آب (أغسطس) 2008

تلاقى الله مع يعقوب أبي الأسباط، فطلب يعقوب منه طلبة، قال: ”لاَ أُطْلِقُكَ إِنْ لَمْ تُبَارِكْنِي“ (تكوين 26:32)، فباركه هناك بأن غيَّره، وقال له: ”لاَ يُدْعَى اسْمُكَ فِي مَا بَعْدُ يَعْقُوبَ [أي المتعقِّب] بَلْ إِسْرَائِيلَ [أي المجاهد مع الله]، لأَنَّكَ جَاهَدْتَ مَعَ اللهِ وَالنَّاسِ وَقَدِرْتَ“ (تكوين 28:32).

فأطلق يعقوب على ذلك المكان اسم ”فنيئيل“ وهو اسم يتكوّن من كلمتين عبريَّتين تعنيان ”وجه الله“ وقال: ”لأَنِّي نَظَرْتُ اللهَ وَجْهاً لِوَجْهٍ وَنُجِّيَتْ نَفْسِي“. فنال أسمى بركة.

 

ولا بد أن يعقوب وجد في جدِّه إبراهيم مثالاً يَحتذي به، فقد كلَّم الله إبراهيم سبع مرات قبل أن يمتحنه بتقديم ابنه إسحاق ذبيحة، وإذ جاز الامتحان بنجاح باركه هناك وقال له: ”أُبَارِكُكَ مُبَارَكَةً، وَأُكَثِّرُ نَسْلَكَ تَكْثِيراً.. وَيَتَبَارَكُ فِي نَسْلِكَ جَمِيعُ أُمَمِ الأَرْضِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ سَمِعْتَ لِقَوْلِي“ (راجع تكوين 1:12 و14:13 و1:15 و1:17 و1:18 و12:21 و1:22) فنال إبراهيم أسمى بركة، ودُعي ”خليل الله“ (إشعياء 8:41).

وتلاقى الله مع موسى وأعلن له أنه ”الكائن الذي يكون“ وباركه، فقيل عنه: ”يُكَلِّمُ الرَّبُّ مُوسَى وَجْهاً لِوَجْهٍ كَمَا يُكَلِّمُ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ“ (خروج 11:33).

وتلاقى الله مع النبي إشعياء فسمع الملائكة يرنمون له: ”قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْجُنُودِ. مَجْدُهُ مِلْءُ كُلِّ الأَرْضِ“ فشعر بخطيته، وقال: ”وَيْلٌ لِي! إِنِّي هَلَكْتُ، لأَنِّي إِنْسَانٌ نَجِسُ الشَّفَتَيْنِ“. فَطَارَ إِلَيّه أحد الملائكة وَبِيَدِهِ جَمْرَةٌ مَسَّ بِهَا شفتيه وَقَالَ: ”انْتُزِعَ إِثْمُكَ وَكُفِّرَ عَنْ خَطِيَّتِكَ“ (إشعياء 6)، فباركه هناك.

وتلاقى المسيح مع بطرس فاكتشف بطرس أنه خاطئ، فقال للمسيح في تعجُّل وبغير رويَّة: ”اخْرُجْ مِنْ سَفِينَتِي يَا رَبُّ لأَنِّي رَجُلٌ خَاطِئٌ“ (لوقا 8:5). ولم يخرج المسيح من سفينة بطرس لأنه رأى قلبه المُنكسر، فباركه هناك.

فإن كنا اليوم متشوِّقين للبركة، فلنتبع النماذج الكتابية التي قدَّمها الوحي لنا. وسنركز في تأملنا هنا على بركة الرب ليعقوب أبي الأسباط:

مشكلة سبقت البركة

واجه يعقوب مشاكل كثيرة، لعل سببها أنه كان ذا شخصيتين، واقعه شيء، وهو يُظهِر للعالم شيئاً آخر. فعندما سأله أبوه: ”مَنْ أَنْتَ يَا ابْنِي؟“ أجاب: ”أَنَا عِيسُو بِكْرُكَ. قَدْ فَعَلْتُ كَمَا كَلَّمْتَنِي. قُمِ اجْلِسْ وَكُلْ مِنْ صَيْدِي لِتُبَارِكَنِي نَفْسُكَ“. فقال له إسحاق أبوه: ”تَقَدَّمْ لأَجُسَّكَ يَا ابْنِي. أَأَنْتَ هُوَ ابْنِي عِيسُو أَمْ لاَ؟“. ولما جسَّه قَالَ: ”الصَّوْتُ صَوْتُ يَعْقُوبَ، وَلَكِنَّ الْيَدَيْنِ يَدَا عِيسُو“. وعاد يسأل: ”هَلْ أَنْتَ هُوَ ابْنِي عِيسُو؟“ فَقَالَ: ”أَنَا هُوَ“ (تكوين 27). لم يكن هو عيسو، لكنه أظهر لأبيه الأعمى أنه عيسو، ليأخذ لنفسه شرف البركة والبكورية وقيادة الأسرة.

ولكن عندما سأل الله يعقوب: ”مَا اسْمُكَ؟“ قَالَ: ”يَعْقُوبُ“. فقد كان مستحيلاً أن يخفي هويته عن الله، ولا أن يكون بغير ذاته الحقيقية!

قد نلبس قناعاً يخفي حقيقتنا، لكن عندما نتواجه مع الله يكشف لنا أنفسنا على حقيقتها، ويقول: جاهدتَ مع الناس مخادعاً، وجاء الوقت الذي يجب أن تجاهد فيه معي بصدقٍ فتنتصر.

بركةٌ بالرغم من...

1- بارك الله يعقوب بالرغم من خداعه وتعقُّبه لأخيه وأبيه وخاله.

كان قد خدع أباه وأخاه وأخذ البكورية، فقرر عيسو أن يقتله. ورأت أمه أن أفضل طريقة لإنقاذه أن يسافر من بيت أبيه إلى بيت خاله ويبقى هناك. فسافر تلك المسافة الطويلة وحده. وكان هذا نتيجة أنانيته وتركيزه على ذاته.

وفي وحدته الناتجة عمّا ارتكبه، افتقده الله وأراه ”حُلْماً، وَإِذَا سُلَّمٌ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الأَرْضِ وَرَأْسُهَا يَمَسُّ السَّمَاءَ، وَهُوَذَا مَلاَئِكَةُ اللهِ صَاعِدَةٌ وَنَازِلَةٌ عَلَيْهَا، وَهُوَذَا الرَّبُّ وَاقِفٌ عَلَيْهَا يقول له: أَنَا الرَّبُّ إِلَهُ إِبْرَاهِيمَ أَبِيكَ وَإِلَهُ إِسْحَاقَ.. يَتَبَارَكُ فِيكَ وَفِي نَسْلِكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ. وَهَا أَنَا مَعَكَ وَأَحْفَظُكَ حَيْثُمَا تَذْهَبُ، وَأَرُدُّكَ إِلَى هَذِهِ الأَرْضِ لأَنِّي لاَ أَتْرُكُكَ حَتَّى أَفْعَلَ مَا كَلَّمْتُكَ بِهِ“.

واستيقظ يعقوب وقد أدرك أن الله موجود في ذلك المكان وهو لا يعلم. ولكنه بدل أن يشعر بمخافة الله ويتَّقيه أخذ يساومه، فنذر نذراً. قال: ”إِنْ كَانَ اللهُ مَعِي وَحَفِظَنِي فِي هَذَا الطَّرِيقِ الَّذِي أَنَا سَائِرٌ فِيهِ، وَأَعْطَانِي خُبْزاً لآكُلَ وَثِيَاباً لأَلْبِسَ، وَرَجَعْتُ بِسَلاَمٍ إِلَى بَيْتِ أَبِي، يَكُونُ الرَّبُّ لِي إِلَهاً، وَهَذَا الْحَجَرُ الَّذِي أَقَمْتُهُ عَمُوداً يَكُونُ بَيْتَ اللهِ، وَكُلُّ مَا تُعْطِينِي فَإِنِّي أُعَشِّرُهُ لَكَ“ (تكوين 28).

لقد وعده الله بالرعاية المجانية، هي رعاية النعمة. ولكن نذره كان يقول: يا رب، عطائي لك مشروطٌ بعطائك لي، فلو واجهتُ صعوبات أعجزتني عن العودة إلى بيت أبي إسحاق، فلن تكون إلهي، ولن أبني لك بيتاً، ولن أدفع لك العشور. هذا هو يعقوب المساوم. في وحدته كان أنانياً لأنه جعل من ذاته مركزاً لكل شيء.

2- وباركه الرب وهو يجوز في وحدة من نوع آخر.

كان يعقوب راجعاً من بيت خاله إلى بيت أبيه تنتظره مواجهة خطيرة مخيفة مع أخيه عيسو. فعبّر زوجتيه وجاريتيه وأولادهنَّ وكل ما كان له، وبقي وحيداً. هناك التقى الله به وتصارع معه وباركه (تكوين 32).

أرجو أن تكون وحدتنا مختلفة عن وحدة يعقوب هذه، فلا تكون نابعةً من أنانيتنا، بل من رغبتنا في أن نكون في محضر الله وأن نبقى أمامه، نختلي به ونكلمه، فقد قال المسيح: ”وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَلَّيْتَ فَادْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ وَأَغْلِقْ بَابَكَ، وَصَلِّ إِلَى أَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً“ (متى 6:6).

من بعيد، استطاع يعقوب في تلك الليلة أن يرى نار المعسكر حيث توجد أسرته ورجاله! ومن بعيد كان يسمع ثغاء أغنامه، أو نباح الكلاب، أو صفير أحد الرعاة! لكنه كان بعيداً وحده!

عندما نختلي بالله يجب أن نحوِّل تركيزنا وفكر قلوبنا إلى الله.

إن أردت أن يعطيك الله بركة، أين يجدك ليباركك؟ تعال إليه، اركع في حضرته، اختلِ به فيجدك ليباركك. لا تنسَ مخدع الصلاة ”اِسْهَرُوا وَصَلُّوا لِئَلا تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ“ (متى 41:26).

3- وبارك الله يعقوب في مكان كان فيه خائفاً.

فقد رجع إليه الرسل الذين أرسلهم ليسترضوا أخاه عيسو يقولون: ”أَتَيْنَا إِلَى أَخِيكَ، إِلَى عِيسُو، وَهُوَ أَيْضًا قَادِمٌ لِلِقَائِكَ، وَأَرْبَعُ مِئَةِ رَجُل مَعَهُ. فَخَافَ يَعْقُوبُ جِدًّا وَضَاقَ بِهِ الأَمْرُ“. فصلَّى: ”نَجِّنِي مِنْ يَدِ أَخِي، مِنْ يَدِ عِيسُوَ، لأَنِّي خَائِفٌ مِنْهُ أَنْ يَأْتِيَ وَيَضْرِبَنِي الأُمَّ مَعَ الْبَنِينَ“ (تكوين 6:32-7 و11).

كم نخاف عندما نخدع الآخرين فينكشف أمرنا! وكم نخاف عندما نقدم للناس صورة زائفة لتقوانا، غير صورتنا الحقيقية، فيرتفع القناع عن وجوهنا وتنكشف حقيقتنا!

في خوفنا ورعبنا من انفضاح خداعنا دعونا نتصالح مع الله ونخضع له.

هل أنت خائف أن يعاقبك الله على خطية ارتكبتها؟ إذاً، تعال واعترف بها فيغفر لك الله ويطهرك منها.

البركة.. لمن؟

1- بارك الله يعقوب عندما رفع صلاة شكر

قال في صلاته: ”يَا إِلهَ أَبِي إِبْرَاهِيمَ وَإِلهَ أَبِي إِسْحَاقَ، الرَّبَّ الَّذِي قَالَ لِيَ: ارْجعْ إِلَى أَرْضِكَ وَإِلَى عَشِيرَتِكَ فَأُحْسِنَ إِلَيْكَ. صَغِيرٌ أَنَا عَنْ جَمِيعِ أَلْطَافِكَ وَجَمِيعِ الأَمَانَةِ الَّتِي صَنَعْتَ إِلَى عَبْدِكَ. فَإِنِّي بِعَصَايَ عَبَرْتُ هذَا الأُرْدُنَّ، وَالآنَ قَدْ صِرْتُ جَيْشَيْنِ“ (تكوين 9:32-10). هذه صلاة شكر واعتراف بفضل الله. لقد عبر نهر الأردن إلى بيت خاله ليس بيده إلا عصا يتوكّأ عليها، وها هو يعود إلى بيت أبيه ومعه جيشان من الأبناء والأغنام والرجال الذي يعملون عنده.

كم هو جميل أن نعترف بالفضل، فإن كل ما عندنا هو من عطاياه السخيَّة
(1كورنثوس 7:4). لنرتل: ”بَارِكِي يَا نَفْسِي الرَّبَّ، وَكُلُّ مَا فِي بَاطِنِي لِيُبَارِكِ اسْمَهُ الْقُدُّوسَ. بَارِكِي يَا نَفْسِي الرَّبَّ، وَلاَ تَنْسَيْ كُلَّ حَسَنَاتِهِ“ (مزمور 1:103-2). ولنقُل مع داود: ”لأَنَّ مِنْكَ الْجَمِيعَ وَمِنْ يَدِكَ أَعْطَيْنَاكَ“ (1أخبار 14:29).

نحن نتذمر ونشكو كثيراً، وننسى أفضال الله الكبيرة علينا. فلنرفع شكراً قلبياً لإلهنا الذي يُنعم علينا بأكثر مما نطلب أو نفتكر فيباركنا كما بارك يعقوب.

2- وبارك الله يعقوب لما صلى بأمانة حقيقية وتمسَّك بالرب بقوة

لقد قال: ”لاَ أُطْلِقُكَ إِنْ لَمْ تُبَارِكْنِي“. وهذا الصراع في طلب البركة دليل على أمانة يعقوب فيما أراده.

كثيراً ما نطلب من الله بفتور، وإن لم ننل ما طلبناه لا نعود نطلبه مرة أخرى! فهل نطلب ما نحتاجه فعلاً؟ كم من الوقت نصرفه في الصلاة أمام الله؟ قال المسيح: ”اسْأَلُوا تُعْطَوْا. اطْلُبُوا تَجِدُوا. اِقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ. لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْأَلُ يَأْخُذُ، وَمَنْ يَطْلُبُ يَجِدُ، وَمَنْ يَقْرَعُ يُفْتَحُ لَهُ“ (لوقا 9:11-10).

كيف بارك الله يعقوب؟

1- باركه بأن دعاه للقداسة

قال له: ”جَاهَدْتَ مَعَ اللهِ وَالنَّاسِ وَقَدِرْتَ“. كان يعقوب ناجحاً جداً حسب الجسد وهو عائد إلى بيت أبيه، ولكنه روحه ونفسه كانتا ترتعشان داخله رُعباً من عيسو، فالثروة لن تحقق لنا الأمان. كان يعقوب راضياً عن نفسه كرجل أعمال، لكن كل المحيطين به لم يكونوا راضين عنه، وكان لا بد أن يتغيّر ليَسعد الآخرون به، فلا يتعقب فيما بعد، ولا يخدع الناس أحداً، بل يجاهد مع الرب فيباركه ببركات النعمة.

هل تجد الأمان في رصيدك في البنك؟ أو في أن تكون محاطاً بأفراد أسرتك الذين يحبونك؟ أو في مكانتك الاجتماعية؟ هذه كلها أمور خارجية، والخارجي لا يدوم. ركّز على ما في داخل نفسك. ركّز على شخصيتك وعلى علاقتك بالله.

2- ثم باركه الله بأن جعله بركة

 لا يكفي أن يكون بركة لنفسه، بل ليأخذ هو ويعطي الآخرين. ”النَّفْسُ السَّخِيَّةُ تُسَمَّنُ، وَالْمُرْوِي هُوَ أَيْضاً يُرْوَى“ (أمثال 25:11). ليملأك الله بريِّه السماوي فتفيض على الآخرين ليرتووا. كُن كنهر النيل ونهر الأردن وبحيرة طبرية، تفيض بالبركة على الآخرين.

3- وباركه الله بأن صالحه مع عيسو

”فَرَكَضَ عِيسُو لِلِقَائِهِ وَعَانَقَهُ وَوَقَعَ عَلَى عُنُقِهِ وَقَبَّلَهُ“ (تكوين 4:33). يباركك الله عندما يصنع سلاماً بينك وبين الآخرين.

هل أنت في خصام؟

هل تشكو من شريك حياتك؟

أو من صديق لك؟

اطلب من الله الآن أن يباركك وينزع سوء التفاهم، فهذا من أعظم البركات لك!

المجموعة: 200808