كانون الأول (ديسمبر) 2007

في مثل هذا الوقت تتجه أفكار الأتقياء إلى تلك الرواية الجميلة العجيبة... ولادة طفل هو قبلة أنظار العالم والأجيال، الموضوع على عاتقه هو إعلان قلب الآب للبشر وإنقاذ الجنس التعس من شقاء الخطيئة لنوال الميراث الأبدي. ولا بد من مراجعة تفاصيل الرواية الخالدة وإعادة ذكر الفتاة المباركة التي قبلت بشرى الملاك، وحبلت بدون دنس بابن عظيم بقوة الروح القدس. وذكر قصة يوسف البار الذي أزال منه ملاك الرب الخوف والريب وأعلن له أنه اختير حامياً لتلك العذراء خطيبته وشريكاً لها بسر الأجيال بولادة ابنها العجيب. فيجدر بنا إذن أن نفكر قليلاً في حقيقة الميلاد العذراوي ومعناه لإدراك مقاصد الله من نحو الإنسان.

 

إن ميلاد يسوع العذراوي حادث فريد من نوعه في تاريخ البشر كما أن يسوع نفسه كان شخصاً فريداً لم يكن له نظير. فحياته كانت سلسلة معجزات كما هو ظاهر من خدمته الخارقة للطبيعة، وكلماته التي تفوق إدراك الإنسان، وسيرته المعصومة من كل عيب، وموته الذي اهتزت له الطبيعة، وقيامته التي أيدت رسالته وجلت مقامه بصعوده المجيد  إلى العرش. فلا غرابة إذن أن دخوله إلى العالم كان عن طريق ولادة عذراوية فريدة من نوعها كانت الحلقة الأولى من سلسلة حوادث كانت كلها تدعو إلى الدهشة والعجب لسموها الفائق.

لقد جاء يسوع فادياً للبشر ومخلصاً لهم من الخطية. وعندما ننظر إلى هذا القصد السامي نستطيع أن نتفهم عظم وأهمية ولادته الخارقة للطبيعة. فلو كان يسوع إنساناً عادياً لما استطاع أن يخلص البشر، لكنه كائن أسمى من البشر.

وُلد المسيح في بيت لحم اليهودية، لكن ”مخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل“ كما يقول النبي ميخا. وبذلك نعرف أن ظهوره في صورة إنسان لم يكن سوى مرحلة واحدة من مراحل حياته الأزلية لأنه ”في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله... والكلمة صار جسداً وحلّ بيننا“. إذاً ولادة المسيح لم تكن دخول طفل إلى الوجود للمرة الأولى، بل كانت نزول الله القدير ليلبس ثوب البشرية بطريقة طبيعية وخارقة الطبيعة في آن واحد. ويصعب علينا أن نتخيل دخول ”الكلمة“ إلى عالمنا هذا بأية طريقة أخرى سوى الولادة العذراوية لكي يكون آدم الثاني رئيس الخليقة الجديدة، ممثلاً للجنس البشري وابن الإنسان... ولم يكن ذلك ممكناً إلا عن طريق ولادة بشرية طبيعية كي يشاكل جنسنا في كل شيء. لكن يسوع أسمى من البشر من حيث شخصه الأزلي! إذن كان لا بد من أن تكون بداية تلك الولادة الطبيعية خارقة الطبيعة وبتداخل إلهيّ خاص.

تنبأت الكتب المقدسة عن مجيء المسيح قبل تجسده بقرون عديدة وبالتحديد عن سر ولادته العذراوية. قال إشعياء النبي: ”ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل“ (إشعياء 4:7). فالنبوة صريحة وقد تمت بولادة يسوع من مريم العذراء. أما الوعد الأول بمجيء المخلص، فنجد فيه تلميحاً يدل على انتساب الفادي الآتي إلى أم بدون والد بشري. قال الرب للحية - أي الشيطان الذي مثلته: ”أضع عداوة بينكِ وبين المرأة وبين نسلكِ ونسلها. هو يسحق رأسك وأنتِ تسحقين عقبه“ (تكوين 15:3). فاللفظ العبري المترجم بلفظ ”المرأة“ بالعربي لا يدل في الأصل على حالة ”التزاوج“، فالنسل الذي كان عتيداً أن يسحق رأس الحية - أي أن يفدي البشر من قوة الشيطان - كان نسل المرأة أو ”السيدة“ بصورة خاصة، مما ينطبق في المعنى الأكمل على يسوع وحده الذي له أم بشرية دون أب بشري. وتؤكد هذه الحقيقة نبوة ثالثة من الأسفار القديمة: ”لأن الرب قد خلق شيئاً حديثاً في الأرض. أنثى تحيط برجل“ (إرميا 22:31). فيشير اللفظ ”خلق“ إلى القدرة الإلهية التي هيّأت جسماً في رحم العذراء بالروح القدس لآدم الثاني كما خلق الله بقدرته آدم الأول. وتدل العبارة ”شيئاً حديثاً“ على أمر فريد من نوعه بإيجاد إنسان منقطع النظير. فهو إله تام وإنسان تام في آن واحد. وهو من أم تختلف عن كل أم أخرى إذ هي والدة، وعذراء، بتولة في آن واحد، ونوع الولادة يكون بعمل الروح القدس بدون تدخل إنسان. وتدل العبارة ”في الأرض“ على الموقع الذي حبلت فيه العذراء. فيظن البعض أن ذلك كان في اليهودية حيث ذهبت بسرعة بعد قبول بشارة الملاك. واللفظ المترجم ”رجل“ هو بالعبرانية ”جبار“ وهو من ألقاب المسيح (إشعياء 2:9)، ونعتٌ يُنعت به الله.

أما الشهادتان التاريخيتان في العهد الجديد لولادة المسيح العذراوية فقد دوّنهما البشيران متى ولوقا. متى كان عشّاراً، مما يدل على أنه كان مثقفاً. وهو من كفرناحوم، مدينة في الجليل، لا تبعد كثيراً عن الناصرة التي سكن فيها يسوع وأمه مدة من الزمان. إذاً، كانت لمتى فرص كثيرة للتحدث إلى مريم العذراء نفسها بالإضافة إلى أقارب يسوع، ومن مصادر ثقة دوّن تاريخ الولادة العذراوية. إلا أننا نلاحظ أنه سجل تفاصيل الولادة من وجهة نظر يوسف النجار وما أُعلن له، وعن موقفه وواجباته في اتخاذ الأم العذراء لنفسه لكي يحميها هي وطفلها ويعزي قلبها في تلك الظروف الصعبة.

أما لوقا فكان يونانياً من ولاية آسيا، وحائزاً على الجنسية الرومانية الحرة. كان رفيقاً لبولس الرسول في سفراته، ونعلم أنه قضى ثلاث سنين في ”قيصرية“ حيث سُجن بولس. في تلك المدة كان بإمكانه أن يكتب إنجيله بإرشاد الروح القدس وتحت إشراف الرسول العظيم. وكمؤرخ ماهر تتبّع كل شيء من الأول بتدقيق متصلاً اتصالاً مباشراً بالذين كانوا من البدء معاينين للأحداث وخدام الكلمة. والظاهر من الأصحاحين الأولين من إنجيله هو أنه دوّن فيه ذكريات العذراء نفسها. ولا غرابة أنه اتصل رأساً بالعذراء في شيخوختها وسجل تلك الأمور التي كانت تحفظها في قلبها إبان أيام أمومتها العجيبة والسنين التي تلت حين شاهدت ابنها يترعرع تحت عنايتها. فكانت للوقا مؤهلات خاصة لتدوين تفاصيل الولادة العذراوية إذ كان طبيباً وذاك يعطي لشهادته وزناً.

كانت حقيقة الولادة العذراوية شائعة في الكنيسة الأولى، فدوّنتها الأناجيل كحقيقة مُعترف بها من الجميع. وعندما وُضعت قوانين الإيمان، ذُكرت أيضاً كأحد المعتقدات الأساسية في الإيمان المسيحي الذي غايته التأكد من نعمة الله للإنسان في إرسال ابنه لفداء البشر لكي يكون لنا حياة أبدية باسمه ورجاء ويقين بالمجد السماوي.

لا صعوبة إذن في الإيمان بالميلاد العذراوي لأن الشخص الذي دخل العالم عن طريق ذلك الميلاد العجيب هو أسمى من كل تصوّراتنا، وعمله من أجلنا وفينا أعظم من كل إدراك.

إذاً، لنخرّ ساجدين أمام محبة الله الفائقة الوصف ونشكر ذلك التنازل المجيد الذي أعطانا ابن الله ليكون شريكاً في بشريتنا إنساناً كاملاً، كما أنه إلهنا الكريم. لقد تمثّلت فيه كل صفات الكمال وهو الذي سبي قلوبنا لنحب كما أحبنا، وأعطانا رجاء أبدياً بفدائه، فلله الآب والابن والروح القدس المجد والكرامة الآن وإلى الأبد. وشكراً لله على عطيته التي لا يُعبَّر عنها.

المجموعة: 200712