آب (أغسطس) 2008

كتب السير ريتشرد غريغوري، أحد محرري المجلة العلمية الإنكليزية "الطبيعة" مرثاته بيده وقد جاء فيها:

 

”بَشَّر جدِّي بإنجيل المسيح، وبَشَّر والدي بإنجيل الاشتراكية، أما أنا فأبشِّر بإنجيل العلم“.

وهناك كثيرون من أتباع ترتليان الذي كتب في القرن الثالث حين كانت الفلسفة تشمل العلوم الطبيعية:

"الفلسفة هي حكمة هذا العالم، وهي التفسير الأرعن للطبيعة ومقاصد الله... نحن لا نريد مباحثات تفتيشية بعد حصولنا على المسيح يسوع، ولا أبحاثاً بعد تمتعنا بالإنجيل."

لا بد من الإقرار أن الكثيرين من الناس يعتقدون برسوخ أن العلم والمسيحية ضدان لا يصطلحان. فكثيرون من المتكلمين بلسان المسيحية يُظهرون في مناسبات مختلفة تحفّظاً ملحوظاً وعداء مستوراً ضد العلم وتطوّره. وهنالك خوف دفين من أن الأبحاث العلمية تهدد الأسس المسيحية وأنها ستتطور إلى درجة تُحطِّم فيها صرح المسيحية التاريخية.

وفي نفس الوقت، هنالك كثيرون من العلماء الذين ما زالوا يكنّون للمسيحية العداء التقليدي القديم. كما أن البعض منهم يستخدمون مراكزهم الحساسة وسلطتهم المقبولة في حقولهم الخاصة لكي يدعموا مجاهرتهم بالإلحاد والمبادئ المضادة للمسيحية، وكأن مبادئهم هذه قسم جوهري من العِلم.

من المستحيل، لا بل من الغباوة، أن يتجاهل المسيحي المؤمن الحقائق العلمية. ومن المستحيل، لا بل من الغباوة أيضاً أن يتجاهل العالِم المخلص وجود المسيحية. فالإنسان هو عامل مشترك لكليهما. وبكلمة أخرى، لا يمكننا أن نحدد نشاط العلوم والمسيحية بشكل لا يتشابكان فيه. فلو استطعنا ذلك لما وُجدت هنالك مشادة. لو تمكنا أن نحدد العلوم بالوصف والتحليل الطبيعيين، والمسيحية بعلاقة الإنسان بالله لهان الأمر. إلا أن العلوم هي أكثر من وصف وتحليل. هي فلسفة تؤثر على نوعية التفكير والنظرة نحو الحياة. ولذا كان عنوان بحثنا "المسيحية والتفكير العلمي" وليس "المسيحية والعلم". والفرق شاسع بين الاثنين.

إن التوتر الظاهري بين المسيحيين والعلماء قد يكون مرده إلى أسباب كثيرة منها:

1- محاولات اللاهوتيين السابقة والعديدة أن يحدّوا من نشاط العلوم وأن يوسّعوا سلطانهم خارج نطاق اللاهوت إلى العلوم الطبيعية.

2- نمو كبرياء العلوم إلى درجة أصبح بعض العلماء يظنون فيها أن العلوم ستحل كل مشاكل الإنسان وأن كل تفكير غير علمي، كالتفكير الماورائي واللاهوتي، هو تفكير سخيف قديم.

3- جهل طبيعة العلم وحدوده، وجهل طبيعة المسيحية وحدودها من قبل المسيحيين والعلماء على السواء. جاء في خطاب لأحد العلماء يعرّف فيه الديانة (المسيحية):

"إن الديانة قبل كل شيء في جوهرها وأساسها عاطفة، أو، إذا أردت، مجموعة عواطف، كالخوف، والاحترام، والمحبة والشعور بالسرية، والإحساس باتحاد مع ذات كبرى، والحنان، ولمسة ولذة حضور روحي - هذه الأمور ليست فكر بل هي أحساس وعواطف".

من البديهي أن المسيحية تشمل العواطف، ولكن التركيز على هذه العواطف والتغاضي عن الأمور الأخرى هو التغاضي عن القسم الأهم في المسيحية.

كثيرون من العلماء، عندما يتكلمون عن المسيحية، يحاولون تذكر ما سمعوه أو درسوه في مدارس الأحد من سنوات عديدة، أو يعيدون ما قرأوه في كتب غير مسيحية، ولا شك أن هذا التصرف يتنافى مع التفكير العلمي الناضج الذي يأبى إلا أن يأخذ الحقائق من مصدرها الأصيل. فالمسيحية تستحق درساً وافياً من قِبل كل من يريد أن يلفظ حكمه عليها على الأقل بقدر ما تستحق الإشعاعات الفضائية أو تصرفات النمل من دراسة ووقت.

إلا أن هذا لا يعني أن عدم التبحر هو خطأ العلماء فقط. فالمؤمنون مذنبون جداً بإصدارهم الأحكام الجائرة على العلوم في المجلات والكتب ومن على المنابر دون أن تكون لديهم معرفة كافية عن طبيعة العلوم. فإذا كان المؤمن يرغب أن يبقى في "بركة" جهل العلوم فلا يحسب أن جهله هذا شهادة كافية تؤهله لأن يحكم على خطأ أو صوابية النظرية العلمية هذه أو تلك. فالمرء يخشى ما يجهله أو ما يعرفه معرفة ناقصة. ولذلك نرى المؤمنين يشدون حبل التوتر بينهم وبين العلم بعصبية ومزاج حاد وكأن العلم من أثواب الشيطان.

4- والسبب الرابع في حدة التوتر بين المسيحيين والعلماء هو النظرة العامة نحو الفريقين التي تتلخص بما يلي:

أ- كل المسيحيين متحيزون

ب- كل العلماء غير متحيزين

ج- يحق للعالِم ولكن لا يحق للمسيحي أن يلجأ إلى سلطة خارجية

د- إن اللاهوتيين المحترفين هم في مصاف العلماء الهواة وكلا الفريقين لا يستحقان الاحترام.

لا شك أن نظرة كهذه مشحونة بالتمييز الذي لا يعتمد على أسس جوهرية. فالمركز الحساس الذي كسبه العالم نتيجة أبحاثه لا يجعله من جبلة أخرى أو يجعله خبيراً في سائر الحقول.

فلكي نخفف من حدة التوتر القائم بين المعسكرين العلمي والمسيحي سنحاول أن نبحث بطريقة موضوعية المسيحية والتفكير العلمي علّنا نستطيع أن نبدد بعض المشاكل المفتعلة ونحاول تحليل بعض المشاكل الأساسية. وإن خير علاج لأية مشكلة هي إبراز الحقائق الوافية، وحيث توجد معرفة صادقة للمسيحية وللتفكير العلمي تخف إمكانية سوء الفهم.

 (عن مجلة الغريب - يتبع في العدد القادم)

المجموعة: 200808