كانون الثاني (يناير) 2007

”لأننا نحن من أمس ولا نعلم لأن أيامنا على الأرض ظل“ (أيوب 9:8).

يختلف شعور الناس بخصوص الزمن من شخص لآخر. فعندما تبلغ السنون نهايتها يفرح الكثيرون لأنهم اجتازوا حقبة من الزمان لا بدّ من اجتيازها، وهم بحالة جيدة من الصحة وطيب العيش. ويحزن آخرون لأن ردحة من الزمان مرت عليهم وهم في محنة أو كرب أو لأنهم لم يحققوا ما كانوا يصبون إليه من نجاح وتقدُّم، فلا هؤلاء استطاعوا إيقاف عجلة الزمن عند منعطف درب الحياة ولا أولئك قُدِّر لهم تسريعها. والأيام شئنا أم أبينا تمرّ رتيبة منتظمة الدوران سنة بعد أُخرى وتجري أمورها بلا تغيّر ملحوظ فلا جديد تحت الشمس.

 

ولكن الإنسان هو الذي يتغيّر، فقد وصفه أيوب بقوله: ”الإنسان مولود المرأة قليل الأيام وشبعان تعباً يخرج كالزهر ثم ينحسم ويبرح كالظلّ ولا يقف“ (أيوب 1:14-2). فما أعظم تلك العبارات وأصدقها وما أعظم العِبَر التي تضمنتها أيضاً.

أولاً: الإنسان ”قليل الأيام“ نسبة إلى قياس الزمن

 وهو قليل الأيام قصير العمر في نظر نفسه رغم أنه من أطول مخلوقات الله الحية عُمراً. ولكن النهاية الحتمية لهذا العمر تخلق في نفوس الناس هذا الشعور بفقدان الرجاء بحياة أطول، ولا أعني فقدان رجاء الحياة الأبدية لأن ذلك له بحث آخر، وإنما رجاء البقاء والخلود على هذه الأرض كما يقول داود الملك في صلاته إلى الله بعد أن هيّأ المواد اللازمة لبناء الهيكل في أورشليم وجهزها لكي يتممه ابنه سليمان: ”لأننا نحن غرباء أمامك ونزلاء مثل آبائنا، أيامنا على الأرض وليس رجاء“
(1أخبار 15:28). ويقول أيوب أيضاً: ”أيامي أسرع من الوشيعة وتنتهي بغير رجاء“ (أيوب 6:7). والوشيعة هي لفافة الخيط التي توضع في مكوك الحياكة.

لقد كانت البركات بالنسبة إلى الشعب القديم بركات أرضية، وكان طريق الأبدية بالنسبة للكثيرين ضباباً غائماً، وكانت أمورها غير واضحة المعالم، ولكن يسوع هو الذي جلا غموضها لمؤمني العهد الجديد كما يقول الرسول بولس: ”وإنما أُظهرت الآن بظهور مخلصنا يسوع المسيح الذي أبطل الموت وأنار الحياة والخلود بواسطة الإنجيل“
(1تيموثاوس 10:1). فقد جاء يسوع ليرفع أنظار المؤمنين به عن بركات الأرض إلى بركات السماء، وعن عمر الجسد المحدود إلى الأبدية غير المحدودة، وعن السعي بالجسد لاقتناء عوامل الفناء إلى السعي بالإيمان لامتلاك تأكيدات البقاء. ”الحق الحق أقول لكم إن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية ولا يأتي إلى دينونة بل قد انتقل من الموت إلى الحياة“ (يوحنا 24:5).

ثانياً: الإنسان ومتاعب الحياة ”شبعان تعباً“

لقد كانت متاعب الحياة نتيجة حتمية للّعنة التي تلقاها آدم وحواء بسبب خطية العصيان. ”ملعونة الأرض بسببك... بعرق وجهك تأكل خبزاً... لأنك تراب وإلى تراب تعود“ (تكوين 17:3-19). وكذلك فقد ظن الكثيرون أن قصاص الله في العهد القديم هو قصاص جسدي ودينونته دينونة آنيّة وأن ما يصيبنا على هذه الأرض دليل على رضى الله أو عدم رضاه. وليس أدلّ على ذلك من كلام المزمور 128 من ترنيمات المصاعد.

ورغم أن هذه البركات كانت ترمز إلى بركات روحية إلا أن غالبية الشعب القديم أخذتها بحرفيتها دون أن يُتعبوا نفوسهم باستجلاء دلالاتها ومقاصدها، أما في العهد الجديد فقد تغيّر الأمر كلياً وأَظهر المسيح جميع الخفيات إلى النور في مواعظه الرائعة وأعظمها الموعظة على الجبل التي دونها البشير متى في الأصحاحات 5-7، وفي أمثاله الفائقة الحكمة كمثل الوزنات، والكنز المخفي، والابن الضال، والعشاء العظيم، وأخيراً وليس آخراً مثل الغني ولعازر (لوقا 19:16-31) الذي أظهر فيه بكل وضوح أن الغنى الحقيقي هو غنى الإيمان، وأن غنى الأرض وبركات الأرض مهما عظمت ليست دليلاً على رضى الله على الإطلاق. فقد يسمح الله بالتجارب والآلام الجسدية لأعظم القديسين لاختبار صبرهم وتقوية ثقتهم وتزكية إيمانهم. كما عقّب على ذلك الرسول بالروح القدس بكلام كثير، فالرسول بولس يقول: ”فإني أحسب أن آلام الزمان الحاضر لا تُقاس بالمجد العتيد أن يُستعلن فينا“ (رومية 18:8). وذلك الرجل الذي قاسى آلاماً كثيرة في خدمته للمسيح، فحتى موت الجسد أصبح بالنسبة إليه غير ذي معنى ”لأن لي الحياة هي المسيح والموت هو ربح“ (فيلبي 21:1).

ثالثاً: تزهو حياة الإنسان حيناً ثم تسوء ”يخرج كالزهر ثم ينحسم“

فإن كان الكثيرون يفرحون في حياتهم الأرضية لفترات متباينة، ولا سيما في زمن الشباب حيث يعيش معظم الناس لإشباع شهواتهم وأهواء نفوسهم ظانين أن في هذه الأرض ما يُشبع النفس ويروي شهوة القلب، ولكن ما يلبث معظمهم أن يكتشفوا ما اكتشف سليمان الحكيم: ”فإذا الكل باطل وقبض الريح ولا منفعة تحت الشمس“. لذلك فقد حذّر من أن يُفسد زهو الشباب حياتهم الروحية ويذهب بإيمانهم بقوله: ”إفرح أيها الشاب في حداثتك وليسرّك قلبك في أيام شبابك واسلك في طرق قلبك وبمرأى عينيك واعلم أنه على هذه الأمور كلها يأتي بك الله إلى الدينونة“ (جامعة 9:11). فالشباب والقوة والجمال والصحة ظلال زائلة لا تدوم ومن يتكل عليها سيدرك في النهاية أن اتكاله كان وهماً قاتلاً.

رابعاً: ولا بدّ لحياته الأرضية من انقضاء ”ويبرح كالظل ولا يقف“

ونحن قد ودّعنا عاماً قد انقضى وولّى بكل ما فيه من الخير أو الشر، من الحسن أو القبيح، من التعب أو الراحة، وكثيرون شعروا بالفرح لانقضائه واستقبال عام آخر ولكن كما يقول أحد الشعراء:

المرء يفرح بالأيام يقطفها

وكل يوم مضى يُدني من الأجل

فالحياة سنون معدودات تمرّ واحدة بعد أخرى وهي كحبات سبحةٍ في يد ناسك يعدّها فلا تلبث أن تصل إلى نهايتها. ولكن الأمر الذي لا مفرّ منه هو حساب الأبدية في أبعادها وطولها وكلنا معنيّ بهذا الحساب شئنا أن أبينا. ”لأن الله يُحضر كل عمل إلى الدينونة على كل خفيّ إن كان خيراً أم شراً“ (جامعة 14:12). فليس الربح أن نقضي الأعوام حتى تبلغ نهايتها وليس الربح أن نستقبل أعواماً أخرى في بدايتها كما يفعل الكثيرون من الناس في كل مكان في العالم تقريباً، حيث يستقبلون عامهم الجديد بالمرح والسكر ظناً منهم أنه سينقضي هنيئاً مسراً ومريحاً لأجسادهم كما بدأ. وليست الحكمة أن ننسى أو نتناسى ما تُذكِّرنا به كلمة الله التي تعظنا لكي نستعد للرحلة الكبرى رحلة الأبدية بعد أن نجتاز جسر الموت الجسدي، فالربح الحقيقي هو ربح الأشياء الباقية وامتلاك الأمور الخالدة. والتلهي بتلك الأرباح الفانية لا يُغني ولا يفيد شيئاً طالما نحن نسير نحو النهاية الحتمية، ولا يستطيع أحد إيقاف هذا المسير حيث سنقف أمام العرش الأبيض العظيم في يوم الدينونة الرهيب. والأهم من هذا كله أن يفكر كل منا أين سيقضي الأبدية بطولها حيث لا نهاية هناك ولا تغيير، فلا أعوام تنقضي ولا أعوام تجيء بل ديمومة وبقاء إلى أبد الآبدين إما في فردوس النعيم أو في عذابات الجحيم.

المجموعة: 200701