تشرين الأول (أكتوبر) 2006

هل للحرب مقاييس أخلاقية موضوعة؟

وكيف تمّ التوافق على وضع هذه المقاييس وتطبيقها؟  هناك من يدّعي بوجود مقاييس أخلاقية سنّتها القوانين التشريعية للحروب وورد ذكرها في كتب الأديان السماوية.  وهناك من يزعم أنها خاضعة لأعراف وتقاليد فرضتها عليها الظروف السياسية والعسكرية. ويُشير البعض الآخر إلى اتفاقية جنيف التي تم التصويت عليها ولا سيما في أصول معاملة الأسرى.

 

 ولكنني قبل أن أتحدث عن هذه المقاييس أود أن أطرح سؤالاً آخر حول مبدأ الحرب وفيما إذا كان هناك ما يُدعى بالحرب العادلة؛ ومن ثم ماذا يستهدف الإنسان من شن هذه الحروب المدمّرة؟

في رأيي، إن الحروب العادلة هي أقرب إلى الوهم منها إلى الحقيقة؛ بل هي كالظل الهائم الذي يتعذّر القبض عليه.  فكل أمة من الأمم، إن شاءت، في وسعها أن تزعم أن حروبها التي تشنها هي حروب عادلة؛ بل في إمكانها أن تتذرّع بألف حجة وحجة لتبرّر اعتداءاتها على الدول المجاورة؛  فهذا هتلر في الحرب العالمية الثانية، في أفجع حرب عرفها التاريخ، استعان بمبررات خرجت عن حد المعقول طمعاً في الاستيلاء على ثروات الدول الأخرى والسيطرة عليها؛ وتبعه في ذلك ستالين، وموسوليني وغيرهم من طغاة العالم. إن قاموس الحروب يختلف بمفرداته ومصطلحاته عن أي قاموس آخر لأنه تجسيد للنوازع البشرية والمطامع السياسية والعسكرية والاقتصادية. وأكثر من ذلك، فإن معظم هذه الحروب تتغلّب عليها نزعة القوة وشهوة السلطان؛ والتاريخ الإنساني أكبر شاهد على المآسي الرهيبة التي أسفرت عنها تلك الحروب.  فالدولة الأشورية، والكلدانية، والفارسية، واليونانية، والرومانية والعربية، وجيوش هولاكو، والدولة العثمانية، ودول الغرب الاستعمارية في العصور الحديثة، كلها انطلقت لاكتساح العالم تحدوها رغبة السيطرة وخلق إمبراطوريات عالمية تفرض عليها لغتها، وحضارتها، وسياستها، وتستغلّ مصادر ثرواتها وتستهلك اقتصادياتها.

وقد يتساءل البعض قائلاً: ولكن ماذا عن الحروب الدفاعية التي تحاول فيها الدول المسالمة صد هجمات العدو صيانة لحدودها وللمحافظة على أمن أبنائها وسلامتهم؟ هذا التساؤل وجيه وشرعي، فكل دولة مسؤولة عن حماية رعاياها والدفاع عنهم، كما أن مثل هذه الدول لا تكون هي البادئة بالحروب.  هي في موقف دفاعي لم تختره لنفسها بل فـُرض عليها مما اقتضاها أن تجنّد كل إمكانياتها للدفاع عن نفسها أو أن تستسلم لمطالب العدو وتنصاع لأهوائه الاستعمارية.

ولكن السؤال المطروح أماننا يرتبط بوضع هذه الدول المسالمة العسكري.  ماذا يكون موقف هذه الدول المسالمة لو توافرت لها أسباب القوة العسكرية والاقتصادية؟ أتظل هذه الدول مسالمة أم أنها تطمع أيضاً بأراضي الدول المتاخمة العاجزة عن الدفاع عن نفسها؟ قد يعترض البعض قائلاً: هذه فرضية أو تكهن قابل للنقض ولا تقوم عليه الحجة. والواقع، أن التاريخ، مرة أخرى يمدنا بالبرهان والدليل، فالإمبراطوريات العالمية كانت في بدء عهدها دولاً صغيرة، ثم اتسعت، وعظم شأنها، وأخذت في احتلال الدول المجاورة، واستنزفت اقتصاديات البلاد المفتوحة فاستخدمت الغنائم في تقوية جيوشها وأطماعها العسكرية، وهكذا عبر التاريخ، تحوّلت من دول مستضعفة مسالمة إلى دول طاغية طامعة بممتلكات البلدان الأخرى.

إذن، من ناحية واحدة على الأقل، إن مفهوم الحرب العادلة يتوقف على وضع الدول العسكري. فالضعيف مسالم في معظم الأحيان، لا يعتدي على أحد ومن حقه أن يدافع عن نفسه إذا ما اعتـُدي عليه.  ولكن ما أن تتوافر لديه القوى العسكرية اللازمة حتى يشرع في تحقيق أطماعه التي تستَّرت بالضعف.

وعندما تنشب الحرب، عادلة أو غير عادلة، فإن قوانين الحياة المدنية تتعطل عن العمل. إن الظروف التي تفرضها الحروب قد لا تكون منطقية إلا في عُرف أصحابها، وتتفق شرائعها مع تلك الظروف.  فالحرب هي سفك دماء ودمار، وقتل الأبرياء من نساء وأطفال وعُجَّز.  يبرر أصحاب هذه الحروب هلاك ضحاياها بأنه جزء طبيعي من نتائج الحرب، وهو أمر وإن كان مكروهاً فإنه شر لا بد منه.

ولكن ما هي جذور هذه الحرب؟

أهي الأطماع، وشهوة السلطة، والاستهتار بالسلام، والاستيلاء على ثروات البلاد المقهورة؟  هذه الجذور هي التعبير عن طبيعة الإنسان الشريرة، ولا يمكن للتشريعات، مهما كانت مثالية، أن تغيّر من الطبيعة البشرية.  يحدثنا الكتاب المقدس عن "نمرود"، هذا الديكتاتور الذي حاول أن يقيم أول إمبراطورية في العالم.  يبدو أنه وُلد مباشرة بعد الطوفان، وعرف أسبابه ونتائجه، ولكنه لم يرعوِ.  لقد انفرد عن بقية الناس، وتبعه في ذلك بعض الشعب، فاختار بقعة رآها صالحة لشن الغارات، وما لبث أن قويت شوكته فتحدّى الله في بناء البرج.

ولا شك أن معظم الإمبراطوريات كانت في أصلها دولاً صغيرة أو قبائل متفرّقة، وما لبثت بعد أن اشتد بأسها أن تحوّلت إلى قوى معتدية.  هذا ما يقوله لنا التاريخ وما يدونه الواقع الإنساني.

إن أخلاقية الحروب في هذه الحالة تنقاد إلى أهداف الغالب ومدى أطماعه. فهو يصوغ شرائع الحرب لتنفيذ مآربه، وينقض حتى ما تم الاتفاق عليه في اللجان الدولية والمؤسسات العالمية التي وقّعت عليها دول العالم.

أخلاقية الحرب هي نسبيّة في جوهرها، تخدم القوي ويخضع لها الضعيف. ومن المؤسف حقاً أن كثيراً من هذه الحروب تُشنّ باسم الدين. فهل هناك حل لهذه الحالة المزرية المرعبة؟

أقول: نعم. هناك حل واحد أكيد لو تطبقه الدول الكبرى والصغرى بأمانة لَما تقع حرب واحدة. وهذا الحل يقوم على المحبة الحقيقية، وليس على محبة المصالح الذاتية. هي محبة مضحية حددها المسيح بقوله: أحبوا أعداءكم.  باركوا لاعنيكم. صلوا من أجل الذين يسيئون إليكم. ألم يكن المسيح عالماً بوجود حرب عادلة للدفاع عن الذات؟

إن المسيح كان داعية سلام؛ فهو أمير السلام، والمحبة التي يتحدّث عنها تقوم على مواقف المحبة المتبادلة. هي محبة تسعى دائماً لهيمنة السلام من غير هضم حقوق الآخرين. هي محبة تقضي على آلة الحرب وتدمرها ويكون العدل ركناً من أركانها. هي محبة تطهر النفس من كل حقد، وطمع، وضغينة، وتنمو على البذل والعطاء.

لو سادت مثل هذه المحبة العالم اليوم، لَما انفجرت قنبلة أو تطايرت صواريخ في الفضاء، أو تهدّمت مدن ومات عشرات الآلاف. وقصاراه، فإن شريعة المحبة الحقيقية هي وحدها التي تفني الحروب من العالم وتقضي على المطامع والمظالم.

المجموعة: تشرين الأول October 2006