حزيران (يونيو) 2006

لاحظنا فيما سبق أن كل معجزة صنعها المسيح كانت تحمل رسالة واضحة للناس، فمعجزاته لم تكن للتسلية أو لإثارة الاندهاش أو جذب الشهرة، كما لم تكن رشوة يقدمها المسيح لاجتذاب المؤيدين أو للتصفيق له.

 

إنجيل يوحنا 11 يحدثنا عن كيف أقام المسيح لعازر من قبره بعدما مرّ على موته ودفنه أربعة أيام. صحيح أن البعض جذبته المعجزة للإيمان بالمسيح، ولكن البعض الآخر ممن شاهدوا الحدث تآمروا ليقتلوا لعازر في محاولة لاغتيال الحقيقة، لأن المعجزة دفعت الكثيرين ليتعرّفوا على هوية المسيح ويؤمنوا به! والمستغرب هنا هو: كيف أن البعض وهم يرون الحقيقة ماثلة أمامهم وبرهانها معها يغمضون عيونهم عنها بإرادتهم؟

هذا ما حصل قبل ألفَي عام، لكن لا ننسى أن الناس اليوم ما زالوا هم هم، ويقومون بنفس الدور، فرغم كون الحقيقة واضحة جلية أمام عيون الناظرين وفي قرارة قلوبهم، والشمس ساطعة من حولهم في وضح النهار كاشفة للحقيقة، ومع ذلك يناقضونها ويجادلونها ويصرّون على زيفها ويكفرونها. فالإنسان هو الإنسان من يوم وُجِد، إلا من تجرأ بعد اقتناعٍ واتَّخذ قراره واختطّ لنفسه طريقاً آخر يريح به ضميره وقد استنار، ولو اختلف به عمن حوله.

صحيح أن أشياء كثيرة من حولنا قد تغيّرت في الطبيعة، في العلم، في الحضارة، وفي أساليب المعيشة وأدواتها، لكن الإنسان في داخله ما زال يختزن "الخطية" التي ورثها من يوم سقط أبوه آدم في معصية الله. والخطية من طبيعتها ترفض الحقيقة وتعاديها، وتقود أصحابها إلى إنكار الحق ودعم الباطل ولو على حساب المصير الأبدي. ولذلك نقول للناس: طالعوا، اقرأوا، نوّعوا القراءة، فتّشوا الكتب بانفتاح. أخي لا تكتفِ بما أنت فيه أو ما نشأت عليه... كن مرناً! انفتح على الرأي الآخر، فقد تجد في الطرف الآخر نقيض ما كنت تسمع عنه.

واليوم من السهل أن نجد حتى في الوسط المسيحي من المتشككين ومَن يُسَمَّى بالعقلانيين، الذي يحاولون بجهود مكثّفة تفسير المعجزات الربانية على أنها مجرّد ظواهر طبيعية إنكاراً للحقّ!

فمثلاً، هناك من يقول إن معجزة شقّ مياه البحر الأحمر أمام موسى النبي وشعبه عند هروبهم من وجه فرعون، كان مجرّد ريح شديدة صادف أن مرّت بالبحر في تلك اللحظة فخففت من ارتفاع منسوب المياه، الشيء الذي مكّن الشعب من العبور إلى الشاطئ الآخر، فالمسألة في نظرهم لم تكن معجزة لكنها كانت من الظواهر الطبيعية استفاد موسى وشعبه من حدوثها . فالمتشككون في أي زمان ومكان يبذلون جهوداً جبارة لتفسير كل معجزة ربانية باعتبارها ظاهرة طبيعية تغييباً للحقيقة! وحتى معجزات الشفاء التي أجراها المسيح يفسّرها هؤلاء بأنها كانت مجرّد "شفاء بالإيحاء" وليست معجزات بالمفهوم الديني المتداول. ولا بدّ من القول هنا أن هذه المحاولات التي يبذلها هؤلاء تتحطّم حتماً على صخرة معجزات المسيح الخارقة كإعطاء البصر لرجلٍ أعمى منذ ولادته، أو إقامة ميّتٍ كان له أربعة أيام في قبره وقد أنتن، أو إطعام أكثر من خمسة آلاف إنسان من خمسة أرغفة وسمكتين، والكلّ شبع، واكتفى، وفضّل عنهم من الكِسر اثنتَي عشرة قفة مملوءة. فكيف تفسَّر هذه، والشهود عليها بالآلاف - في كل زمان، وبين كافة شعوب الأرض على اختلاف انتماءاتهم ومعتقداتهم الدينية؟! هناك من يحاول أبداً أن يقاوم الحق بالباطل، والأغرب من ذلك أن تجد بين الناس من يصفق لهؤلاء، ومن يستشهد بأقوال هؤلاء لأغراض جدلية أو استهلاكية أو تعصبية!

وكيف يحلّل العقلانيون معجزة ولادة المسيح من عذراء لم يمسسها رجل؟! فهم برفضهم التسليم بالمعجزات، لا بدّ أنهم يرفضون إمكانية الولادة من عذراء. فيضعون أنفسهم في مواجهةٍ مع مصدر الوحي، لأن الله سبق وأنبأ بالولادة العذراوية قبل مئات السنين على ألسنة أنبياء لم يلتقوا في زمن واحد، ومع ذلك توافقت نبوءاتهم في وصف الحدث في المكان والزمان كما لو كانوا رجلاً واحداً!

فإشعياء ينبئ بميلادٍ للمسيح من عذراء قبل أكثر من سبعمائة سنة من ميلاد المسيح، وإشعياء نفسه يعود ويصف المولود بأنه يُدعى إلهاً قديراً ورئيساً للسلام لا نهاية لسلطانه، ولم يحدّد إشعياء مكان ولادته... ثم يأتي ميخا النبي بعد إشعياء لينبئ بأن المولود سيبرز من بيت لحم، ويعطيه وصفاً يحدّد هويّته إذ يقول إن مخارج هذا المولود هي منذ الأزل، فالمولود إذاً مولود غير مخلوق بمعنى أن له وجوداً قبل ميلاده، فهو أزلي، وهل من أزليٍّ غير الله؟! فما جاء به إشعياء بأن المولود هو إله قدير، يؤكد عليه ميخا النبي بأن المولود في بيت لحم هو أزليّ؛ فالنبيّان إذاً، يتحدثان عن ذات الشخص بهويته المميّزة. وجاء المولود ووُلد من عذراء لا أطهر ولا أنقى.. وولادته كانت في بيت لحم القرية الصغيرة كما أشار إليها ميخا النبي.

وفي ليلة ميلاده ظهر الملاك لرعاة من البدو يحرسون حراسات الليل على أغنامهم، وحين خافوا من هول المنظر.. قال لهم الملاك: لا تخافوا، فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب، أنه وُلد لكم اليوم مخلّص هو المسيح الرب. فتركوا أغنامهم في الحال وذهبوا ورأوا ما أُخبـِروا به، وسجدوا للمولود وأخبروا بما قيل لهم وعادوا إلى أغنامهم فرحين. فمَن من البشر لديه القدرة بأن يحْبـِك كل هذه الإشارات النبوية ليربط الماضي بالحاضر ويُمرّر أكذوبة كما يتخيّلها المشككون، فتُبنى عليها عقيدة زائفة كما يراها هؤلاء، وتتبنّاها شعوب تُحسب اليوم من أرقى شعوب الأرض حضارة وعلماً ومدنية، وليست من السذاجة لتنطلي عليها الخرافات.

ومن بين الأنبياء الذين سبقوا المسيح وأشاروا إليه داود النبي. يتحدّث داود في مزموره الثاني فيقول عن المسيح: لماذا ارتجّت الأمم وتفكَّر الشعوب بالباطل؟ قام ملوك الأرض وتآمر الرؤساء معاً على الرب وعلى مسيحه قائلين: لنقطع قيودهما، ولنطرح عنّا ربطهما. ثم يقول داود بلسان المسيح: ”إني أخبر من جهة قضاء الرب. قال لي أنت ابني. أنا اليوم ولدتك“. ثم يقول محذّراً الشعوب من مغبّة رفض الحقيقة: ”فالآن أيها الملوك تعقّلوا، تأدَّبوا يا قضاة الأرض، اعبدوا الرب بخوف واهتفوا برعدة. قبّلوا الابن لئلا يغضب فتبيدوا من الطريق. لأنه عن قليل يتّقد غضبه، طوبى لجميع المتكلين عليه“. ونتساءل: من هو هذا المسمّى بالابن، ليس فقط في إنجيل المسيحيين بل في توراة اليهود؟ من ترى يكون؟!

من هو هذا الذي يشير إليه الوحي وينصح شعوب الأرض بأن يعبدوه ويقبِّلوه لئلا يغضب عليهم؟ لأنه إن غضب يبيدهم من الطريق!

هل عرفته صديقي العزيز؟!

هل اتضحت الحقيقة أمام عينيك؟

المجموعة: 200606