أذار (مارس) 2006

قال الذئب للشاة: أحبكِ حتى الجنون.
فقالت الشاة: سمعت أحد الحكماء يقول: آية الحب هي فناء المحب في المحبوب.
الذئب: تباً له من أحمق. بل آية الحب يا حبيبتي هي إفناء المحبوب في المحب. ووثب الذئب على الشاة فافترسها إلا الجلد والعظام.
كانت هذه ومضة من ومضات الكاتب اللبناني ميخائيل نعيمة فيها من العبرة الكثير. فلا إفناء المحب في المحبوب ينفع ولا إفناء المحبوب في المحب. لأنه ينبغي البقاء لكليهما حتى ينمو الحب ويزدهر وإذا فني واحدهما فإلى من يعبِّر الآخر عن حبه؟ وهكذا ينبغي أن يبقى الطرفان ليظلَّ "هرمون الحب" يسري في العروق فيقرِّب الفروقات ويبلسم الجراحات ويطيِّب الخواطر والنيَّات. فهل سمعت يا قارئي بـ "هرمون الحب"؟


قرأت مؤخراً هذه المعلومة الطريفة عنه تقول: إن أساليب التعبير عن الحب بين أفراد الأسرة الواحدة تتنوّع بين كلمات لطيفة حانية، أو تلامسٍ بالأيدي، أو العناق، أو حتى الجلوس معاً بهدوء. ولقد وجد أساتذة العلوم أن تلك الأساليب للتعبير عن مشاعر الحب الإيجابية المعلنة، لها تأثير على تحمُّل الألم موضحين تأثير هرمون الحب الذي يفرزه الجسم في لحظات التعاطف، إذ إنه يعمل كالمخدر على مراكز الألم الموجودة في منتصف الدماغ. فيستجيب الجسم بإفراز مادة لها تأثير المخدّر على نهايات الأعصاب مما يقلّل من شدة الألم. فأين نحن من هرمون الحب؟!
لا يخدِّر الحبُّ من الألم فحسب، بل إنه يزيد الإنسان عمراً أيضاً. فلقد كشفت دراسة أخرى وردت في إحدى الصحف العربية أنَّ الحب يزيد من طول العمر والمحبون يعيشون حياة أطول. فلقد قال الأكاديمي الأسترالي مارك كوهين من إحدى جامعات ملبورن (Melbourne) في مؤتمر دولي حول الشيخوخة: إن وجود الحب في حياة المرء يزيد من فرص عيشه حياة أطول. ومفهوم الأكاديمي للحب واسع جداً. فهو أوسع من كونه حباً رومانسياً ويتَّسع ليشمل الهوايات وغيرها من الاهتمامات الخاصة. إذ يعتبر أن جميع الأنشطة التي يركِّز فيها المرء بجملته على عمل ما وتنقطع معها علاقته بالزمن، هي أنشطة حب. فحين يقوم المرء بنشاط يحبُّه سواء أكان ذلك صنع طائرات ورقية، أو القيام بأعمال البستان، أو النظر إلى عيني الحبيب، يعيش المرء عندها لحظات يتوقف فيها الزمن على ما يبدو. وأشار مارك كوهين أنه تبين أن الأرانب التي يدلِّلها العاملون في المختبرات تعيش حياة أطول بنسبة 60% عن تلك التي لم تحظَ بهذا التدليل. ورأى أنَّه من أسباب طول العمر بين النساء هو أن نصيب الحب في حياتهن أكبر. فلديهن أحباء يحبونهن وأطفال يحبونهن وآباء يحبونهن. وختم التقرير بقوله: إن النساء هن عناصر الحنو الرئيسية على الأرض، لذلك فمن المنطقي أن يعشن حياة أطول لأنَّ في حياتهن حباً أكبر.
هذا هو بيت القصيد إذن. أن يكون في حياتنا حب أكبر لكي نعيش حياة أطول. ولقد خلق الله النساء بعواطف وأحاسيس مرهفة أكثر من الرجل لتقوم بدور الأمومة المفعم كله بالحنان والعطف والانسجام والتوافق والتقبُّل في أي حال من الأحوال. فالنساء لديهن مشاعر أكبر، وعواطف أكثر، وطبيعتهن تؤهلهن للتعبير عن هذه المشاعر والعواطف سواء نحو أزواجهن أو أولادهن أو أهلهن. ولقد استخدم الله الخالق سبحانه وتعالى مثَلَ الأم البليغ، فوصف لبني البشر المحبة الباذلة المعطاءة المفعمة بكلِّ إخلاصٍ وتفانٍ. لكنَّه عاد فقال: "حتى هؤلاء ينسين"، كما قال على لسان النبي إشعياء في القديم: "وأنا لا أنساكِ"! هذه هي كلمات الرب لخاصته، لأولاده الذين أحبهم إلى المنتهى. فعلى الرغم من أن محبة المرأة لرضيعها هي محبة عظيمة وجميلة فيها الكثير من التضحية والبذل، إلا أنها تبقى ناقصة إذا ما قورنت بمحبة الله لكَ ولي. فالله خالق هرمون الحب في الإنسان، ومانح هذه العواطف الجياشة التي تخفِّف من وطأةِ آلامه الجسدية، وتُؤكد مدى حاجة الإنسان للآخر. هو وحده الذي يستطيع أن يسكِّن ألمَ الإنسان النفسي والروحي الذي يعتصره على مر العصور والأجيال. وتبقى محبة المرأة لوليدها ناقصةً إزاءَ محبة الله لأنَّها محبة أبدية ما تزال تفيض غنىً ونعمةً ورحمةً على بني البشر.
فمنذُ أن خلق الله الإنسان على هذه الأرض، خلقه لكي يتمتع بشركةِ المحبة معه. لكن الإنسان خسر هذه الشركة إذ عصى أمر الله واختار أن يكون سيد نفسه. فطُرد من الجنة وصار بعيداً عن حياة الانسجام والسلام والوئام مع الله خالقه وصانعه. هذا من جهة الإنسان، لكن هل تغيَّرت محبةُ الله بالنسبة للإنسان؟ بالطبع كلا. فالله، وتعبيراً عن محبته، خلق الإنسان. وبقي يحبُّه حتى بعد أن عصى أمره. وبقي يبحث عنه لكي يستردّه إلى علاقة المحبة والمودة الحقيقية. وأخيراً بيَّن له محبته بأسمى معانيها إذ أرسل للإنسان "ابن الإنسان" المخلص والفادي يسوع المسيح الذي هو صورة الله غير المنظور، الكلمة الأزلي، لكي يعبِّر عن هذه المحبة الأبدية. وبذله من أجل الإنسان حتى يخلِّصه من عقاب خطاياه وعصيانه. وارتضى أن يمنح الإنسان فرصة أخرى للرجوع والعودة للتمتع بتلك الشركة الجميلة. وهكذا دفع يسوعُ المسيح الثمنَ كاملاً، إذ فتح ذراعيه وضمَّ الإنسان المخلوق إلى الله الخالق عن طريق موته على الصليب وقيامته من بين الأموات. وحتى ينال كلُّ من يؤمن به وبعمله الكفاري هذا غفران الخطايا ويستعيد شركة المحبة مع الله الآب.
فهل تتوق لاستعادةِ شركة المحبة بينكَ وبين الله يا قارئي؟ إنَّ خالق هرمون الحب فيكَ وفيَّ وفي كل إنسان، يريد أن يرفعَك وينتشلَك من ألمِ الفراق عنه الذي يعتصرُ ضميرَك وحياتَك ونفسَك وروحَك. فهل تريد أن تعود حياةُ الانسجام بينك وبين الله خالقك؟
العالم لا يزال يفتش هنا وهناك عن مخدِّر لآلامه النفسية والروحية بينما مصدر السلام والراحة قريب منه جداً. ما انفكَّ الإنسان يبحث عمَا يريح داخله فيتخلَّص من الصراع في حياته، فينظر إلى هذه الديانة وذاكَ المعتقد الجديد أو هذه الصرعة الجديدة عساه يصل إلى ضالته المنشودة. لكنه عبثاً يحاول لأنَّ نفس الإنسان وكيانه لا يرتاحان إلا في الرجوع إلى خالقه. وسرعان ما سيتبَّين لكل باحث أنَّ ما هذه التي يحفرُها إلا آبارُ ماءٍ مشقَّقة لا تضبِط ماء. حتى ولو ارتوى أو ظنَّ أنَّه ارتوى منها للوهلة الأولى. إلا أنَّها تبقى آباراً مشققة.
وماذا عنا نحن الذين اختبرنا محبة الله لنا في المسيح يسوع، هل نحرص على أن نعكس هذه الصورة في حياتنا، في كلامنا وتصرفاتنا، في السر والعلن؟ وهل نعبِّر عن هذه المحبة، ليس بالكلام بل بالعمل والحق، ونهتم بالنفوس الضالة من حولنا، فنوجههم إلى مصدر الحب الأبدي والسلام الحقيقي والانسجام الذي يبعث الاطمئنان والاكتفاء فيزول الألم من كل نفس وروح سقيمة؟ لأنَّ حب الله قدِ انبعث فيها فصارت نفساً حية من جديد. وهكذا نعيش عمراً مديداً ليس على هذه الأرض الفانية، بل في شركة دائمة مع الله إلى الأبد...
وهنا لا يكون من الحب ما قتل، أو من الحب ما خدَّر آلامنا لفترة قصيرة من الزمن، بل من الحب ما بلسَمَ جراح قلوبنا العميقة، وما أزاحَ عن كاهلنا أنينَ النفسِ والروح، وأحلَّ الرجاء والأمل بمستقبلٍ دائم وشركةٍ أبدية في محضر الرب إلى الأبد. له كل مجد وكرامة وسجود.

المجموعة: 200603