أذار (مارس) 2006

لقد عالج المسيح له المجد كثيراً من المواضيع الروحية خلال مدة تجسده، وكان يستخدم دائماً المقارنة بين ضدين لإيضاح قصده بشكل لا يقبل الجدل ولا يحتمل الالتباس. فإذا ما تأملنا في تعاليم الرب وأمثاله السامية بشكل مفصّل، استطعنا أن ندرك القصد الإلهي من هذه الأمثال، حيث أنها تصف دائماً حالتين لا ثالث لهما، أي أن كل إنسان هو في نظر الله في أحد فريقين: فإما أن يكون سائراً بحسب الفكر الإلهي ومرضياً لله أو أن يكون معاكساً لهذا الفكر، ولا توجد منطقة وسطى بينهما.

 

فأمثال المسيح تتحدّث لنا بالمقارنة بين شخصين "عاقل وجاهل"، وبيتين واحد مبني على الصخر وآخر على الرمل، وابنين الأول عمل مشيئة أبيه والآخر لم يعمل، وعبدين صالح وطالح، وطريقين أحدهما يؤدي إلى الحياة وآخر إلى الهلاك، وبين عذارى حكيمات وعذارى جاهلات، ودرهم موجود وآخر مفقود، وخروف ضال وآخر في الحظيرة، وابن في البيت وآخر في الكورة البعيدة؛ وعن بابين، وحياتين، وموتين، وما إلى ذلك.

ولكنّ كثيرين من المسيحيين ما زالوا يرتكبون خطأً شائعاً بخصوص الحكم في أمر خلاصهم، إذ يقيسون يقين هذا الخلاص بحسب شعورهم الشخصي ورضاهم عن أنفسهم معتمدين على التدين الظاهر وأعمال البر والإحسان. ولكن كلمة الله توضح عكس ذلك، حيث أن المسيحي الحقيقي هو شخص مؤيِّد كلياً للفكر الإلهي، وسائر بكل خضوع في تيار هذا الفكر، الذي يتطلب منا في كل حين أن نراجع حسابات حياتنا على ضوء مقاييس السماء.

لقد تحدث المسيح في ما يسمى بمثل الفريسي والعشار عن سيرتَي حياة، وعن نوعين من التعبد، وشكلين من الصلاة، ونتيجتين متباينتين. وكان حكمه الصريح مزلزلاً كل ظنٍّ خاطئ حينما نطق بتبرير العشار الخاطئ دون الفريسي المتدين. ذلك الحكم صدم بشدة مسامع اليهود، ولا سيما الكتبة والفريسيين الذين كانوا يسمعونه. وقد كانوا يحفظون ما يقوله العهد القديم بشأن القضاء، "إذا كانت خصومةً بين أناس وتقدموا إلى القضاء ليقضي القضاء بينهم، فليبرروا البار ويحكموا على المذنب" (تثنية 1:25). وكذلك "مبرّر المذنب ومذّنب البريء كلاهما مكرهة الرب" (أمثال 15:17). فحينما استمع هؤلاء إلى عرض دفاع كلٍ من الفريسي والعشار، إذ كان الأول كأنه يرافع أمام محكمة السماء مظهراً تقواه وممارساته الدينية وأعماله الحسنة، أما العشار فلم يكن لديه شيء من ذلك سوى اعترافه بأنه خاطئ ويطلب رحمة الله... وربما كان في ظن السامعين آنذاك أن يسوع خالف المكتوب فحكم على الفريسي صاحب الأعمال الحسنة وبرّر العشار الخاطئ. وهل يمكن أن ننسب إلى المسيح حكماً يقول عنه الكتاب إنه مكرهة الرب؟ هل يمكن أن يبرّر الله الأشرار؟ وإذا سلّمنا بأن هذا ممكن لأن الله له الحق بإضفاء رحمته على من يشاء، لكن، هل يمكن أن يجرّم الله البريء؟ ربما الكثيرون في العالم يفكرون بهذا الأسلوب ولا سيما الذين يعتمدون على التدين والأعمال كأساس للخلاص من الخطيئة. لكننا نرى بكل وضوح أن هذا التفكير مخالف لخطة الله السرمدية، بجعل خلاص البشر مبنياً على عمل الفداء الإلهي الذي أتمه يسوع على الصليب وليس على أي استحقاق بشري.

لقد كانت هناك بعض أوجه الشبه بين شخصي المثل، فالاثنان صعدا إلى الهيكل ليصليا، وكل منهما صلى واقفاً، وبدأ صلاته بكلمة "اللهم"، أي تشابهاً في الوضعية والمكان والإله الذي صليا إليه. لكن الأهم من ذلك هي أوجه الاختلاف بينهما التي نتأمل بها فيما يلي:

1- وضعية القلب في المصلّي

 كان قلب الفريسي منتفخاً في داخله شاعراً بالتعالي على غيره، "اللهم أني أشكرك لأني لست مثل باقي الناس.... ولا مثل هذا العشّار"، أما العشّار  فكان يصلي بقلب منكسر.

2- النظرة إلى الذات

نظر الفريسي إلى ذاته فرأى نفسه متديناً مهذباً، يصوم ويصلي، ويتصدّق وربما جميع ادعاءاته كانت صحيحة ولو ظاهراً على الأقل. فالفريسيون كانوا مشهورين بالتدقيق في الأمور الدينية والتظاهر بالتقوى. لذلك كانوا يذهبون إلى الهيكل أكثر من باقي الناس "مرتين في اليوم" ويصومون أكثر من المفروض "مرتين في الأسبوع" ويقدمون عشور الأشياء التي لم يكن مطلوباً تعشيرها كالنعنع والشبت والكمون، وكانوا مشهورين إلى جانب هذا بالتظاهر والرياء. أما العشار فقد نظر إلى ذاته ولم يجد عنده ما يستحق أن يقايض الله به. فكان شاعراً بنقص تدينه، وقلة استحقاقه، لذا لم يشاء أن يرفع عينيه إلى السماء.

3- النظرة إلى الغير

كانت نظرة الفريسي إلى الآخرين نظرة ازدراء واحتقار، "اللهم أنا أشكرك أني لست مثل باقي الناس الخاطفين الظالمين الزناة...". لقد حكم على باقي الناس بالدينونة. وأما العشار فلم يكن كذلك، وكأنه كان يعتبر نفسه الخاطئ الوحيد في الكون بقوله: "أنا الخاطئ". ولم يكن له شأن بإقامة الدينونة على الآخرين إطلاقاً.

4- النظرة الإلهية الفاحصة

لم يستطع الفريسي، رغم كل ما ادعى به، أن يؤثر على الحكم الإلهي ولا أن يستجلب لنفسه المدح من فم الرب. كما كان يمتدح نفسه وتقواه؛ فقد نظر الله أعماق قلبه ورأى حب التظاهر وروح التعالي على الآخرين، كما رأى فيه الشعور باستحقاقه الذاتي دون أن ينكسر أو يتواضع أمام هيبة الله الذي صلى إليه. أما العشار، فقد رأى الربُّ بعينه الفاحصة أعماق قلبه المنكسر، وسمع أنات الندم على خطاياه، وقرعات لوم النفس التي قرعها على صدره، وقد اشتركَتْ جميع أعضاء جسمه في تلك الصلاة؛ رجلاه ويداه، وقلبه، وعقله، ولسانه، وصدره، وعيناه.. وقد سر الله بطلب الرحمة الذي قدمه بكل جوارحه "اللهم ارحمني أنا الخاطئ". ولذا فقد قال الرب: "أقول لكم إن هذا "العشّار" نزل إلى بيته مبرراً دون ذاك "الفريسي".

عزيزي القارئ، هذا هو الفكر الإلهي، وهكذا تختلف نظرة الله عن نظرات الناس، ويختلف حكمه عن أحكامهم، وتقييمه عن تقييمهم. نحن جميعاً بشر خطاة كما قال الكتاب: "الكل قد زاغوا معاً. فسدوا. ليس من يعمل صلاحاً ليس ولا واحد". ولا نستطيع الاتكال على أعمالنا لأنها جميعاً كخرق بالية في نظر الله. ورغم أن الأعمال الحسنة مطلوبة، لكنها ليست سبباً في الحصول على الخلاص والتبرير، بل نتيجة لعمل الله في القلب. ولكننا نحصل على الخلاص بطلب الرحمة والغفران كما فعل ذلك العشار، وبالتوبة الحقيقية عن كل ما يغضب عدالة الله، والسير في الطريق الذي يريده.

المجموعة: 200603