أذار (مارس) 2006

يبدو لي أن النظرة النسبية هي الغالبة على المجتمعات المعاصرة، بل هي الإطار العام الذي تدور في داخله المواقف، والأحداث، والعلاقات الاجتماعية، والأخلاق، والقيم. ولم تنجُ المفاهيم الدينية من هذه النظرة الهدامة. إذ أصبحت القيم الدينية والروحية خاضعة لقانون النسبية، وبالتالي أصبحت المقاييس الفردية هي الأساس التي تقوم عليه العلاقات.

 

تميل النظرة النسبية إلى خلق جوّ ترتاح إليه النفس التي تخشى أن تجابه الواقع. لأن النسبية في حياة المؤمنين بها تحجب عنهم رؤيا القيم المطلقة التي من شأنها أن تدمّر بيوت الرمال التي بنوها. ولكي لا أظل أدور في حلقة مفرغة لا بدّ لي أن أقدّم للقارئ نموذجاً أو أكثر عن الصراع المستمرّ ما بين النسبي والمطلق. ولعلّ أبرز مثلٍ على ذلك هو موضوع الزواج. فالزواج، من حيث المبدأ، قيمة مطلقة اتفق عليها أبناء الجنس البشري منذ أن أضحى الزواج سنّة الله في خلقه. وقد اعتبر القدامى أن للزواج تقاليده التي تعارف عليها الناس حفاظاً على كرامته وما يشتمل عليه من مسؤوليات، وما يقوم عليه من أسس لأن العائلة هي وحدة سليمة في بناء المجتمع. بل إن الزواج، من حيث هو سنة روحية أيضاً يتعلّق بقيم مطلقة ثابتة لا يجوز لأي مخلوق الاعتداء عليها. فالرباط الديني والاجتماعي في مفهوم الزواج جعل منه وحدة بل قيمة مطلقة، بل إن ما اختصّ به هذا الزواج من وثقٍ تتعلّق بالشرف والفضيلة والكرامة، جعلت من الزواج وجوداً مقدساً.

ولكنّ المؤمنين بالنسبية رأوا في الزواج قيوداً لا داعي لها، بل أرادوا أن يحرروا الزواج من هذه القيود الثقيلة – حسب نظرتهم – ليتّخذ الزواج أو العلاقة بين الرجل والمرأة، مفهوماً نسبياً لا يقوم على الروابط المقدسة بل هو قضية تفاهم بين اثنين قرّرا أن يعيشا معاً لسبب أو لآخر من غير تحمّل مسؤوليات الزواج. أيّ واحدٍ من "المتحرّرين" يرغب في مثل هذه العلاقات لأنها مجرّدة من كل مسؤولية، وفي وسعه أو وسعها أن تضرب كل الروابط التي تشدّها أو تشدّه إلى الشخص الآخر، عرض الحائط. إن هذه العلاقة تنحو في جوهرها نحو أسلوب حياة فقد أصالته، وافتقر إلى عنصر الديمومة. إنه اتفاق يقوم على نسبية العلاقة التي لا تعمل على ترسيخ أصولها في وحدة العائلة بل تعتمد النزوات والمشاعر التي لا تلبث أن تخمد أو تذرّيها الرياح.

وهناك ظاهرة أخرى نراها شائعة بين أوساط الناس من حيث علاقتهم بالدين. فالدين عند الكثيرين شيء نسبي يرتبط بالخلفية الاجتماعية، أو التربية أو التقاليد، فكل الطرق تؤدي إلى روما، وكل السبل تفضي إلى قمة الجبل. فإن كنت تؤمن بالحجر، فأنت مؤمن وإيمانك به يجديك ويفيدك. مثل هذه الظاهرة تخلق في نفوس أصحابها شعوراً مزيّفاً من الطمأنينة التي لا بدّ أن تنهار حالما تلمّ بهم النوائب، لأن الإنسان القاصر يعجز عن إنقاذ نفسه، ولأن آلهته هي من صنع يديه وهي أعجز منه عن إسعافه. هي أصنام ابتدعها، وصاغها وفق ما أوحى له بها خياله ورغباته، وشكلها طبقاً لنظرته إلى الحياة. فهي من هذه الناحية خاضعة لإرادته ولا يقدّم لها حساباً عن نفسه وتصرفاته.

وعندما تصبح النسبية جزءاً لا يتجزّأ من حياة المرء، وتغلب على نظرته ومقرراته ومفاهيمه، تنتفي القيم المطلقة من ناموسه الأخلاقي والروحي، وتصبح مطامعه وأهواؤه ورغباته الشخصية هي مدار وجوده. فالصدق يضحى أمراً نسبياً يرتبط بمصلحته الفردية والفوائد التي يمكن أن يجتنيها. فإن كان الكذب أجدى به، وأكثر فائدة، فإنه يلجأ إليه طلباً للنتائج المتوخاة التي هي في صالحه. فالصدق لم يعد قيمة مطلقة بل أصبح خاضعاً للمصلحة الذاتية. وينطبق القانون ذاته على الخيانة بكل صورها وأشكالها، وعلى المعاملات اليومية، وعلى أساليب الخداع، والنفاق، والرياء، والبر الذاتي، والتمحور على الذات، أي تتحوّل المصلحة الفردية إلى أساس ثابت أو فلسفة حياتية تصبغ حياة المرء بألوانها الخداعة البراقة.

ثم إن النظرة النسبية التي تقوم على المصلحة الفردية لا تعترف بحقوق الآخرين ولا بكرامتهم، بل إنها تسعى إلى سلب هذه الحقوق، والوطءِ على رقابهم في سبيل تحقيق أهدافها وغاياتها. ولا يتردّد أصحاب هذه النظرة في ارتكاب كل ما يشين من أجل بلوغ مآربهم. فلسفتهم النسبية هي فلسفة مادية لا قيمة للنفس البشرية فيها.

ومن المؤسف حقاً أن المجتمع الذي نعيش فيه اليوم قد اعتنق هذه الفلسفة وأصبحت "الأنا" التي تدور حوله حياة الناس. لم يعد للأثرة أي قيمة أدبية أو روحية بل استأثرت الأنانية بالنفوس، هذه النفوس التي تجرّدت من المحبة الحقيقية الباذلة المعطاءة التي ترفض النسبية وتؤمن بالقيم المطلقة.

ولا بدّ لي في نهاية هذه المقالة الموجزة أن أشير إلى أن أعظم رمز على جوهر القيم المطلقة قد تجلّى على الصليب عندما فتح المسيح ذراعيه وكأنه يعانق العالم كله الذي جاء لكي يفتديه من الهلاك. لم تكن محبة المسيح محبة نسبية، ولا قيمه قيماً ذاتية، بل كانت مطلقة دعا إليها البشرية جمعاء حتى أعداءه. بل إنه أوصى تلاميذه وأتباعه على مرّ الدهور أن يتمثـّلوا به في المحبة، والتضحية، والعطاء، والصدق، والإخلاص. إنها دعوة تقوم على دعائم روحية، وعلى التسامي عن كل مطامع "الأنا" القاتلة. فليس هناك نسبية في تعاليم المسيح لأن المسيح لم يرضَ بأنصاف الحلول، لا من حيث قيمه ولا من حيث عمله الفدائي وخلاصه، لأن النسبية كانت وما زالت أداة في تدمير المجتمع. فخلاصه أبدي، ومحبته أبدية، ومواعيده سرمدية، ومواثيقه راسخة. لم تقم قيمه على النزوات والأهواء لأن رحمته إلى الأبد تدوم؛ وبالتالي يريد منا المسيح كمؤمنين أن نقتفي خطاه في حياتنا اليومية. وليكن كلامكم نعم نعم، ولا، لا. أي لا يجب أن نخادع أو ننافق بل أن نكون صادقين مع أنفسنا ومع الله ومع الآخرين وأن تكون قيمنا مستمدة من قيمه المطلقة.

المجموعة: 200603