان تنشغل بالأمور المادية فقط بدلاً من الروحية. لقد سيطر هؤلاء التجار بكل معنى الكلمة على ساحات الهيكل دونما رادع أو مانع.

ولما جاء يسوع إلى الهيكل لاحظ بكل تدقيق أن هؤلاء القوم قد جعلوا الهيكل سوقاً تجارياً بدل أن يكون مركزاً للعبادة. صار سوقاً لبيع جميع أنواع الذبائح وتبديل العملات الأجنبية، طبعاً بحجة تسهيل خدمة العابدين. فامتلأت الساحات المرمرية النظيفة بأعداد كبيرة من المواشي. زد على ذلك أن روائح الحيوانات وصراخ الباعة قد طغت على المكان. هذه الأجواء التجارية أفسدت أجواء العبادة.

أين العبادة يا قوم؟ أين أجواء الصلاة والتسبيح؟ أين الأحاديث الروحية؟ أين أجواء الخشوع والتأمل في عظمة الله ومحبته؟ لقد سلبتها أجواء التجارة وصفقات البيع.

جاء "صاحب البيت" ليتفقَّد "بيت أبيه، فإذا هو مكان محتل. هذا غير مقبول وغير لائق إطلاقاً. فباشر فوراً إظهار سلطانه في الهيكل.. صنع سوطاً - لأن الأمر يحتاج إلى استعمال نوع من القوة والشدة - وأخذ يطرد الحيوانات إلى الخارج، وأرسل باعة الحمام بعيداً، وقلّب طاولات الصيارفة معلناً السبب وراء كل ذلك، "لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة" (يوحنا 16:2).

من المفيد تسجيل ملاحظة هامة هنا. إن الله يتدخل شخصياً عندما تطغى أجواء الشر وتتعطل جهود الأبرار.

دور الهيكل في حياة العابد

 للهيكل دور مهم في حياة العابد اليهودي. تاريخياً، أقيم الهيكل كبديل "لخيمة الاجتماع" التي أوحى بها الله إلى موسى لتكون مركزاً للعبادة. وحسب التسمية فإن "خيمة الاجتماع" هي المكان الذي يجتمع به الله مع شعبه. هنا نرى أن الهيكل هو:

أولاً: المكان الوحيد المسموح أن تقدم فيه الذبائح المقدسة لله.

ثانياً: المكان الوحيد الذي أراد الله أن يتكلم فيه إلى رئيس الكهنة (خروج 25).

ثالثاً: المكان الوحيد الذي يتمثـَّل فيه حضور الله الدائم وسط شعبه.

رابعاً: المكان الأقدس للعبادة والصلاة وتقديم الطلبات لله.

خامساً: المكان الوحيد الذي أعلن الله أنه سيسمع منه التضرعات الملحة.

كل هذا ولّد دافعاً كبيراً على العابد الحقيقي ليزور الهيكل، مرة واحدة على الأقل كل سنة. ذلك ليعبّر عن ولائه إلى الله، وليكفّر عن خطاياه، أو ليقدم ذبائح الشكر والسلامة.

لم يقلّل يسوع من أهمية الهيكل رغم الممارسات المغلوطة التي كان يمارسها بعض الرؤساء، لأن الخطأ ليس في الهيكل بل في النفوس. فمن على منبر الهيكل، تُلقى العظات الكبيرة والتوجيهات الروحية. وقد ألقى يسوع عدة عظات، ووجّه عدة تعاليم من ضمن الهيكل. إذن كان من الضروري أن يقوم يسوع بعملية تنظيف الهيكل من التجار. وقد اضطر مرة ثانية أن يقوم بنفس العملية، قبل الصلب، مؤكداً تصميمه على تصحيح الخطأ الحاصل.

كان الهيكل مكاناً جميلاً محبباً للعابد المخلص، حتى أن بعض التسابيح والمزامير تعبر عن ذلك كما جاء في بعضها: "ما أحلى مساكنك يا رب الجنود... اخترت الوقوف على العتبة في بيت إلهي على السكن في خيام الأشرار"، "الرب في هيكل قدسه فاسجدي قدامه يا كل الأرض".

الهيكل الجديد

بعدما أنجز يسوع تنظيف الهيكل واجهه رؤساء اليهود مستفسرين عن مصدر سلطانه الذي قام به دون إذن منهم. قالوا: "بأي سلطان تفعل هذا؟" أجابهم له المجد: "انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه" (يوحنا 19:2).

بهذا الإعلان أظهر يسوع مفهوماً جديداً للهيكل، ألا وهو جسده. فلا التلاميذ، ولا رؤساء اليهود أدركوا حينئذ هذا المبدأ. لذلك أوضح البشير يوحنا في إنجيله قائلاً: "فلما قام يسوع من الأموات تذكر تلاميذه أنه قال هذا فآمنوا بالكتاب وبالكلام الذي قاله يسوع" (يوحنا 22:2). إذن بعد القيامة أدرك التلاميذ هذا المبدأ. فيسوع هو الهيكل الحقيقي، وهو حجر الزاوية، وهو البناء بأكمله.

أساء اليهود فهم كلمات يسوع هذه، حتى أنهم اعتبروا هذا الكلام وكأنه موجّه ضد مبنى الهيكل. فعندما أمسكوا يسوع ليصلبوه أخذوا يبحثون عن تهمة يوجهونها له تستحق الموت، فقام شاهدا زور قائلين: "هذا قال إني أقدر أن أنقض هيكل الله وفي ثلاثة أيام أبنيه" (متى 61:26). هنا التزوير واضح لكلام المسيح، فهو لم يقل "أنقض هيكل الله" بل قال "هذا الهيكل"، مشيراً إلى جسده. ولم يقل كلمة "أبنيه"، بل "أقيمه". والمعيِّرون عند الصليب رددواً نفس ذلك الكلام: "يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام خلص نفسك"
(متى 40:27). لقد تنبأ يسوع عن خراب الهيكل الحجري، وهكذا صار، لكن هيكل جسده قام من الموت وهو قائم إلى الأبد.

الإنسان الجديد والهيكل

عندما التقى يسوع بالسامرية على بئر يعقوب، أرادت أن تتحدى معرفته إن كان بإمكانه أن يحلّ إحدى الخلافات الكبيرة بين اليهود والسامريين، ألا وهو مكان العبادة الأصح. "آباؤنا سجدوا في هذا الجبل، وأنتم تقولون إن في أورشليم الموضع (أو الهيكل) الذي ينبغي أن يُسجد فيه" (يوحنا 20:4). فكان الجواب حلا لجدال عقيم. قال لها يسوع: "يا امرأة صدقيني إنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب" (يوحنا 21:4). نعم، قد أتت فعلاً تلك الساعة بعد حلول الروح القدس على التلاميذ، فالهيكل المطلوب لم يعد البناء الحجري، بل جسد كل مؤمن في المسيح.

نرى أن الروح القدس قد أيّد هذا المبدأ على فم الرسول بولس. يجب أن يكون الهيكل مقدساً مكرساً نظيفاً، لكن هذا الهيكل هو جسد المؤمن. قال الرسول بولس لأهل كورنثوس: "ألستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس" (1كو 19:6). وقد ردد لهم هذا المبدأ في رسالته الثانية لهم. والترديد طبعاً هو بمعنى التشديد. "أية موافقة لهيكل الله مع الأوثان. فإنكم أنتم هيكل الله الحي كما قال إني سأسكن فيهم وأسير بينهم وأكون لهم إلهاً وهم يكونون لي شعباً" (2كورنثوس 16:6). ففي العهد الجديد أصبح الهيكل هو جسد المؤمن. إن المؤمن بقلبه وقالبه، روحاً وجسداً هو مسكن مقدس لله.

المجموعة: شباط February 2005