أذار March 2005

الفخّاري هو صاحب الطين، وهو يصوغ منا أوعية كما يتصوّر وكما يريد. وموقف الجبلة تجاه الإله العظيم القدير هو التسليم والخضوع. ولكن ثمة نقطة هامة في هذا الموضوع وهي الرُّكون إلى محبة الفخّاري.

 

الفخّاري يصنع أوعية. والله يتعامل معنا معاملات متعددة ويصوّر أوعية متنوعة؛ لكننا لسنا في مصنع. ليس العمل آلياً: ماكينات تعمل، ودولاب يدور، ومصنع يُنتج أوعية متنوعة. ليس العمل بهذا الشكل، لكن هنالك صلة بين الطين وبين الفخّاري. يد الله تعمل بمحبة، والطين يستسلم بمحبة، وهذا الوعاء هو إنتاج المحبة، وإلا ما معنى هذا التعب، وما معنى هذا العرق وهذا الشغل وهذا الاستسلام؟ إن لم تكن علاقتنا بالله وعلاقة الله بنا علاقة محبة، فإن أموراً كثيرة في حياتنا لا تتّخذ مجراها الطبيعي. يصبح الله مجرد خالق ومتسلط ونحن مجرد مخلوقات جامدة نفعية يعمل الله فينا ما يشاء.

ما كان هذا يوماً قصد الله لنا، ولم تكن هذه غاية الخلق. فالله أراد أن تكون بينه وبين الإنسان شركة في التفكير وفي التخطيط، في جو لقاء دافئ مفعم حناناً ومحبة. يطبع الله صورته في الإنسان، يعمل وعاء آخر "كما حسن في عينيه". قبيل الصلب اشتهى الرب أن يكون في شركة حميمة مع تلاميذه معبّراً عن ذلك بقوله: "شهوة اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم" (لوقا 15:22). هذا يعطيني دفعة جديدة عندما أراكم بجانبي وأمامي. "ها أنا والأولاد الذين أعطانيهم الله" (عبرانيين 13:2).

كم مرة نقرأ أن يسوع تحنّن إذ رأى الجموع منطرحين كخراف لا راعي لها. يحتاجون إلى طعام المسيح وحنانه ومحبته. جاء يسوع لكي يقدم حاجة الخراف، ولكي يكون لها راعياً صالحاً، ولكي "يجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد" (يوحنا 52:11). "ولي خراف أخر ليست من هذه الحظيرة ينبغي أن آتي بتلك أيضاً فتسمع صوتي وتكون رعية واحدة وراعٍ واحد" (يوحنا 16:10). قلبه مليء محبة وحناناً. بكى يسوع عند قبر لعازر وذلك ليس عن عجز أو ضعف أو فشل، بل بكى لأن قلبه من الداخل تحرك. رأى مريم تبكي ومرثا تبكي، الأحباء يبكون ويذرفون الدموع، فبكى يسوع. نسكب دمعة فيسكب دمعتين معنا. الذي تحبه مريض والذي تحبه مات، فبكى يسوع.

عندما رأى أرملة نايين تبكي وحيدها، قال لها: "لا تبكي" (لوقا 13:7)، لا أستطيع أن أرى مشهداً كهذا، أُمَّاً تبكي وحيدها، قلبك المجروح جرح قلبي. ولمس النعش وأقام الميت فدفعه إلى أمه وكفكف الدموع. ليس أكذب من الإنسان إلا الشيطان، الذي يصوّر لنا أن علاقتنا بالله علاقة ميكانيكية جافة. هكذا تصوّر قائد المئة الوضع قديماً فأرسل إلى يسوع يقول: "قل كلمة فيبرأ غلامي. لأني أنا أيضاً إنسان مرتّب تحت سلطان. لي جند تحت يدي. وأقول لهذا أذهب فيذهب ولآخر ائتِ فيأتي" (لوقا 7:7و8). وكأني بيسوع يقول له: إنّ الدافع لتحركاتك سلطان عسكري أمّا الدافع لقولي فهو قلب مكسور. وشتان ما بين الاثنين. تغنّى إشعياء قديماً بهذه المراحم فقال: "في كل ضيقهم تضايق وملاك حضرته خلّصهم. بمحبته ورأفته هو فكّهم ورفعهم وحملهم كل الأيام القديمة" (إشعياء 9:63).

لقد صدّ التلاميذ المرأة الكنعانية بقولهم: "اصرفها لأنها تصيح وراءنا" (متى 23:15)، أما يسوع الذي أتى لكي يوزّع رحمة ومحبة، قال لها: "ليكن لك كما تريدين" (متى 28:15).

إنّ الصليب بالنسبة إلينا هو عمل مصالحة مع الله، أمّا بالنسبة إلى يسوع فهو فعل محبة. "ليس لأحد حبٌ أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه" (يوحنا 13:15). "وهو مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا تأديب سلامنا عليه وبحبره شفينا.. ظُلم أما هو فتذلّل ولم يفتح فاه كشاة تُساق إلى الذبح وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يفتح فاه"
(إشعياء 5:53و7). ذُبح لكي يرفع عنا حكم الدينونة ولكي يؤمّن لنا حياة أبدية. جعل نفسه ذبيحة إثم لكي "يرى نسلاً تطول أيامه" (إشعيا 10:53). "عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد" (1تيموثاوس 16:3). ظهر لكي يعيد لنا الشركة مع الله ويؤمّن لنا علاقة حميمة بشخصه. ما هي العلاقة بين الفخّاري والطين؟ إنها علاقة محبة، علاقة حنان وشفقة. لم يشفق على ابنه لكن أشفق علينا. "ولكن الذي وُضع قليلاً عن الملائكة يسوع نراه مكلّلاً بالمجد والكرامة من أجل ألم الموت لكي يذوق بنعمة الله الموت لأجل كل واحد" (عبرانيين 9:2)، كي لا نذوق نحن طعم الموت إلى أبد الآبدين ودهر الداهرين.

هل نشكُّ في هذه المحبة؟ هل من أمور تقدر أن تفصلنا عن عمق هذه المحبة؟ لننظر إلى الصليب ونرَ ذروة العطاء الإلهي فنرتوي من معين المحبة المتدفّق أبداً. هذا النبعٍ الذي تجاوز كل العقبات وقفر فوق كل الصعوبات، فدفع الثمنٍ غالياً وغالياً جداً. تنازل وأخلى نفسه وصار عبداً وحُوكم وظُلم واتُّهم زوراً وضُرب وجُلد ثم ارتفع على الصليب قاهراً كل الأعداء. أصبح بمقدورنا أن نضم أصواتنا، وبكل ثقة، إلى الرسول بولس حين قال: "إني متيقن أنه لا موت ولا حياة ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوّات ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة، ولا عُلوَ ولا عمق ولا خليقة أخرى تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا" (رومية 38:8و39).

ما يعمله الله فينا هو عمل المحبة. هو يعمل لخيرنا الروحي ومرات كثيرة على حساب خيرنا الجسدي. نحن غالباً ما نتطلع من خلال المنظار المادي فنسأل: كيف صحتك، كيف شغلك، كيف الأولاد؟ وقلما نسأل كيف صحتك الروحية، ومحبتك للرب، أو نسأل عن سير الخدمة والإنتاج، وعن معاملات الرب وتحركاته فينا وفي الكنيسة. فالله يعمل لأجل خيرنا الروحي، لذا فإنّ حساباته غير حساباتنا. "لا تقولوا فتنة لكل ما يقول له هذا الشعب فتنة" (إشعياء 12:8). إن أفكارنا، وكلامنا، وحساباتنا، وأهدافنا، ونظرتنا إلى الأمور تختلف عن المنظور الإلهي. ولكن عندما نكون في يد الرب نصبح في دائرة محبته. لذلك نثق بحكمته وصلاحه في كل ما يحدث لنا. إلهنا ليس بطاغية ولو أنه متسلط وقدير. ومحبته لا تستبد بالضعيف بل تبقيه في قبضة يده، فلا "تُسلب من الجبار غنيمة" (إشعياء 24:49).

نشكر الله أن إلهنا إله حنون ومحب، هو إله الصليب ونحن أولاد الفداء. فلا ننسَ أننا خرجنا من جنب المسيح. جُبلنا من جديد، جبلة جديدة بدم المسيح. لقد خطّ الله العهد القديم بإصبعه، أما العهد الجديد فقد خطّه بدمه. "كنيسة الله التي اقتناها بدمه" (أعمال28:20). أصبحنا أولاده المدلّلين، المدفوع ثمننا غالياً. لا يريد الرب أذيتنا أو إزعاجنا، إنه "يعمل رضى خائفيه" (مزمور 19:145)، لكنه يؤدّبنا لأنه يحبنا، "لأن الذي يحبه الرب يؤدبه" (عبرانيين 6:12). علينا إذاً أن نخضع لعملية التأديب ونحن نتطلع إلى وجه إلهنا المحب الحنون. إذا تألمنا وبكينا تحت التأديب تنسكب دموعه مع دموعنا. "في كل ضيقهم تضايق" (إشعياء 9:63). لكنه يؤدبنا لكي يحفظنا ضمن النواميس والترتيبات الإلهية، لكي يحفظنا في مشيئته تعالى.

خطر كبير علينا إن كنا نفلت من اليد الإلهية. فوحش العالم المفترس ينتظرنا في الخارج، ومرارة الخطية تريد أن تنغّص حياتنا، والسيد القاسي، إبليس، يجول حولنا ملتمساً أن يبتلعنا. لا نتضايق من يد الله التي تقودنا وترشدنا من خلال الأوامر والنواهي، لكي تبقينا في أرض النعمة بعيدين عن أرض الأعداء. لماذا تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها؟ هل لكي تمنع عنهم الهواء والأكل والشرب والتمتع بالمناظر الطبيعية؟ لا، بل بقصد الحماية والشعور بالدفء والحنان والشركة الحلوة ضمن العائلة الواحدة.

يعترض الرب سبيلنا في بعض الأحيان ويحوّل الاتجاه، وبحسب الظاهر، إنه عمل مزعج يحطم الآمال المرسومة والأهداف التي نصبو إلى أن نصل إليها لنحقق مستقبلاً باهراً. لكن الرب يحوّل المسار باتجاه السبيل الصالح المستقيم والمستقبل الباهر روحياً ليس جسدياً. هذا ما حدا بالرسول بولس على أن يقول، بعد أن اعترض الرب سبيله وصحح المسار: "لكن ما كان لي ربحاً فهذا قد حسبته من أجل المسيح خسارة. بل إني أحسب كل شيء أيضاً خسارة من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربي الذي من أجله خسرت كل الأشياء وأنا أحسبها نفاية لكي أربح المسيح" (فيلبي 7:3و8).

اعترض الرب سبيل يوسف، الابن المدلّل المحبوب. ظُلم وسيقت إليه التهم الشنيعة، وآذوا بالقيد رجليه، بعدما بيع عبداً. لكن الرب وجّهه في الاتجاه الصحيح، فأصبح سيد مصر. "الله قصد به خيراً لكي يفعل كما اليوم ليحيي شعباً كثيراً" (تكوين 20:50) اعترض الرب سبيل موسى، الذي حاول أن يخلّص الشعب بقوته وحكمته. ومن أحقّ منه بهذا العمل وهو المهذب بكل حكمة المصريين والمقتدر بالأقوال والأفعال. ويحوّل الرب المسار من البلاط الملكي، من قصر فرعون، إلى البرية. أين الأهداف، أين الحكمة، أين العلم، أين الجاه؟ ويرعى موسى الغنم في البرية أربعين سنة وبعد ذلك يجعل الرب منه مشترعاً عظيماً ويشهد عنه قائلاً: "أما عبدي موسى فليس هكذا بل هو أمين في كل بيتي. فماً إلى فم وعياناً أتكلم معه لا بالألغاز وشبه الرب يعاين" (عدد 7:12و8).

هل ننتظر الرب؟ هل ننتظر المعاملات الإلهية بالتسليم الكامل؟ يَدْعَك الفخّاري الطين ويقلّبه ويصقله ويديره على الدولاب، والطين لا يدرك ما يجري ولا يعلم ماذا سيحل به، لكنه يُسلّم التسليم الكامل ليد القدير. لا نتهرب من التدريبات القاسية ومن التأديبات، "كل غصن فيّ لا يأتي بثمر ينزعه وكل ما يأتي بثمر ينقيه ليأتي بثمر أكثر" (يوحنا 2:15). هكذا نجني البركات والتعزيات الإلهية، عندما نُشكَّل على شبه المسيح وحين يرى الله صورة ابنه فينا، وعندئذٍ نصبح أواني نافعة في خدمة السيد.

تململ الرسول بولس تحت ضربات الشوكة المزعجة المؤلمة، وتشكّى منها، وصلّى لأجلها؛ لكن الرب يريد أن يعمل منه وعاءً صالحاً، لذلك هو يحتاج إلى هذا النوع من التأديب والتدريب. فيقول: "فبكل سرور أفتخر بالحري في ضعفاتي لكي تحل عليَّ قوة المسيح. لذلك أسرُّ بالضعفات والشتائم والضرورات والاضطهادات والضيقات لأجل المسيح. لأني حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوي"
(2كورنثوس 9:12و10).

إمكاناتنا ضئيلة لكن نعمة الله غنية وعظيمة، وقوة الله تعمل معنا ولخيرنا. لا نَخُرْ أو نضعف أو نلتفت إلى سادة آخرين. فما من أحد ألطف من يسوع؛ ولو قسى علينا، فهذا لخيرنا الروحي، وستكشف الأبدية كم كان لهذه اليد المثقوبة فضل كبير علينا. فلنحفظ أنفسنا في محبة الله (يهوذا 21).

المجموعة: أذار March 2005