أذار March 2005

هناك على شاطئ بحر الجليل التقينا. هو في لباسه الطويل المهيب وأنا وأخي أندراوس في لباس الصيادين المحترفين. كنا نحاول صيد السمك في بحيرتنا المليئة بأنواعٍ وأصنافٍ عدة من أطيب وأشهى الأسماك. فألقينا شبكتنا وكلُّنا أمل في الحصول على ما لذَّ وطاب من صغير السمك وكبيره المكنوز في بحيرة طبرية الغنية. وبينما نحن ننظر إليه تذكَّرت ما أخبرني به أخي أندراوس عنه مرة حين قال لي: لقد وجدنا المسيا. وذهبت إذ ذاك معه للقائه، وفوجئت به يناديني باسمي. أجل باسمي دون تردد أو خطأ.  قال لي: أنت سمعان بن يونا. أنت تدعى صفا الذي تفسيره بطرس. عندها غيَّر اسمي إلى بطرس. أما اليوم فكانت نظرته إلينا مختلفة، لأنها كانت تحمل في تعابيرها ألف مغزىً ومغزى. وبينما كان كلٌّ منا يتأمل في الآخر وجَّه الدعوة لي ولأخي وقال:  هلمَّ ورائي فأجعلَكما صياديّ الناس. أُخذنا كلانا بهذه الدعوة المميَّزة، دعوة للالتزام والمرافقة الدائمة، دعوة لكي نكون رفقاء له وزملاء حميمين. فتركنا في الحال كلَّ ما في أيدينا وتبعناه. أجل، تبعناه دون أن نعرف إلى أين أو كيف. ومنذُ ذلك الحين بِتُّ أنا بطرس لا أفارقه لحظةً واحدة. بل صرتُ كظلِّه الذي يسير معه دائماً أستمع إلى حديثه وأستلذُّ بكل كلمة يفوه بها. لم يتوقف يوماً عن دعوته للناس أجمعين بقوله: توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات.

هذا هو المسيا الذي أخبرني عنه أخي يوماً والآن أضحيتُ الرفيق الذي لا يفارق.  تبعته من مكان إلى آخر، ومن مدينة إلى أخرى. لقد رأيت بأمِّ عيني العجائب الكثيرة التي صنع، والآيات العظيمة التي ابتدع. رأيته يحنو ويترفَّق ويشفق، يمد يده فيشفي ويعزّي وأيضاً يبكي. أما كلماته فكان لها وقعٌ خاص في قلبي أنا. تعلّقت به، إذ لمست حنانه ومحبته لبني البشر، للكبير كما الصغير. جذبني إليه، فَرُحت ألازمه أينما حلَّ وكيفما اتجه. وأذكر في إحدى الليالي بينما كنت وباقي التلاميذ في السفينة كيف هبَّت رياح عاصفة كادت أن تُغرق سفينتنا. فخفنا وارتعبنا. وقبل بزوغ الفجر بلحيظات رأينا خيالاً ماشياً على الماء فازددنا هلعاً وخوفاً، لكنَّه قال بكلمات واثقة وهادئة: تشجَّعوا أنا هو لا تخافوا. فأسرعتُ وقلت له: إن كنتَ أنت هو فأْمرني أن آتي إليك على الماء. فقال تعال. فنزلتُ ومشيت على سطح الماء لأول مرة في حياتي، على الرغم من الأمواج العاتية. وكان الشعور غريباً. لكن ما أن حوّلت نظري عنه لحظة، حتى خفت وارتعبت وبدأتُ أغرق. فصرخت إليه: يا ربُّ نجِّني. ففي الحال مدَّ يسوع يده وأمسك بيدي. لكنَّه سرعان ما أنَّبني على شكِّي وضعفي. حزنتُ عندها لأنني شعرتُ بأنََّني قد خَذلْتُه. أمَّا هو فأسرع إليَّ بيد الحنان والعطف وهدَّأ الرياح والنوء فسكتَ البحر.

وفيما بعد أدركتُ أنّه بالحق ابنُ الله، فصرَّحت بذلك جهاراً حين سألَنا نحن التلاميذ مَن تقولون إني أنا؟ صرَّحت يومها بكل شجاعة وإقدام وقلت: أنت هو المسيح ابن الله الحي. ففاهَ يسوع بكلمات المديح لي وقال: "طوبى لك يا سمعان بن يونا، أن لحماً ودماً لم يُعلنْ لك لكن أبي الذي في السموات. وأنا أقول لك أيضاً أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها." فرحت جداً يومها لأجل ما قاله لي. فتصريحي هذا لم يكن مني أنا فعلاً. 

أجل، يا أصدقائي، أنا بطرس الصخرة كما دعاني هو بنفسه. وبعد أن صرّحت هذا التصريح ، صرت المحامي والمدافع الأول عنه. ولمَّا فاتحنا يوماً بموضوع آلامه وموته صُعقت لكلامه هذا وفوراً رفضته وقلت له بحماسٍ عظيم:  حاشاك يا رب لا يكون لك هذا. فردَّ عليّ وقال: اذهب عني يا شيطان فأنت معثرة لي. لم أفهم قط لماذا قال لي هذا الكلام بعد أن مدَحني قبلاً. وفي يومٍ آخر أخذني ورفاقي إلى جبلٍ عالٍ وهناك تغيَّرت هيئتُه أمامي وصارت ثيابُه تلمع كالشمس وظهر موسى وإيليا يتكلّمان معه. كان المنظر جميلاً جداً، فلم أستطع أن أُمسِكَ نفسي عن الكلام فاقترحت بأن نمكث هناك ونصنع مظلّةً لكلٍّ منهم. وللوقتْ ظهرتْ سحابة وظلَّلتْ سيدي ومعلمي وحبيبي وحدَه وصوتٌ من السحابة قال: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت. له اسمعوا." سقطنا على وجوهنا جميعاً من ذلك المنظر الرهيب وأدركت مرة أخرى أنَّهُ هو الابن الحبيب الذي سُرَّ اللهُ به.

أما عند العشاء الأخير فقد فوجئتُ به يتَّهمنا جميعاً بالشك به. فاعترضتُ على هذا الاتهام وقلت بفخر واعتداد: "وإن شكَّ فيك الجميع فأنا لا أشكّ أبداً." وإذا به يردُّ عليّ بكلام قاسٍ لم أسمعه منه من قبل، "الحق أقول لك إنك في هذه الليلة قبل أن يصيح ديك تنكرني ثلاث مرات." احتددْتُ وقلت له: "ولو اضطررت أن أموت معك لا أنكرك." أجل لا أنكرك.. هذا كان موقفي، وهذا كان قراري. وليلة كنا في البستان غلب عليّ النعاس وكذا على زملائي فنمنا جميعاً ولم نستيقظ إلاَّ على صوت جمهورٍ من الناس قد أتوا ليُلقوا القبض على يسوعي وحبيبي ومعهم الشيوخ ورؤساء الشعب. فقمت واستللْتُ سيفي وضربت أُذن عبدِ رئيس الكهنة. أجل، أردت أن أدافعَ عنه بسيفي وبقوتي. أمَّا يسوع فأمرني بردِّ سيفي إلى غمده. وفاجأني مرةً أخرى بموقفه الحنون العطوف حين أرجعَ أذنَ العبد إلى مكانها وشفاها. وتساءلت في نفسي أيُعقل أن يقابل الإساءة بالإحسان؟! 

ولكن لما أُلقي القبض عليه وذهبوا به للمحاكمة خارتْ قواي وأحسستُ عندها أننَّي وحيد. نعم وحيد. لقد أخذوا سيدي وحبيبي وسَندي. شعرت أنَّ الدنيا كلَّها قد اسودَّت في وجهي. واستولى عليَّ الخوف والفزع. فذهبت مع زميلي لأتتبَّع أخباره من بعيد عساني أعرف ماذا يحصل له في دار رئيس الكهنة. لكنَّ الجارية هناك كشفت هويَّتي، أما أنا فأنكرْتُ. ووقفت من شدة البرد أصطلي مع الخدام قربَ النار، فعرفوني هم أيضاً وقالوا وأنت أيضاً كنت معه فأنكرْتُ ثانيةً. وقال آخرُ من عبيد رئيس الكهنة أما رأيتُكَ معه في البستان، وللمرة الثالثة أنكرت سيدي وحلفْتُ وشتمتُ بأنَّني لا أعرفه. عندها يا إخوتي، صاح الديك. تذكَّرتُ في الحال كلامَ سيدي ، فخرجتُ هائماً على وجهي أبكي من شدةِ ندمي على ما قلتُ وما فعلتُ. بكيت بكاءً مراً، حسرةً على ما قلت. اعتصرَ الألمُ قلبي حتى صارتْ نفسي حزينة جداً. ولسان حالي هل سأجد الغفران عنده يوماً؟!

لكنْ، وبعد أن رأيتُ بأمِّ عيني القبرَ الفارغ، بزغَ فجرٌ جديد في حياتي وشعَّ النورُ من جديد في داخلي. فانتعشت روحي وعاد الرجاء إلى قلبي الكسير.  إنَّه حيٌّ ، أجل، لقد قام من بين الأموات. سيدي حي. نعم حي. عندها تغيَّر كلُّ شيء. وكان لي لقاءٌ آخر معه يومَ كنتُ مع أصحابي في بحيرتنا نحاول صيد السمك. عندها وجَّه سؤاله لي وكأنَّه يعاتبني قائلاً: "يا سمعانُ بنَ يونا، أتحبُّني أكثر من هؤلاء؟" وكرَّر سؤاله هذا لي ثلاث مرات وكأنِّي به يذكِّرني بنُكراني المثلَّث له. حزنْتُ وقلت: "يا رب... أنت تعرف أني أحبك." قلتُها له بكل تواضع وانكسار. هو بالحق يعلم قلبي.. يعلم أنني نادمٌ ومتأسّف. ولهذا فها أنا بين يديه الآن ليصنع بي كما يشاء.

وشاءتْ مشيئتُه أن يأخذَ يا إخوتي هذه الآنيةَ المكسورة ليصنع منها وعاءً جديداً صالحاً لخدمتِه ولتمجيدِ اسمه وحده.  فأعاد صُنعي من جديد وشكَّلني بيديه الحنونتين وملأَ حياتي بحضوره الدائم، وسكَب في نفسي روحَه القدّوس ليرافقَني في المهمَّة التي أقامني عليها. ولأوّل مرةٍ انطلق لساني بقوته ليخبرَ عن عظائمَ صنعَها سيدي وحبيبي. وبرهنتُ للكثيرين من اليهود وفي أولِ عظةٍ بعد انسكاب الروح القدس في يوم الخمسين، أنَّ يسوع الناصري هذا الذي بأيدٍ أثمةٍ صلبوه قد قام من بين الأموات غالباً ومنتصراً وجلس عن يمين العظمة في الأعالي إذ جعله الله رباًً ومسيحاً باستحقاق عمل الصليب ودمه المسفوك.  فنُخِسوا في قلوبهم، وتابوا وصلُّوا واعتمدوا. وأذكرُ أنه انضمَّ في ذلك اليوم ثلاثةُ آلافِ نفسٍ للكنيسة. وفيما بعد صرت أنا الصياد البسيط صياداً حقيقياً لكن للنفوس الثمينة الغالية. فشكراً له وألفَ شكرٍ لأنَّه حوّل حزني إلى فرح، ونُكراني إلى غُفران، والغفران إلى عِرفانٍ بجميلهِ ولطفه وطول أناته عليَّ.

أخوكم بطرس

المجموعة: أذار March 2005