كانون الثاني (يناير) 2008

كان ذلك اليوم هو آخر يوم له في مجلة "الأفق الجديد". فاليوم يبلغ الخامسة والستين من العمر؛ أجل خمسة وستون عاماً قضى منها أربعين سنة في حقل الصحافة يتنقّل من مجلة إلى صحيفة، ومن صحيفة إلى مجلة، حتى استقرّ به الأمر في العشر سنوات الأخيرة في هذه المجلة.

 

أكان راضياً عن نفسه؟

لا يدري، وأيّ صحفي في الدنيا يمكن أن يجزم بأنه راضٍ عن نفسه أو غير راض؛ فالمنجزات الصحفيّة كالمرتفعات التي يتوق المرء إلى تخطيها، فلا يكاد يطأ بقدميه قمة إلا ويرى فوقها قمماً أخرى أكثر صعوبة تدغدغ طموحه، وتداعب خياله وتغريه.

نعم تغريه!

ولكنه اليوم يودّع عالم المخاطرات هذا؛ بعد قليل سيذهب لحضور حفلة الوداع والتكريم التي أقيمت على شرفه، ولشدّ ما تشبه حفلات الوداع والتكريم هذه حفلات التأبين؛ باستثناء واحد هو أن المحتفلين يأكلون، ويشربون، ويضحكون، ويغنون أحياناً، ويستمعون إلى خطب التمجيد، والمديح، بدلاً من البكاء، والعويل، والصمت الحزين، أمام جثمان الميت. أولاً يؤبنون في هذه الحفلات حقبة من الزمن انقضت مليئة بالحياة والنشاط والمنجزات ليقولوا لصاحبها:

- كفاك الآن؛ لقد آن لك أن ترتاح. اذهب إلى بيتك واجلس على مقعد وثير، وطالع في كتاب ممتع.

وبمعنى آخر إنك لم تعد تصلح المهمة.

وابتسم "كمال يونس" في شبه أسى. وتلفَّت حوله يتأمل مكتبه الذي سيهجره بعد ساعتين: هذا المكتب الذي أحرق فيه أعصابه وأفكاره، وسكب فيه على صفحات الأوراق قطرات القلب.. هذه الحجرة التي كانت تكتظّ أحياناً بالمحررين والأصدقاء وطلاب الأمجاد الصحفية من الناشئة... وتفرّس ببعض الصور المعلقة على الجدار؛ هذه الصور لن يتخلّى عنها لأحد فهي ذكرى أمجاده التي غبرت؛ فكل واحدة منها محمّلة بالمشاعر في تنوّع غريب؛ وفي ظروف مفاجئة كان فيها لحدسه الصحفي الفضل الأكبر.

ذكريات ... ذكريات

لقد طفق يحيا على الذكريات منذ الآن؛ وتنهد بعمق. وأفاق من التيه على رنين الهاتف، وما لبث أن سمع صوت أحد المحررين يطلب منه مقابلة خاصة..

- ما أشبه هذه المقابلة بالنظرة الأخيرة التي يلقيها أهل الميت على الجدث قبل أن يُوارى في ضريحه.

بيد أنه أجاب المحرر:

- أهلاً بك، أنا في انتظارك.

منذ أن توّلى رئاسة تحرير هذه المجلة، أضحت حياته جزءاً لا يتجزأ منها، فهي محور أحلامه ومثار طموحه وقلما تحوّل قلبه عنها، فكيف يمكنه أن يهجرها، حبيبة العمر هذه.

ولكن هي سنّة الحياة، أجل سنّة الحياة.

وسمع طرقات خفيفة على باب مكتبه، فهتف:

- أدخل.

وأطل وجه المحرر الذي اتّصل به منذ لحظة، فحيّاه "كمال يونس" ودعاه إلى الجلوس.

وران عليهما صمت أخذ "كمال يونس" يتفرّس فيه في محيَّا المحرر، فأدرك أن الارتباك يعتريه. وأنه لا يدري كيف يبدأ حديثه، تماماً كما كان يحدث معه في بواكير مهنته، لكنه واثق أن هذا الصحفي الناشىء لا بد أن يتغلّب على ارتباكه في لحظة لا يتوقعها ويشرع في طريق المجد.

وأراد "كمال" أن يخفف عنه بعض ارتباكه، فقال له:

- لقد راقني تحقيقك الأخير.

- شكراً يا سيدي.

- أي موضوع تعمل عليه الآن؟

فسكت المحرر برهة ثم قال ببطء:

- مقابلتي معك.

- آه! حسناً، كيف يمكنني أن أساعدك؟

فاعتدل المحرر في جلسته وقال:

- جئتُ أطلب منك أن تسرد لي أهم حدث في حياتك.

فاختلجت عضلات وجه "كمال يونس" والتمع في عينيه بريق حاد؛ وكأنما هذا السؤال أثار في أعماقه كوامن أشجان، أو ذكرى تقدح وجدانه ومضات تتراءى من خلل غلالات ضبابية، وحدّق إلى المحرر يبحث في عينيه عن شيء ما؛ ولكن الخواء البعيد كان يتسع أمامه فتمتد نظراته إلى حيث ...

وأجاب بعد فترة سكينة:

- أهم حدث في حياتي! هذا ما تريده... لا بأس... لا بأس.

ووضع رأسه بين يديه مفكراً يستجمع شتات خواطره، وكأنه ينتقي من حقيبة الذكريات واحدة منها تجذَّرت في أعماقه، وما لبثت أن أورقت في حياته.

وفتح أحد أدراج مكتبه وتناول منه ملفاً قديماً أخرج منه صورة فوتوغرافية مقتطعة من جريدة أجنبية وأعطاها للمحرر، ثم قال:

- تأمل في هذه الصورة. إنها صورة قديمة يعود تاريخها إلى أربعين سنة خلت. أترى هذا الرجل وهذه المرأة؟ أنهما زوجان، ولكن..

وغرق في صمت مبهم احترمه المحرر فلم يقاطعه:

- إنني في كل مرة تقع فيها عيناي على هذه الصورة أدرك كم أنا مدين بحياتي لهذين الزوجين، فلولاهما لكنت قد أصبحت غذاء شهياً لأسماك المحيط.

وبدأ الاهتمام المفاجئ على محيا المحرر، فقد تنسم أن وراء هذا الحديث قصة مجهولة من حياة رئيس تحريره، قصة طواها سنين عديدة، وها هو، ولعله لأول مرة، يبوح بها:

- أكنت صحفياً آنئذ يا سيدي؟

- كنت في طريقي لأصبح صحفياً ناشئاً.

- إذن لا علاقة لهذه القصة بالصحافة؟

- تقريباً، ولكن لها كل العلاقة بحياتي الشخصية.

- ماذا تعني؟

- إليك القصة.

ونهض ”كمال يونس“ عن مقعده، واتجه نحو النافذة المطلة على الطريق العام، فشاهد السيارات المسرعة تطوي الشوارع المتقاطعة أمام بناية المجلة، ولاحت له وجوه الناس من الطابق السادس، باهتة، بعيدة، وشرطي السير بقبعته البيضاء منتصباً في وسط الطريق إلى جوار إشارة المرور كأنه تمثال آلي يرتدي ثياباً، وتتحرّك يداه بصورة ميكانيكية حسب توقيت مدروس، ولكن هذه المشاهد تلاشت فجأة، ليرى عبر خياله، سفينة تمخر عباب البحر في طريقها إلى بلاده.

والتفت إلى المحرر المتململ في مقعده وقال:

- كان هذا منذ أكثر من أربعين عاماً.. ذكرى بعيدة، ولكنها كامنة هنا، حيّة... كنت آنئذ قد تخرّجت حديثاً من معهد الصحافة في بريطانيا وعزمت على العودة إلى وطني لألتحق بدار من دور الصحافة، فلم ألبث أن وجدت نفسي على ظهر باخرة متوجهة نحو بيروت... كان اليوم الأول من الرحلة ممتعاً حقاً؛ فالسماء صافية، والرياح هادئة، والأمواج ساكنة، وخُيِّل إليَّ أن هذه الرحلة ستكون أجمل رحلة في حياتي. وبينما كنت متكئاً على إفريز سطح الباخرة وقف إلى جواري زوجان عجوزان راحا يتأملان في مياه البحر الزرقاء، ثم التفت الزوج إليّ وقال:

- كونٌ عجيب هذا الذي نعيش فيه.

فهززت رأسي مجيباً، واستطرد:

- ومن الغريب أننا لا نأبه كثيراً لصانعه.

كان حديثه مفاجئاً أثار بعض الضيق في نفسي، وفكرت:

- هذا مبشّر طفيلي يلقي شباكه حولي.

يتبع في العدد القادم

المجموعة: 200801