شباط (فبراير) 2008

كان حديثه مفاجئاً أثار بعض الضيق في نفسي، وفكرت:

- هذا مبشّر طفيلي يلقي شباكه حولي.

وكأنما الرجل أحسّ بضيقي فغيّر مجرى حديثه وسألني:

- هل أنت من الشرق الأوسط؟

- نعم.

- من أي بلد؟

- من لبنان، ومن بيروت بالذات.

 

- لقد سبق لي أن زرت بيروت في أول رحلة مهنية قمت بها خارج إنكلترا.

فسألته بخبث:

- رحلة تبشيرية؟

فضحك ملء شدقيه، ثم قال:

- لماذا تظن أن كل من يتحدّث عن الله هو مبشر؟

فاعتورني شيء من الخجل، وقلت معتذراً:

- آسف، ظننتك..

فقاطعني:

- لا بأس، لا بأس يا بنيّ، دعني أقدّم لك نفسي: أنا ”جيمس براون“ وهذه زوجتي.

- فعلَتْ محياي الدهشة، وهتفت:

- جيمس براون الصحفي!

فابتسم وأجاب:

- نعم ”جيمس براون“ الصحفي المتقاعد.

وأسرعت أشدّ على يديه بحرارة وأحيّي زوجته، ثم قدّمت له نفسي، كطالب تخرّج حديثاً من معهد الصحافة، وها هو يعود إلى بلاده ليشقّ طريقاً لعلها من أكثر الطرق وعورة. ثم قلت:

- منذ سنتين وأنا أحاول الاتصال بك، وفي كل مرة كنت أبوء بالخيبة.

- لماذا؟

- لغيابك المستمر في جولاتك الصحفية.

- متطلبات المهنة، على كل، لماذا كنت ترغب في مقابلتي؟

- لأنك أكبر صحفي عرفته هذه البلاد.

- هذا إطراء

- لا يا سيدي، إنني مُعجب جداً بتحقيقاتك الصحفية، وقدرتك الهائلة على الحدس، فأردت أن أعرف منك بعض أسرار الصحفي الناجح.

فربّت على كتفي برفق وقال:

- سر المهنة الأعظم هو في حبك لها إلى حدّ العشق، وبمقدار ما تعطيها من ذاتك تعطيك هي من نتاج.

وتدخّلت زوجته في الحديث لأول مرة قائلة:

- ومن ثم عليك أن لا تتزوّج سواها وإلا، إما أن تترك زوجتك أو تتخلى عن الصحافة.

وجلجلت ضحكة ”جيمس براون“ فوق المياه الزرقاء وهو يقول:

- مهنة الصحافة هي ضرّة كل زوجة، فاحذر...

والواقع أنني وجدتُ نفسي أتحدّث إلى هذا الصحفي وزوجته بحرية ورضى، وكأنني أعرفهما منذ زمن بعيد؛ وتلاشى مني كل شعور بالنفور من حديثه السابق عن الله، بل كيف يمكنك أن تنفر من الحديث مع أحد أشهر صحافيي العصر.

ولم يلبث السيد ”جيمس براون“ وزوجته أن اعتذرا مني، وانصرفا إلى قمرتهما، بعد أن تواعدنا على اللقاء على مائدة العشاء في قاعة الباخرة.

لم أكن أدري، حتى تلك اللحظة، أن هذا اللقاء سيكون بداية قصة أشبه بالحلم المزعج، بل إن السيد براون بحدسه، ما كان يتوقّع ما جرى.

في تلك الأمسية، التقيت السيد ”جيمس براون“ وزوجته على مائدة العشاء التي شاءت السيدة براون أن تكون منزوية في ركن من القاعة، قائلة:

- هنا يمكننا أن نتحدّث من غير أن يقاطعنا أحد.

فقلت:

- إنني سعيد يا سيدتي بلقائي بكما، ولشدّ ما أتمنى أن تطول هذه الرحلة لأزداد بكما معرفة.

فتمتم السيد براون وأجاب:

- عندما أفكّر بواقع الإنسان أدهش لمجريات حياته. فعلى الرغم من حريته وإرادته، فإن قوة ما، أحياناً، تسيّر خطواته. انظر مثلاً: لقد حاولت مقابلتي في لندن أكثر من مرة على غير طائل، وها نحن، هنا، نقضي معاً وقتاً طويلاً على ظهر باخرة في عرض البحر، من غير سابق موعد مضروب.

فقلت:

- إنها الصدف.

فتأملني بهدوء وأجاب:

- الصدف؟! أخشى أنني لا أوافقك على هذا الرأي، فإنني أعتقد في قرارة نفسي أن ما نسميه بالصدف ليس سوى إرادة الله في حياتنا.

مرة أخرى فاجأني بعبارته التي لم أكن أتوقّعها من صحفي كبير، ولم أحر جواباً.

- لعلّك تعجب من حديثي، ربما أنت على حق، فكل شيء في حياتنا نعزوه إلى الصدف. ولكن ما هي الصدفة؟ فكّر معي قليلاً.. ألا يمكن أن تكون هناك قوة ما تخطط لحياتي وحياتك.. قوة خفية لا تدركها الأبصار؟

فقاطعته:

- وماذا عن إرادة الإنسان واختياره؟

فلاح عليه التفكير، ثم قال:

- الإرادة هي محك الرفض والقبول. فأنت مثلاً، كان بوسعك أن ترفض التحدّث إليّ والجلوس معي على هذه المائدة أو حتى التعرّف إليّ..

وفجأة سألني:

- هل أنت مؤمن؟

فتطلّعت إليه مبهوتاً؛ فرأيته يبتسم، وأجبت:

- إنني مسيحي، وولدت في أسرة مسيحية.

- لم تُجب بعد عن سؤالي: هل أنت مؤمن؟

- إنني أومن بالله والمسيح، والإنجيل.

- حسناً، هل تحيا إيمانك؟

فأطرقتُ قليلاً قبل أن أجيب:

- إنني مسيحي لأنني وُلدت في أسرة مسيحية.

فهزّ رأسه وقال:

- وهكذا كنت أنا أيضاً.

- وماذا أنت الآن؟

- إنني مؤمن، ولعلّ إيماني كان الحافز الأعمق على نجاحي في حياتي الصحفية.

أدركت في تلك اللحظة أن الحديث قد تحوّل من حديث عادي مألوف، إلى حديث ديني طالما كنت أتلافى الخوض فيه. فعلى الرغم من أن خالي كان كاهناً، ووالدتي امرأة تقية لم تهمل قط واجباتها الدينية، ولم تتخلّف يوماً عن قداس واحد إلا في حالات المرض الشديدة، ومع أن والدي كان وكيل أوقاف الكنيسة في الضيعة، فإنني لم أكن أحفل بالدين، وما كنت أحضر قداساً إلا في أيام الأعياد مراعاة لمشاعر والدتي التي كانت تصر علينا أن نذهب جميعاً كأسرة إلى الكنيسة في مثل تلك المناسبات. ولست أذكر أنني قد ذهبت إلى الكنيسة طوال وجودي في إنكلترا.

وتفرّست في هذا الصحفي العملاق وقلت:

- لولا أنني أسمع هذا الحديث منك بالذات لما صدقت أنك.. أنك..

- مؤمن..

- نعم، مؤمن.

- لماذا؟

ولم أدرِ بما أجيب. نعم لماذا؟ هل الإيمان عار؟ أهو خطيئة؟ وسمعت زوجته تقول:

- أنت ضحية شائعة رهيبة يا بني، فالمعتقد أن الإيمان لا يصلح إلا لفقراء الناس ومساكينهم وجهّالهم، أما ”المستنيرون“ من أصحاب العلم والثقافة، وأبناء المجتمع الأرستقراطي فلا حاجة لهم بالدين بل أن الدين لا يصلح لهم.

فأجبتها:

- الواقع أنني لم أجد في الدين ما يحفزني على البطولة والمغامرة بل على النقيض أرى فيه ضعفاً وخوراً بل جبناً.

- كيف؟

- خذي فكرة التسامح مثلاً ”من ضربك على خدك الأيمن أدر له الأيسر“، أليس في التسامح هذا كل ضعف؟

- ما رأيك بالمسيح الذي أحبّ وسامح في سبيل خلاص الإنسان، ثم لم يلبث أن جابه الموت بجرأة أذهلت التاريخ؟!

يتبع في العدد القادم

المجموعة: 200802