حزيران (يونيو) 2007

تقول إحدى الزوجات وتكرِّر:

"إنَّ زوجي مصابٌ بفيروس النَّكد الدائم. فصباح الخير عنده شجارٌ وتنغيصٌ بكل معانيه وأشكاله المختلفة." أما زوجها فيقول: "إن زوجتي تختلقُ النكد بسبب أو بدون سبب. وكثيراً ما تتكلم دون توقف. والمدهش أنَّها لا تتعب ولا تملّ من كثرة الكلام وتكراره مرات ومرات. فهل لهذه الحالة من علاج؟

"

 

يتابع الصحفي كاتب هذا المقال تحت عنوان: ”مَنِ الظالم ومن المظلوم“ الذي أُدرج في إحدى الصحف العربية ليقول: لهذه الحالة من الانتقاد والانتقاد المضاد نكاتها الطريفة ومنها أنَّ رجلا قال لصديقه:

-  مرَّ عليَّ ستةُ أشهر لم أتحدّثْ فيها إلى زوجتي.

فأجابه صديقه:

-  بسيطة كل الأزواج يتعرَّضون إلى مشادات وشجارات.

فقال الرجل:

-  لا، لا يوجد بيننا شجار ولكنني لا أستطيع التكلم معها لأنَّها لا تتوقف عن الكلام وأنا لا أريد أن أقاطعها!

ويتابع صاحب المقال ليقول:

كان التواصل بين الرجل والمرأة في غابر الأيام والزمان - وقبل اختراع التلفزيون وتحوُّل الحياة ومشاغلها وهمومها العصرية - معتمداً على ما يسمى بـ "حديث الوسادة" حيث كانا يُلقيان برأسَيْهما على الوسادة قبل النوم فيجدان متَّسعاً من الوقت كي يتسامرا ويتحدَّثا بحب وسعادة أو يتحاورا حول العائلة والمحيط والحياة وكل ما يخطر على بال. ولكن مع مرور الأيام وطرق الحياة العصرية خسر الزوجان حديث الوسادة هذا وبات الحديث بينهما متأثراً بظروف الحياة والدوام.

ويقول أحد الأزواج في هذا الشأن: "إن زوجتي تحاول أن تستغلَّ كل فرصة تجدني حولها لِضَخِّ ملاحظاتها ونصائحها. وبات حديثـُها مليئاً بالغمز والإشارات ذات الدلالات حين تتحدث عن التدليل والهناء والاستقرار العاطفي الذي تتمتع به صديقتها."

أما زوجةٌ أخرى فتَصِفُ زوجها بأنه جَلِفٌ، أي فظّ. ولا يُغرقها بكلام العواطف أو يُشعرها بالأحاسيس الفياضة وأن هذه الأحاسيس هي غذاء للمرأة مثل الأكل تماماً.

وهنا يكمل الكاتب الصحفي مقالته ليقول: وتبقى المواجهات والمفارقات قائمة بين الزوج والزوجة، لكنها لم تكن مسبقاً سبباً للوصول إلى الطلاق حتى ومهما استفحلت المشكلة. أما اليوم فتشير الدراسات إلى أنَّ ما يقارب ثمانين في المئة من حالات الطلاق تنجمُ عن شعور المرأة بانعدام التواصل العاطفي الناجم أساساً عن فشل الرجل في التعبير عن عواطفه وبالتالي انعدام الحوار وفقَ الأسس التي تروقُ للمرأة. ويقول باحث اجتماعي ألماني في هذا الشأن: إنَّ الدفء العاطفي بين الزوجين يزيد من قدرة العقل لدى كلّ منهما ويعزز ذكاءهما بصورة ملحوظة. واستمرار تلك الحالة من التواصل الحميم لفترة طويلة تزيد من تحصيل كلا الزوجين في مقياس الذكاء معتبراً تلك النتائج بمثابة رسالة مفتوحة لكلِّ زوجين بأنَّ عليهما أن يزيدا من حميمتهما ونشاطهما العاطفي. وهنا يختم الكاتب مقاله: أطلب من السيدات والسادة الحُكْمَ مَنِ الظالم ومن المظلوم؟ المرأة أم الرجل؟

إذن مَن الظالم ومَن المظلوم؟ هذا سؤالٌ يَحار في إجابته أيُّ قارئ موضوعي. لأنَّ القصة ليست هو أو هي، القصة وما فيها هي أنَّ التواصل قد تأثر هو الآخر بنمط الحياة العصرية التي نعيش في دائرة إيقاعها السريع والمريع. وبالرغم من كثرة وسائل الاتصال وتعدُّدها، فإنَّ التواصل باتَ نادراً وأصبحَ في كثيرٍ من الأحيان جامداً جمودَ وسائله الآلية المنتشرة بشكل واسع. فطغى على تواصُلنا كأفراد، وكعائلات وكجماعات، جمودٌ ما بعده جمود، هو جمود الآلة والإلكترونيات التي حلَّتْ محلَّ الكلمة اللطيفة، والنظرة الرقيقة، واللمسة الحانية. فصرنا نتحرَّك نحن أيضاً كالآلات نسبةً للعصر. وإذا حدث وانتقدت الزوجة هذا الوضع موجِّهةً كلامها لزوجها، فتراه ينظرُ إليها إمَّا من وراء الصحيفة التي في يده، أو مشيراً لها ببَنانِه بالصمت لأنه يراقبُ أخبار التلفاز والفضائيات، أو لأنه يجلس وراء الكومبيوتر يتحدث مع آخر عبر الضغط على أزرارٍ تنقل كلماته المكتوبة إلى شخص على الطرف الآخر في جلساتٍ مطولة.

أين ذهب بالحق هذا التواصل الحميمي الذي يجلس فيه أفراد العائلة يتحدثون بعضهم إلى بعض من دون أن يزعجهم صوت أو صورة الرائي؟ أو حتى من دون أن يرسلوا رسائل عن طريق الهاتف الخليوي؟!

أين ذهب هذا الوقتُ الثمين الذي كانت تجتمع فيه العائلة وتناقش معاً موضوعاً معيناً يهمُّها؟ أو مشكلة ما تواجهها؟

الكلام وسيلة من وسائل التعبير منحَها الله الخالق العظيم لنا نحن البشر وميَّزنا بها عن سائر المخلوقات. لذلك فمن غير الممكن أن تحلَّ محلَّه أيةُ وسيلة أخرى وإلا لغدونا آلاتٍ متحركة.

أعرف صديقاً مقرَّباً لنا قام بفصل هوائي التلفزيون من جذوره، كيما يقضي الوقت مع زوجته وأولاده في كلِّ ليلة يعود فيها من عمله. وكان أنْ شبَّ الأولادُ الأربعة على علاقة وطيدة بعضهم ببعض وسادتِ الشركةُ الودّية بين الأب والأم وكذا الأولاد. يبدو الأمرُ غريباً بعض الشيء لكن إذا اقتضتِ الحاجة إلى ذلك فلما لا؟ وإذا كان العائق هو التلفزيون فلا بدَّ من وضع حدٍّ له.

ليس الحل هو باللجوء إلى السكوت والصمت،  أو "بالنقِّ" والثرثرة. كلا، فليس هذا هو المقصود من حديثنا الأصلي عن  التواصل. أريد أن أعود هنا إلى سفر التكوين في الكتاب المقدس، أي سفر التأسيس حين خلق الربُّ الإله أبانا آدم ووضعه في جنة عدن. "وقال الرب الإله ليس جيدا أن يكون آدم وحده، فأصنع له معينا نظيره. وجبل الرب الإله من الأرض كل حيوانات البرية وكل طيور السماء فأحضرها إلى آدم ليرى ماذا يدعوها. وكل ما دعا به آدم ذات نفس حية فهو اسمها.. وأما لنفسه فلم يجد معينا نظيره.... وبنى الرب الإله الضلع التي أخذها من آدم وأحضرها إلى آدم. فقال آدم هذه الآن عظم من عظمي ولحم من لحمي. هذه تدعى امرأة لأنها من امرء أخذت. لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكونان جسدا واحدا." (تكوين 18:2-24)

إذن تبيَّن لله الخالق بأنه ليس جيداً أن يكون آدم وحده، كما تبين لآدم نفسه هذه الحقيقة إذ لم يجد من بين كل المخلوقات معيناً نظيره. عندها أتاه الله بالمرأة التي بناها من ضلعه. فعبّر آدم عن فرحته بها لأنها عظم منه ولحم منه. هي النظير الذي يستأنس به فيُذهب عنه وحشته. هي المعين والعاضد. هي الشريك الذي يلازمه فيصبح جزءاً منه ويصبح هو جزءا منها. لقد عمل الله الإنسان بشقَّيه على صورته كشبهه، في العقل والإدراك والإبداع والتواصل، إذ كانا عند هبوب ريح النهار يسمع آدم وحواء صوت الله ماشيا في الجنة. وهذا دليل على شركته المتواصلة معهما. إن الله الخالق هو بكر أي مُبدءُ العلاقاتِ ومنشؤها، لهذا لم يُرِدْ أن يعيش الإنسان بعد العصيان، في بُعدٍ عنه. فشاءت محبته العظيمة أن يدبَر خطة لكي يستعيد هذه الشركة المقطوعة بينه وبين الإنسان. ولهذا تنازل بنفسه في هيئة البشر، وولد المخلص والفادي يسوع المسيح من العذراء المباركة لكي يتمِّم فداء البشرية ويعيد الصلة إلى ما كانت عليه سابقاً قبل السقوط. وهذا ما تمَّ فعلا حين مات على الصليب بديلاً عن الإنسان إذ حمل بنفسه عقاب خطايانا وعصياننا. لكنه قام من بين الأموات ليمنحنا النصرة والغلبة على الخطية وليعطينا رجاء أكيداً بالحياة الأبدية.

نعم، الإله الخالق العظيم هو منشئُ لغة التواصل والمؤسس الأول للعلاقات. فهل يلبي الإنسان دعوته لإقامة شركة حية معه من جديد؟ أم يبقى غيرَ مكترث غائصاً في عالم الجمود بعيداً عن العلاقة الحية والشركة الصحيحة بينه وبين إلهه؟ وإذا كان التواصلُ بين البشر وخاصةً بين أفراد العائلة الواحدة مهمّاً لتناغُم الحياة وانسجامها، فكيف هو الحال بالنسبة للتواصل بين الله الخالق  والإنسان بشقيه الذي هو  تاج مخلوقاته؟

المجموعة: 200706