تشرين الأول (أكتوبر) 2008

أراد الله تعالى وتبارك اسمه أن يُعلِّمنا درساً مهماً. فاختار رجلاً معيَّناً لنتعلم منه وفيه هذا الدرس المهم. أما الرجل الذي اختاره الله فهو سليمان الحكيم، سليمان الملك ابن داود النبي الملك، لأن سليمان هو أنسب رجل في التاريخ ليعلمنا هذا الدرس.

كان سليمان رجلاً حكيماً جداً، قال له الله: ”هوذا أعطيتك قلباً حكيماً ومميزاً حتى إنه لم يكن مثلك  قبلك ولا يقوم بعدك نظيرك“ (1ملوك 12:3). وبالإضافة إلى ذلك أعطاه الله غنى وكرامة حتى لم يكن مثله بين الملوك (عدد 13).
أما الدرس الذي أراد الله أن يعلمنا إياه، ولذلك سجله لنا في كتابه المقدس، فهو المعنى الحقيقي للحياة. أي من هو الذي يستحق اهتمامنا في هذه الحياة؟ لو سألت عدداً من الناس عن أهم شيء في الحياة، وما هو هدفهم في هذه الدنيا، لحصلت على أجوبة مختلفة. فمنهم من يسعى وراء الثروة، وآخر وراء الملاهي، وآخر وراء العلم أو الشهرة. ولكن الكتاب المقدس يخبرنا عما يمكن أن نسميه التجربة التي قام بها سليمان بحثاً عن مصدر السعادة الحقيقية وعن المعنى الحقيقي للحياة. ونتيجة بحثه مسجلة لنا في سفر الجامعة وخصوصاً في الفصل الثاني والفصل الأخير.
أولاً، جرّب سليمان الضحك لعل هذا يفرحه، كما يفعل كثيرون إذ يحبون الاستماع للكلام المضحك، أي النكت والفكاهات لعل هذا يوفّر لهم الفرح والسعادة التي يسعون وراءهما. ومن المعروف أن بعض الملوك كانوا يحتفظون عندهم بمن يسمّونه ”مهرّج القصر“ لكي يرفّهوا عن أنفسهم. وكثيرون الآن، بل للأسف الشديد بعض المؤمنين يراقبون الأفلام الكوميدية المضحكة سعياً وراء الفرح. يُحكى أن رجلاً كان يعاني من أزمة نفسية ذهب إلى طبيب نفساني، فأشار عليه الطبيب أن يذهب إلى تمثيلية فيها ممثل كوميدي شهير يجعل الناس يضحكون من كلامه وتصرفاته. فأجابه الرجل: ”يا سيدي الطبيب، أنا هو هذا الممثّل الشهير. أجعل الناس يضحكون وأنا حزين في داخلي“. إذ جرّب سليمان الفرح والضحك قال: ”وإذا هذا أيضاً باطل. للضحك قلت: مجنون وللفرح: ماذا يفعل؟“ (جامعة 1:2-2).
ثانياً، جرّب سليمان تعاطي الخمر على أن يعمل ذلك بتعقّل فتبقى حكمته معه، كما جرّب أن لا يفرط بحكمته لكي يرى ”ما هو الخير لبني البشر حتى يفعلوه تحت السموات مدة أيام حياتهم“
(عدد 3)، وهذا أيضاً لم يمنحه السعادة.
ثالثاً، عظّم سليمان عمله فبنى لنفسه بيوتاً وغرس لنفسه كروماً (عدد 4) - لاحظ تكرار كلمة ”لنفسه“ التي تدل على تركيز الفكر في الذات. هذه هي الأنانية التي كثيراً ما تصحب الغنى والبحث الفاشل عن السعادة. ثم قال: ”عملت لنفسي جنات وفراديس وغرست فيها أشجاراً من كل نوع ثمر. عملت لنفسي برك مياه لتُسقى بها المغارس المنبتة الشجر“ (عدد 5-6). عمل هذا كله بحثاً عن السعادة ومعنى الحياة.
رابعاً، يقول: ”قنيت عبيداً وجواري، وكان لي ولدان البيت“ (عدد 7). أي العبيد والجواري أنجبوا بنين وبنات وهؤلاء صاروا بالطبع ملكاً له أيضاً.
خامساً، ”وكانت لي أيضاً قنية بقر وغنم أكثر من جميع الذين كانوا في أورشليم قبلي“ (عدد 7). وهنا نرى روح المنافسة التي تصحب من يسعى وراء الغنى والعظمة، إذ يقارن نفسه بجميع الذين كانوا قبله.
سادساً، الذهب والفضة والتحف الثمينة، فقال: ”جمعت لنفسي أيضاً فضة وذهباً وخصوصيات الملوك والبلدان [أي الكنوز الخاصة بالملوك]“ (عدد 8).
سابعاً، الغناء والموسيقى وكل وسائل التنعّم والتمتّع، ”اتخذت لنفسي مغنين ومغنيات وتنعّمات بني البشر. سيدة وسيدات. فعظمت وازددت أكثر من جميع الذين كانوا قبلي في أورشليم، وبقيت أيضاً حكمتي معي“ (عدد 8-9). وكأنه يقول بعد ذلك، لكي لا أطيل الكلام ألخّصه في عبارة واحدة: ”ومهما اشتهته عيناي لم أمسكه عنهما“ (عدد10).
وماذا كانت النتيجة يا سليمان؟ هل حصلت على السعادة التي كنت تنشدها؟
هل بلغت مرادك بعد كل هذا التعب؟
وهل تشعر باكتفاء حتى أنك ترى نتيجة تعبك تمنحك السعادة والسلام؟
يجيب سليمان عن هذه الأسئلة في عدد 11 إذ يقول: ”ثم التفتّ أنا إلى كل أعمالي التي عملتها يداي، وإلى التعب الذي تعبته في عمله، فإذا الكل باطل وقبض الريح، ولا منفعة تحت الشمس!“
أيها القارئ العزيز، وأيتها القارئة العزيزة، لقد دوّن الروح القدس نتيجة هذا الاختبار لكي يحمينا من أن نقع في هذا الفخ. ونقول عند نهاية العمر: ”الكل باطل وقبض الريح“.
ونشكر الله لأن سليمان لم يتركنا عند نقطة اليأس والفشل هذه، بل استمر في بحثه فيما ”تحت الشمس“ قبل أن يصل بنا إلى ”ختام الأمر كله“.
كان بحثه فيما تحت الشمس يؤدي من يأس وفشل إلى يأس وفشل حتى قال: ”فكرهت الحياة. لأنه رديء عندي العمل الذي عُمل تحت الشمس، لأن الكل باطل وقبض الريح“ (عدد 17). وقال أيضاً: ”يوجد شر خبيث رأيته تحت الشمس“ (13:5)، وأيضاً: ”يوجد شر قد رأيته تحت الشمس وهو كثير بين الناس“ (1:6).
كما تتكرر عبارة ”باطل الأباطيل. الكل باطل وقبض الريح“. من منا يسعى وراء حفنة من الريح يقبضها، ثم إذا فتح يده يجدها فارغة؟ ليتنا نتذكر أن كل هذه ”كُتبت لإنذارنا نحن الذين انتهت إلينا أواخر الدهور“ (1كورنثوس 11:10).
وأخيراً يصل بنا سليمان في الفصل الأخير من سفر الجامعة إلى قرب نهاية العمر، حين يضعف البصر والسمع، ويخفض الصوت، والجندب يستثقل، أي أن أقلّ شيء يبدو حملاً ثقيلاً. ”والشهوة تبطل. لأن الإنسان ذاهب إلى بيته الأبدي“ (انظر جامعة 1:12-7).
إذاً، ماذا يا سليمان، وأنت الرجل الحكيم، بل أحكم من الجميع؟ أتعيش في يأس؟ بماذا تنصحنا، وأنت الرجل الذي منحك الله حكمة أكثر من جميع الملوك الذين كانوا قبلك؟
يجيبنا سليمان بهذه الكلمات: ”فلنسمع ختام الأمر كله: اتّق ِ الله واحفظ وصاياه، لأن هذا هو الإنسان كله“ (جامعة 13:12).
نعم، الكل باطل تحت الشمس، ولكن شكراً لله لأن ”سيرتنا نحن هي في السموات، التي منها أيضاً ننتظر مخلصاً هو الرب يسوع المسيح“ (فيلبي 20:3). ”هو الذي صعد أيضاً فوق جميع السموات، لكي يملأ الكل“ (أفسس 10:4). وقبل صعوده قال لتلاميذه: ”أنا أمضي لأعدّ لكم مكاناً، وإن مضيت وأعددت لكم مكاناً آتي أيضاً وآخذكم إليّ، حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً“ (يوحنا 2:14-3). ليت الرب يحمينا لكي لا ننهمك فيما هو تحت الشمس، لأنه باطل وقبض الريح. أو كما تقول بعض الترجمات ”قبض الروح“. بل نحيا في خوف الرب وطاعة وصاياه، لأن هذا هو الإنسان كله، أي بدون خوف الرب وطاعته لا يكون لحياة الإنسان معنى أو قيمة حقيقية.
ليتنا نتمثّل بالرسول بولس إذ قال: ”لي الحياة هي المسيح“ (فيلبي 21:1).

المجموعة: 200810