كانون الثاني January 2010

(مرقس 46:10-52؛ لوقا 35:18-43؛ متى 29:20-34)

الحدث:     شفاء الأعمى ابن طيما

المكان:     أريحا

الطبيب:    يسوع  

لمحة تاريخية:    أثبتت الاكتشافات الأثرية التي جرت في موقع عين السلطان أو تل السلطان أن أريحا من أقدم مدن العالم، إذ يرجّح أنها

بُنيت في الألف السادسة قبل الميلاد وفيها اكتشف أقدم الأواني الفخّارية وأقدم المنحوتات في العالم.

 

كانت أريحا أول مدينة هاجمها بنو إسرائيل غربي نهر الأردن، التي بعد طوافهم حولها سقطت الأسوار في اليوم السابع (يشوع 6)، وعندها لعن يشوع أريحا وقتل كل من فيها ما عدا بيت راحاب.

موقعها الجغرافي بين أورشليم ونهر الأردن، حيث بنى هيرودس الكبير قلعة بقربها.

كان يقيم في أريحا فريق من الكهنة، وكانوا يسافرون من وإلى أورشليم؛ ولعل هذا هو ما حدا بيسوع الى اختيار طريق أريحا كمسرح لأحداث مثل السامري الصالح المذكورة في لوقا 30:10-31.

 دعونا الآن نتأمل في حياة ابن طيما قبل لقائه بيسوع.

يمكننا الإستنتاج بسهولة من عماه واستجدائه أنه كان فقيراً معدماً ينقصه الدعم العائلي والاجتماعي. وقد حُكم عليه بسبب عاهته بأن يكون عاطلاً عن العمل، إذ لم تكن التسهيلات الحديثة لفاقدي البصر قد اختُرعت بعد (كالطابعات والقارئات الخاصة بالمكفوفين).

الطب وعلم النفس يؤكد على أهمية العلاقة المتواصلة والمتبادلة بين العقل والمادة، وبين النفس والجسد، كما يؤكدان على الدور الذي تلعبه الصورة الحسية والاجتماعية في فكرة الشخص عن "الذات".

لقد كانت الصورة الحسية عن "الذات" مفقودة في هذه المعادلة، أما النظرة الاجتماعية فلم تكن دائماً مشجعة أو مضيئة فيما يتعلق بذوي الأمراض والعاهات، إذ عاش ابن طيما في مجتمع كان يعتبر المرض عقاباً على الخطيئة.

إن غياب الصورة الحسية عن ساحة الذهن تحرم الأعمى من فرح الألوان وتلقي به في عالم تجريدي قوامه الأفكار واستبطان الذات. ونحن نعلم ما تنطوي عليه العزلة، بكافة أشكالها وعلى اختلاف أسبابها، من مخاطر عقلية ونفسية.

ونكاد نسمع صوت ابن طيما يتساءل متوجِّعاً: ماذا فعلت ولماذا حلّ بي هذا؟ إلا أنه في تأرجحه بين الشعور بالذنب ورثاء الذات لم يعدم في ظلامه المطبق نعمة الأمل والقدرة على الإيمان. فأصبحت صرخة استغاثته الخالدة "يا يسوع يا ابن داود ارحمني" رمزاً لإدراك المرء لنقاط ضعفه، لأمله، ولإيمانه.

لقد صرف ابن طيما جلّ طاقته في متابعة أخبار يسوع، عالماً ومتيقناً أن زمن افتقاده قد حان، وأن يسوع قادر وعازم على شفائه. فهو إذ فقد بصره لم يفقد بصيرته. وعلم أن يسوع سيعرفه، وإن أنكره المجتمع ونهرته الجموع. فقد كان صوته يعلو بتزايد المحاولات لإسكاته، وكان يصرخ أكثر وأكثر بإصرار المتيقّن.

لو أذعن ابن طيما  للجموع لخسر شفاء المسيح وبقي أعمى حتى مماته.

لكن يسوع ناداه!!!

يا للنداء المنتظر والأمل المتحقق!!

فما كان منه إلا أن طرح رداءه ورغم عماه سارع باتجاه الصوت الرحيم.

وكان يسوع قد سُئل في موضع آخر عن سبب ما حلّ بأحد العميان - في محاولة بشرية لإيجاد تفسير للمصائب - فأجاب "لا هو أخطأ ولا أبواه".

ما أروع هذه الشهادة وما أروع الشاهد! بجملة مقتضبة أزاح يسوع عبء الذنب والعار المنسوبين إلى العاهة. وكما خلع ابن طيما شعوره الثقيل بالذنب والعار، إذ ناداه يسوع، خلع رداءه ولبّى النداء.

لا شك في أن يسوع كان عالماً بأنه سيصادف ابن طيما في الطريق، بل لعله مرّ بها خصيصاً ليلتقيه. كما كان بمقدور يسوع أن يأتي إليه مباشرة ويشفيه، لكنه أراد أن يترك له دور المبادرة في علاقة المحبة هذه، علاقة المريض بطبيبه الشافي. أراد أن يكتشف ابن طيما ذاته، وعمق إيمانه في هذا التواصل، وأن يصرّح بذلك؛ أن يرى أن معرفته بردّ فعل يسوع تفوق معرفة الجموع، وأن أمله يتجاوز الحلم إلى الرجاء واليقين.

لقد اختار يسوع أن يصنع معجزة وبركة شفاء في المدينة التي لعنها يشوع. فاللعنة غالباً ما تأتي من البشر ولكن البركة الحقيقية لا تأتي إلا من الله.

وأخيراً، جاء سؤال يسوع الذي طال ترقبه: "ماذا تريد أن أفعل بك؟ معطياً إياه فرصة للإعلان عن إيمانه.

وعندما أجاب: "يا سيدي أن أبصر"، نظر الرب إلى إيمان الرجل وقال: "إيمانك قد شفاك". فللوقت أبصر وبكل فرح الدنيا تبع يسوع في الطريق.

ونحن، إذ نرزح تحت عبء همومنا الذي يلفنا كالرداء، متخبطين في عتمة هذا العالم، هل نصرخ كثيراً إلى الله من عمق بؤسنا؟

وهل نحن مستعدين إذا نادانا أن نخلع رداءنا الثقيل ونمضي إليه؟

وإذا سألنا عن حاجتنا، هل سنرد: "يا رب، أن أبصر"؟

المجموعة: 201001