تشرين الأول (أكتوبر) 2005

في التاسعة من عمره طُلب منه أن يقوم بأولِ عملٍ إذاعي له في الراديو. فاستضاف برنامجاً خاصاً بالأطفال. وبرعَ فيه براعةً لا توصف. وفي سني مراهقته راح الأمل يدغدغُ فكره في اتِّباع نموذج أبيه في أن يغدو يوماً ما مذيع أخبار في التلفزيون. فسعى جاهداً لكي يحقِّقَ هذا الشعور الذي لعب بأوتار قلبه وتركه توَّاقاً للعمل الدؤوب في هذا المنحى. فترك المدرسة قبل أن يحصل على الشهادة الثانوية، وحوَّل جُلَّ اهتمامه إلى صقل مواهبه في حقل الإعلام.

 

عمِلَ بجُهدٍ بالغ لكي يصلَ إلى ما يريده. فحصلَ على مركزٍ مرموقٍ في إحدى المحطات التلفزيونية في نيويورك وهو في السادسة والعشرين من عمره. وعلى الرغم من اعتراض الكثيرين في الإدارة على صغر سنِّه ، وعلى خلفيته الكنديَّة، وخبرتِه القليلة في العمل التلفزيوني، إلا أنَّ منظرَه الجذَّاب وطلعته المحبَّبة لدى المشاهدين منحاهُ ثقة وقبولاً كبيرَيْن. فبقي يعمل في نقل الأخبار المسائية لملايين من المشاهدين في كلِّ ليلة. وبعد عدة سنوات شعر هو بنفسه بنقصانٍ في معلوماته وكذا في خُبُراته وكفاءته، فاستقال من منصبه وطلبَ أن يعمل مراسلاً ينقل للناس الأحداث والوقائع كما هي ومن حيث كانت. فذهب إلى بلدان كثيرة وراح ينقل تقاريره إلى المشاهد عمَّا رآه وسمعه وما حاور به الناس. فزار بحكم تعيينه الجديد هذا بلداناً متعددة، ورؤساء وقواد. ونقل ما يجري في أماكن عديدة وساخنة في العالم عبر قناة التلفزيون  لكي يضع المشاهد الأمريكي في جوِّ ما يجري فعلاً في بلادٍ يسمع عنها سمعاً. وهكذا وضع المشاهد الأمريكي أمام الأحداث ليكوّن رأياً فيها ويتَّخذَ موقفاً منها. فنال ثقة المشاهدين مرةً أخرى ونجح في مهمته. وبقي يعمل مراسلاً صحفياً مع محطاتٍ تلفزيونية مكتسِباً بذلك خبرةً لا توصف في عمله الصحفي في أماكنَ قريبة وبعيدة من العالم. وازداد نجمُه تأُّلقاً فدُعي من جديد وبإلحاحٍ كبير لكي يحتلَّ مركزاً هاماً في محطة ABC. لكن هذه المرة، كمذيعٍ معروف ومقبول وموهوب، وفوق كل شيء كمذيع يثق به الجمهور ويثق بإعلامه المنزَّه. وفي سني حياته عملَ إلى جانب العديد من مذيعين من ذوي الخبرة والكفاءة العالية والمميَّزة. وكان دائماً على رأس فريق ينقل للأمريكيين الانتخابات الرئاسية والأحداث الهامة بتوابعها وتفاصيلها.

وفي سن الخامسة والأربعين عاد وتسلَّم وظيفة رئيس تحرير الأخبار في نفس المحطة، وبقي محافظاً على مركزه هذا مدة واحدٍ وعشرين عاماً. فكان يصحح، وينقِّح كلَّ خبر يكتبه الصحفيون العاملون تحتَ يده بصفته رئيس التحرير. وكان في أحيانٍ قاسياً عليهم في ذلك حسبما ما صرَّح به البعض منهم. ولكنه بالرغم من صرامته هذه التي كانت تنبع من دافع السعي نحو الكمال، إلا أنه كان محبوباً جداً بين العاملين عنده.

هذا هو يا قارئي الكريم بيتر جينينغز، Peter Jennings مذيع الأخبار المعروف على التلفزيون ذات الشخصية اللامعة. وهكذا فوجئت به يوماً وأنا أشاهد أخبار المساء يعلن بأنَّه مريض بسرطان الرئة. وقال وبصوت متحشرج ومختلف عمَّا اعتدناه،  بأن صوته لن يبقى هكذا، لا بل سيتحسَّن بعد نوال العلاج. وتعجَّبت منه وهو يعزو سببَ مرضه إلى نقطة ضعفٍ فيه ألا وهي إدمانُه على التدخين. فلقد عاد للتدخين بكثرة بعد توقفٍ دام أكثر من عشرين سنة إثر صدمته الكبيرة نتيجة أحداث الحادي عشر من سبتمبر والضربة القاسية التي حلَّت ببرجَي التوأم في نيويورك وأودت بحياة الكثيرين من الأبرياء. وكانت تلك آخر مرةٍ يظهر فيها جينينغز على التلفزيون. وبعد فترة وجيزة هي أقل من أربعة أشهر من تاريخ إعلانه لمشاهديه عن مرضه الخبيث هذا، مات بيتر جينينغز بعد أيام قليلة فقط من احتفاله بعيد ميلاده السابع والستين.

أجل، قضى بيتر جينينغز الصحفي اللامع، ورئيس تحرير الأخبار العالمية على قناة ABC  المعروفة في أميركا من شرقها إلى غربها. ويومها، رثاه الكثيرون من المعارف والأصدقاء والصحفيين والعاملين معه. ليس هذا فحسب، بل بكى عليه كذلك الصغار والكبار الذين كان جينينغز قد قدَّم لهم وجبةً ساخنة في أيام الأعياد عندما كانوا في حاجة وعوز. إذ كانت له لفتات إنسانية يلتقي فيها مع الناس فيقدِّم لهم ما يُشبع بطونهم الجائعة ويتحدث إليهم ويستمع إلى قصصهم. لكنَّه كان يعمل كل ذلك في الخفاء وبعيداً عن العدسات والكاميرات. 

وجذب انتباهي وأنا أحضر التقرير الكامل عنه في أسبوع موته ما قيل عنه من كلمات مدح كأب، وصديق، ورئيس تحرير وصحفي لامع. كما قيل عنه   بأنه كان دائم التفتيش والبحث والسعي في شأن الأمور الروحية. حتى إنَّهم لقَّبوه في إحدى الفقرات بـ الباحث والساعي The Seeker . فعمِلَ الكثير من التقارير عن المسيحية وكان على رأسها التقرير الشهير عن شخص يسوع المسيح.  وذهب إلى فلسطين ليقابل ويسأل ويبحث عن هذا الشخص الذي بهَرَ العالم في ولادته، وحياته، وموته وقيامته. ويبدو أن جينينغز كان مذهولاً بما سمعه عن المسيح وبما قرأه. ولكن هل وصل بيتر جينينغز إلى الحق يا ترى؟ أجل، فماذا بعد هذه الحياة المليئة بالأخذ والعطاء، الموسومة بالتواضع والرفعة في آن؟ ماذا بعد الحياة التي عاشها جينينغز والتي وصفها أترابه بأنها حياة وافرة وجيدة، ماذا بعدها؟ هل تراه تعرَّف إلى المسيح الذي وحده قال عن نفسه: أنا هو الطريق والحق والحياة. ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي“؟ لا أحد يعرف الحقيقة.

لكن دعني يا قارئي أشارك معك ما سمعته أنا شخصيا في هذا الشأن. إذ بينما كنت وصديقتي نتحدث عن جينينغز في أسبوع موته، إذا بنا نسمع في ذلك الأسبوع خبراً مفاده أن الممرضة الخاصة التي رافقت جينينغز إلى بيته في الأيام القليلة التي تبقَّت له ليعيشها في بيته وبين أفراد عائلته، هي مؤمنة بالمسيح. وقد كانت تصلي من أجل فرصة لها معه، وهو على فراش الموت، كيما تخبره عن يسوع المسيح وحقيقة شخصيته، وبأنه فعلاً هو المخلص الوحيد ابن الله الحي الآتي إلى هذا العالم. وعلى الرغم مما رأته هذه الممرضة في مكتبته من كتب عديدة عن الأديان المختلفة، إلا أنَّها تجرأت في آخر ليلةٍ له وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة أن تشارك معه بكل لطف وهدوء رسالة الإنجيل المقدس والبشارة السارة. وسمعتُ أيضاً - يا قارئي - أن جينينغز تجاوب مع دعوة التوبة والخلاص.  فصلى وطلب الغفران من الله وحصل فعلاً على الخلاص الأبدي وانضم بيتر في آخر لحظةٍ من حياته إلى عائلة بيت الله المقدسة.

إذا كان الخبر الذي سمعته أنا وصاحبتي صحيحاً فعلاً، والذي مصدره الكنيسة التي كانت هذه الممرضة عضوة فعالة فيها في نيويورك، فلا يسعني إلا أن أفرح وأقول: ونعمَ الخبر. ليس أنا فحسب بل سيكون فرح أيضاً في السماء بخاطئ واحد يتوب. هذا ما فاه به الرب يسوع المسيح. أما إذا لم يكن، فإن هناك عبرة كبيرة من حياة جينينغز التي عاشها بوفرة وغنى بحسب معاييرنا البشرية. العبرة الكبرى هي أن يذكر الإنسان خالقه في أيام شبابه.  العبرة لا بل الحكمة،  كل الحكمة هي كما فاه بها صاحب الأمثال النبي والملك سليمان حين قال: ”باطل الأباطيل... الكل باطل وقبض الريح، ولا منفعة تحت الشمس... فلنسمع ختام الأمر كله: اتَّقِ الله واحفظ وصاياه، لأن هذا هو الإنسان كله“.

هذا ما توصل إليه صاحب الحكمة التي مصدرها الله.  فكتب هذه الكلمات بعد أن اختبر كل ما في هذه الحياة. وأنشد يقول: إن الكل باطل وقبض الريح. ووصل إلى قناعة كاملة أن علاقة الإنسان بخالقه وشركة الإنسان مع ربه هي معنى الوجود كله. وعودة هذه العلاقة لا تصير إلا حين يؤمن الواحد منا بالفادي يسوع المسيح الذي جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك. فهل تبقى يا صديقي مجرد باحثٍ وساعٍ تفتش عن حقيقة شخصية المسيح الباهرة والفريدة؟ أم أنك تعرفت عليه شخصياً؟ وآمنت به فعلياً؟ وتعيش له عملياً؟

هذا ما فاه به يسوع المسيح يوماً: "أتيت لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل". هنا يكمن معنى الحياة الحقيقي ومعنى الوجود كله. فهلاَّ سألنا أنفسنا هذا السؤال:

"لكن ماذا بعد؟"

المجموعة: تشرين الأول October 2005