أيلول (سبتمبر) 2007

نقرأ في الأصحاح التاسع من بشارة مرقس وفي الأعداد 2-27 عن حادثتين يبرز لنا الروح القدس فيهما مشهدين من أكثر المشاهد أثراً في النفس ولكنهما متناقضان ومتباعدان:

 

أولهما مشهد يصف الجلال والبهاء الذي أحاط بالمسيح يسوع وهو على جبل التجلّي، وثانيهما يصوّر البلوى والشقاء اللذين كانا يحيطان برجل مسكين له ولدٌ معذّب بروح شرير.

¨  في المشهد الأول، أي ”على الجبل“ نرى الإنسانية بأبهى صورها متمثّلة في ابن الله القدوس الذي كان يسرّ بأن يدعو نفسه ”ابن الإنسان“ وهي ترتفع إلى أعلى مراتب السموّ والعظمة.

¨  وفي المشهد الثاني أي ”أسفل الجبل“ نراها في أحطّ أشكالها متمثّلة في ذلك الولد المصاب بالروح النجس وقد انحدرت إلى أسفل درجات الخيبة واليأس.

¨  على الجبل نسمع صوت الآب السماوي يعلن عن محبته ورضاه وسروره بالابن الحبيب يسوع من أجل طاعته  في تنفيذ مشيئة الآب بعمل الفداء. ”مع كونه ابناً تعلّم الطاعة مما تألم به. وإذ كُمّل صار لجميع الذين يطيعون سبب خلاص أبدي“. ولكن في أسفل الجبل نسمع صوت أب يشكو بمرارة الأسى حالة ابنه الذي تملّكه الشيطان فصار مثالاً لجميع الذي تسلّط عليهم إبليس.

¨  على ذلك الجبل نرى موسى رئيس النظام الرمزي، وإيليا رئيس النظام النبوي في العهد القديم يتحدّثان مع يسوع فيخبرهما عن خروجه الأخير الذي كان مزمعاً أن يكمّله في أورشليم، أي عمل الفداء بموت الصليب، وقد استراحت نفساهما إلى ذلك القرار الخطير الذي اتخذه الفادي ليخلّص البشرية المعذّبة من الخطية وآثارها. وفي أسفل ذلك الجبل أتباع العهد القديم وأدعياء التديّن في تعصّبهم الأعمى يحاورون التلاميذ ويماحكون بالكلام رافضين الإيمان بذلك المخلّص ورافضين طريق الله الذي أعدّه لخلاص العالم، وقد اضطربت نفوسهم خوفاً على مراكزهم الدينية وامتيازاتهم الدنيوية.

¨  على ذلك الجبل نرى بداية النصر العظيم الذي حققه ابن الله على قوات الجحيم مؤيَّداً بشهادة الآب السماوي ”هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت. له اسمعوا“. ولكن في أسفل الجبل نرى نهاية الفشل الذريع الذي أصاب التلاميذ حين عجزوا عن إخراج ذلك الروح الشرير وذلك بشهادة أبي الولد ”فقلت لتلاميذك أن يخرجوه فلم يقدروا“. ومن جرّاء فشل التلاميذ هذا خيَّم اليأس بظلٍ قاتم على إيمان ذلك الرجل، فداخله الشك حتى بقدرة المسيح ظاناً أنه سيقف عاجزاً كتلاميذه ولكن من غير أن يقطع الأمل، فجاء متوسّلاً يقول للرب: ”إن كنت تستطيع شيئاً... فتحنّن علينا وأعنّا“. إن منظر الضعف والفشل في حياة تلاميذ المسيح في كل زمان ومكان يصُدّ الكثيرين عن المجيء إلى الرب أو يقلّل من ثقتهم بقدرته الفائقة.

¨  كانت عبارة ذلك الأب ضعيفة وغير مرضية في نظر البشر لأن فيها معنى الشك ”إن كنت تستطيع“، ولكن المسيح له المجد لم يطفئْ تلك الفتيلة المدخّنة، ولم يقصف تلك القصبة المرضوضة، ورغم الشك الكامن في عبارة ذلك الإنسان فإنها كانت مصوغة بالتعبير الصحيح والاعتراف بأمرين: الأول وهو أن القدرة على عمل أي شيء هي للرب وحده. والثاني هو: إن الضعف البشري بحاجة دوماً إلى عون سماوي.

¨  وكان ردّ المسيح - له المجد - مُصاغاً بكل حكمة السماء ”إن كنت تستطيع أن تؤمن، كل شيء مستطاع للمؤمن“ . وقد صرح أيضاً بأمرين: الأول هو، إن الله يتعامل مع البشر من خلال إيمانهم، والثاني هو أن الإيمان الحقيقي الكامل يفعل المستحيل. ولكن إيمان ذلك الإنسان ترنّح تحت ثقل مصيبته وعجزه البشري فصرخ بدموع: ”أؤمن يا سيد، فأعن عدم إيماني“. وكانت الجملة الأخيرة هي بداية النصرة على الضعف وعلى عدم الإيمان الكامل وذلك بمعونة الرب.

كثيرون هم الناس الذين لا يستطيعون أن يؤمنوا إيماناً حقيقياً ولذلك يفشلون في طلب أية بركة أو في الحصول على أية نتيجة لما يصلّون لأجله، ولكنهم يحمّلون الفشل للرب وليس لأنفسهم.

¨  وإيمان ذلك الرجل كان منذ القديم وما زال حتى الآن موضوع جدل وخلاف بين المفسرين، فالبعض اعتبره إيماناً صريحاً كاملاً بناء على قول الكتاب: ”لأنه يجب أن الذي يأتي إلى الله يؤمن بأنه موجود وأنه يجازي الذين يطلبونه“ (عبرانيين 6:11). ويقول هؤلاء: إن التصريح بعدم الإيمان أمام الرب هو من باب التواضع لأجل طلب المعونة وقوة الإيمان من الرب.

وآخرون قالوا: إن هذا الرجل كان عنده شك قاتل فكيف يقول للرب: ”إن كنت تستطيع شيئاً“؟

وقال آخرون: هو إيمان يشوبه بعض الشك.

وقال غيرهم: هو شك يمازجه بعض الإيمان.

ولسنا في معرض التحليل الفلسفي لصلاة ذلك الرجل، ولكن يتبيَّن لنا في تعامل الرب معه أن الشك الذي راوده كان شكاً مبرراً بنظر المسيح لم يصل إلى درجة الفشل وإن وصل إلى درجة الخوف، والرب دائماً يسند ضعف الضعفاء.

فهل أمامك مشكلة ما أو قد تظنّ أحياناً أن الرب لا يتدخّل في شؤونك أو أنه لا يريد أو حتى لا يستطيع أن يساعدك؟!! أو أنك تنظر إلى ضعفات الآخرين من قادة دينيين وغيرهم فتفشل؟!!

وهل نستطيع نحن أن نؤمن أم نحن في عجز تام عن مواجهة اختبار الإيمان؟ ولنعلم أن الرب لا يتدخّل في أي أمر يهمنا ما لم نطلب منه ذلك بإيمان واثق. وإن لمسنا في إيماننا ضعفاً، ليتنا نطلب منه العون كما فعل ذلك الرجل!

قارئي الكريم،

إن كل حادثة سجّلها الوحي في الإنجيل المقدس لهي مثال لحالة متكررة من حالات البشر، وقد دُوِّنت لتكون فيها عبرة لكل من يقرأ أو يسمع هذه الحادثة ويتمعّن في تفصيلاتها ومعانيها.

وجميعنا مدعوّون لأن نتعلّم من كلمة الله لا دروساً نظرية فقط بل أن نطبّقها عملياً في حياتنا لكي نستطيع أن نستفيد منها في الوقت المناسب. يقول الكتاب: ”لأن كل ما سبق فكُتب كُتب لأجل تعليمنا حتى بالصبر والتعزية بما في الكتب يكون لنا رجاء“ (رومية 4:15).

ويقول أيضاً: ”وأما هذه فكُتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله ولكي يكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه“ (يوحنا 21:20).

ووعد الرب صريح يقول: ”وادعني في يوم الضيق أنقذك فتمجّدني“ (مزمور 15:50). ويقول أيضاً: ”كل ما يعطيني الآب فإليّ يُقبل. ومن يُقبل إليّ لا أخرجه خارجاً“ (يوحنا 7:6). فلنأتِ إليه بكل ثقة طالبين العون لإيماننا الضعيف ونضع أمامه المشكلة التي نعاني منها. إنه موجود دائماً وقادر أن يعين ضعفاتنا ويستجيب طلباتنا ليؤول ذلك لحمد نعمته ولمجد اسمه العظيم.

المجموعة: 200709