كانون الثاني (يناير) 2008

دراسة مزامير داود توضح لنا العديد من جوانب حياته الشخصية، خاصة علاقته مع الرب، ونوع الإيمان الذي كان له، ومدى ثقته واتكاله تماماً على نعمة وقوة الله في مجريات حياته.

فعندما يتغنى في مزمور 23 قائلاً: ”الرب راعيّ فلا يعوزني شيء...“ فإنه يعلن إيمانه وثقته في عناية الله ورعايته له. وعندما يكتب مزمور 27 ويبدأه بالقول: ”الرب نوري وخلاصي ممن أخاف، الرب حصن حياتي ممن أرتعب...“ فإنه يثق تماماً في حماية الله له من الأعداء والأشرار. وهكذا نراه يؤمن في صدق وأمانة الله الذي يسمع الصلاة ويستجيبها.

 

ثم يكتب في مزموره الأربعين قائلاً: ”انتظاراً انتظرت الرب فمال إليّ وسمع صراخي، وأصعدني من جب الهلاك، من طين الحمأة...“، بل كان دائماً يتطلع إلى الرب ويستند على مراحمه الصالحة، ومحبته العظيمة، وغفرانه للخطايا والآثام. فكتب المزمور المئة والسادس والثلاثين الذي يشيد في كل عدد منه بمراحم الرب الأبدية. أما مزمور 8:103-12 فيوضح علاقة المراحم الإلهية بصفات الرب وطبيعته المملوءة بالمحبة والحنان فيقول: ”الرب رحيم ورؤوف، طويل الروح وكثير الرحمة. لا يحاكم إلى الأبد ولا يحقد إلى الدهر. لم يصنع معنا حسب خطايانا، ولم يجازنا حسب آثامنا. لأنه مثل ارتفاع السموات فوق الأرض قويت رحمته على خائفيه. كبعد المشرق من المغرب أبعد عنا معاصينا. كما يترأّف الأب على البنين يترأّف الرب على خائفيه“.

لا مجال لنا الآن لشرح وتحليل كل ما جاء في مزاميره، بل عندما ندرسها نستطيع أن نلمس هذه الحقيقة. وهذا المقال لا يغطي كل جوانب الإيمان في حياة داود بل يركز على جانب واحد من الحياة الإيمانية عنده. ففي قصته مع جليات وانتصاره عليه أهم عناصر الإيمان الذي ينتصر في كل الظروف والأحوال، خاصة في المعارك وفي الحروب التي يواجهها. فالمعركة غير متكافئة من نواح عديدة. ومن حيث العدد والعدة، غلام صغير يحارب جباراً وجيشاً جراراً؛ راعي غنم يحمل عصا ومقلاعاً وحجارة، ويتحدّى رجل حرب وعملاقاً مسلحاً بجميع الأسلحة المعروفة في ذلك الوقت. فبحسب الموازين البشرية، إن استطلاع معاهد الرأي المتخصصة للإجابة عن السؤال: لمن سيكون النصر في هذه المعركة؟ يأتي الجواب جازماً: جليات سيسحق داود سحقاً ويعطي لحمه لطيور السماء. من المستحيل أن يكون النصر لداود بأي حال من الأحوال، لأن كل الدلائل تؤكد ذلك. لكن لو ذهبنا إلى معاهد استطلاع الرأي السماوية وطرحنا نفس السؤال عليها: لمن سيكون النصر في هذه المعركة؟ يأتي الجواب واضحاً: ”لا بالقدرة ولا بالقوة بل بروحي قال رب الجنود“ (زكريا 6:4). و”هؤلاء بالمركبات وهؤلاء بالخيل - أما نحن فاسم الرب إلهنا نذكر. هم جثوا وسقطوا، أما نحن فقمنا وانتصبنا“ (مزمور 7:20).

عيون الإيمان ترى المستحيل ممكناً وترى غير الممكن واقعاً حقيقياً. وهذا ما نراه في حياة داود الإيمانية في معركته مع جليات التي نستخلص منها بعض عناصر الإيمان المنتصر ونذكر منها:

أولاً: له أهداف واضحة مجيدة

هدفه في هذه المعركة يتركز على مجد الله وحده. فلما رأى داود جليات يعيّر صفوف الله الحي قال: ”لأنه من هو هذا الفلسطيني الأغلف حتى يعيّر صفوف الله الحي“
(1صموئيل 26:17). ثم أضاف قائلاً: ”فتعلم كل الأرض أنه يوجد إله لإسرائيل. وتعلم هذه الجماعة كلها أنه ليس بسيف ولا برمح يخلص الرب، لأن الحرب للرب وهو يدفعكم ليدنا“ (1صموئيل 46:17-47). بهذه الكلمات أراد أن يظهر قوة الله الفاعلة في الصغير والضعيف والأعزل كما في الكبير والقوي. فالإيمان المتوكل على الرب يوجّه جميع أهدافنا نحو مجد الله، فنختفي نحن ليظهر الرب ومجده في كل عمل نقوم به، وفي أي خدمة نؤديها، بل وفي أي كلمة ننطقها. ”فإذا كنتم تأكلون أو تشربون أو تفعلون شيئاً، فافعلوا كل شيء لمجد الله“ (1كورنثوس 31:10). الإيمان يضع الله في المقدمة دائماً.

ثانياً: له معنويات عالية وقوية

لم يصغِ إلى المفشّلين، ولم يلتفت إلى المقاومين، ولم يعطِ اعتباراً للمعيّرين والمحتقرين، بل كان له إيمان قوي للدخول في هذه المعركة غير المتكافئة لأنه استند على الرب. ونرى هذا في موقفه من ثلاثة أشخاص حاولوا أن يحبطوه ويمنعوه من الدخول في هذه المعركة التي هي للرب كما قال هو:

1- أخوه ألياب: يذكر الوحي عنه قائلاً: ”فحمي غضب ألياب على داود وقال: لماذا نزلت، وعلى من تركت تلك الغنيمات القليلة في البرية؟ أنا علمت كبرياءك وشر قلبك، لأنك إنما نزلت لكي ترى الحرب“ (1صموئيل 28:17).

2- الملك شاول: ”فقال شاول لداود: لا تستطيع أن تذهب إلى هذا الفلسطيني لتحاربه لأنك غلام وهو رجل حرب منذ صباه“ (1صموئيل 33:17).

3- جليات الجبار: ولما نظر الفلسطيني و”رأى داود استحقره لأنه كان غلاماً وأشقر جميل المنظر“ (1صموئيل 44:17).

أخوه ألياب يصفه بالكبرياء، وشاول الملك يقول له لا تستطيع أن تحاربه لأنك غلام، وجليات يتوعّده... وبدلاً من أن يسمع كلمات التشجيع من أخيه ومن الملك شاول، سمع كلام الإحباط والفشل. نرى هنا إيمان داود الذي لم يحبط ولم يفشل ولم ييأس، بل قال: ”الرب الذي أنقذني من يد الأسد ومن يد الدب هو ينقذني من يد هذا الفلسطيني“ (عدد 37).

في سفر العدد الأصحاح الثالث عشر نقرأ قصة تجسس الأرض، ونرى فيها الإيمان ذا المعنويات العالية التي تتخطى المستحيل وغير الممكن. قال الرجال العشرة: ”لا نقدر أن نصعد إلى الشعب لأنهم أشدّ منا. فأشاعوا مذمة الأرض التي تجسسوها في بني إسرائيل... لكن كالب ويشوع أنصتا الشعب إلى موسى وقالوا: إننا نصعد ونمتلكها لأننا قادرون عليها“ (العدد 31:13 و30).

قد يكون في حياتك مفشلون: الأخ الأكبر ألياب... أقرب شخصٍ لك. وقد يكون في حياتك شاول رئيسك أو شريكك في العمل يستخف بقدراتك ويشعرك بعدم كفاءتك. وقد يكون في حياتك جليات الجبار عدوك الذي يتربص لك بالمرصاد! يظهر هنا إيمانك الذي لا يفشل ولا يحبط ولا ييأس ”لأن الله لم يعطنا روح الفشل، بل روح القوة والمحبة والنصح“. الإيمان المنتصر له معنويات عالية جداً فلا يفشل، وأيضاً:

ثالثاً: له اختبارات عميقة ورائعة

يشهد عن قوة الله وعمله العجيب والعظيم في حياته، ويحكي اختباراته مع الرب وتعاملات الرب معه. عندما حاول الملك شاول أن يثني عزم داود ”فقال داود لشاول: كان عبدك يرعى لأبيه غنماً، فجاء أسد مع دب وأخذ شاة من القطيع. فخرجت وراءه وقتلته وأنقذتها من فمه. ولما قام عليّ أمسكته من ذقنه وضربته فقتلته. قتل عبدك الأسد والدب جميعاً. وهذا الفلسطيني الأغلف يكون كواحد منهما لأنه قد عيّر صفوف الله الحي. وقال داود: الرب الذي أنقذني من يد الأسد ومن يد الدب هو ينقذني من يد هذا الفلسطيني“ (1صموئيل 34:17-37). هنا يعلن داود أمام الملك شاول إنقاذ الرب له من الأسد والدب، ويعلن ثقته الكاملة أن الرب الذي أنقذه بهذه الصورة قادر أن ينقذه من جليات الجبار. الإيمان المنتصر له اختبارات عظيمة مع الرب، ويستمر متكلاً على الرب في كل شيء لأنه يعلم أن الله لم يتغيّر - فيسوع المسيح هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد - ويثق بأن الله يستمر معه في معاملاته الصالحة التي هي دائماً لخيره. كان لداود اختبارات عميقة مع الرب، وأيضاً:

رابعاً: له أسلحة روحية فعّالة

الإيمان المنتصر يستند على الرب تماماً ولا يستخدم أسلحة العالم بل يستخدم أسلحة الإيمان... الأسلحة الروحية!

ألبس شاول داود ثيابه الحربية ”وجعل خوذة من نحاس على رأسه وألبسه درعاً. فتقلّد داود بسيفه فوق ثيابه وعزم أن يمشي“ فلم يستطع. ”فقال داود لشاول: لا أقدر أن أمشي بهذه لأني لم أجربها. ونزعها داود عنه“ (1صموئيل 39:17). لاحظ قارئي العزيز هذه العبارات:

”لا أقدر أن أمشي بهذه... ونزعها عنه“. لم يسبق لداود أن استعمل هذه الأسلحة من قبل لكنه استخدم أسلحة الإيمان، استخدم اسم الرب، قال: ”أنت تأتي إليّ بسيف وبرمح وبترس. وأنا آتي إليك باسم رب الجنود“ (1صموئيل 45:17).

عزيزي القارئ، لا تستخدم أسلحة العالم، فهي لا تتناسب مع إيمانك، ومع قدرة إلهك وأمانته في حل جميع مشاكلك. وما أكثر أسلحة العالم: الكذب، والغش، والمكر والالتواء، والخداع والتزوير، واللفّ والدوران، إلخ... والكتاب المقدس يحذرنا في 1بطرس 1:2 قائلاً: ”فاطرحوا كل خبث وكل مكر والرياء والحسد وكل مذمة“، وفي أفسس 25:4 يقول: ”لذلك اطرحوا عنكم الكذب وتكلموا بالصدق“. فالإيمان يرفض أسلحة العالم الجسدية وأساليبه الملتوية، ويتمسك بالأسلحة الروحية التي هي أقوى من كل أسلحة العالم. فسلاح كلمة الله، والصلاة، والاتكال الكلي على اسم الرب وقوته والثقة في أمانته لهي أقوى من أي سلاح آخر.

إن هذا النوع من الإيمان الذي أهدافه واضحة وهي تمجيد اسم الرب، ومعنوياته عالية فلا يفشل في المعارك التي يجتازها، واختباراته عميقة ورائعة مع الرب، يستخدم الأسلحة الروحية ويرفض أساليب العالم الملتوية وأعمال الجسد، فلا بد أن يكون،

خامساً: له النصرة الأكيدة

انتهت معركة داود وجليات بسرعة فائقة. إنني أعتقد أنها أقصر معركة في تاريخ العالم ولم تستغرق إلا ساعات قليلة. لقد خرج منها داود منتصراً يحمل في اليد الأولى سيف جليات وفي اليد الأخرى رأسه في طريقه إلى الملك شاول.

لكي ننتصر في حروبنا ومعاركنا المتنوعة التي نخوضها يومياً، نحتاج إلى الإيمان الذي يستند على قوة الرب تماماً، ويجعل هدفه الأول مجد الرب وإعلاء اسمه فوق كل اسم، ويحارب جاثياً على ركبتيه، وقابضاً بقوة على سلاح الحق كلمة الله متمسكاً بمواعيده، ومتغنياً وشاهداً بقوة الله قائلاً: ”لا أنا بل نعمة الله التي معي“
(1كورنثوس 10:15)، ”ولكننا في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا“ (رومية 37:8). ”وهذه هي الغلبة التي تغلب العالم إيماننا“ (1يوحنا 4:5).

يا رب زد إيماننا لنغلب كل قوى الشر المحيطة بنا، آمين.

المجموعة: 200801