كانون الثاني January 2010

إبَّانَ اتخاذِ القرار، تجدُهم يُسرعون ويمتطون الحافلة التي سرعان ما تُقلّهم إلى المكان. وهناك يقفزون منها والفرح يملأ وجوههم،  لينشروا الخبر السار إلى العائلة المحتاجة. فيخرجُ قائدُهم حاملاً بين يديه مكبّراً للصوت ليبثَّ البشرى. وما

أن  يصلَ الصوتُ إلى مسامعِ أهل البيت في الداخل، حتى نراهم يركضونَ إلى الخارج وهم يهتفون ويصيحون بأعلى أصواتهم، معبِّرين عن ابتهاجهم وفرحهم العميم. فلقد جاءَ الإنقاذ، والنورُ الذي حسبوه يوماً في نهاية النفق، قد صار هنا وأضاءَ لهم الدرب. وهنا تبدأ الإعلانات، وتتبعُها القُبلات، ويليها العناق، وتمتلئُ محاجرُ المآقي بالدموع، هي دموع السرور، وتعمُّ الفرحة الجميع من الكبير إلى الصغير. لقد فازتِ العائلةُ بالقرار ووقعتْ عليها القرعةُ لتُنتشَلَ من الضيقة وتخرجَ من الضائقة، وتعيشَ أفرادُها كافَّة في السعةِ والبحبوحة متنعمِّةً بالعطاءِ الغزير، وبالسَّخاء الوفير.
وعندما تدخلُ المجموعةُ المتطوعة للعملِ والبناء بقيادة رئيسها إلى داخل المنزل، لترى بأمِّ عينها مآسي حياةِ العائلة المحتاجة، نراها تقوم بالتكلم إلى الأفراد الكبارِ منهم والصغار، لا فرق.  فتتعرّفُ على ما يحلمُ به الولدُ الصغير في غرفته، وما يرغب به من ألوانٍ وصورٍ على الجدران. ثم يسألون الأبَ عمَّا يريده في بيته، وربَّما في بعض الحالات ما يحتاجه من مساحةٍ ليتحرَّك فيها وهو مقعد على كرسيِّه الآلي دون أن يتخبَّط بالممرِّ الضيق، أو دونَ أن يتدحرج على الدرج. وينصتون أيضاً بكلِّ جوارحهم إلى كلام سيدة البيت وأم الأولاد وهي تُخفي دموعَها من مآقيها، فتشكو لهم همَّها وصعوباتِها في مطبخِها الصغير، وسعته المحدودة وهو لا يكاد يتسع لشخصين يتحركان فيه. فتلقى أذناً صاغيةً وحِسّا رهيفاً، وعيناً دامعة من قِبَلِ أمٍ متطوعة حبَاها اللهُ نِعَماً وفيرةً ومواهبَ عديدة وأتت لكي ترى وتسمعَ وتصغي وتشعر وتقدِّم العون بكل فرح. وعندما تخرج المجموعة المتطوعة للعمل من ذلك البيت الصغير، وبعد الفحص والاستقصاء الدقيق، نراها تتحرك بسرعة وبكل حماس واندفاع لتقوم بالمهمة، وتنضم الأيادي إلى بعضها بعضاً إعلانا مُبينا على المؤازرة في العمل، وتعهُّداً على إتمامه في مدة أسبوع واحد فقط. نعم، إنهم سيبنون بيتاً جديداً كاملاً، لهذه العائلة المحتاجة وسيجهِّزونه بكل الأثاث والأدوات اللازمة ليتمتعوا به وبكل ما فيه من وسائل راحة وترفيه بعدَ عناءِ سنين وحرمانٍ وأنين.
كانت هذه مقدمة برنامج تلفزيوني شاهدته وأشاهده كلَّما تسنح لي الفرصة بعنوان: Extreme Makeover  وبالعربية "تجديدٌ إلى أبعد حدّ". فهو يبعث في القلب البهجة حقاً إذ أرى أمامي مجموعة من الناس مختلفة الأعمار والمهن والمواهب تتآزر معاً لتبني بيديها أجمل ما يمكنها من منزل مريح يفي بالحاجة ويفوق عليها؛ فتتبرّعُ بالوقت،  والعمل، والفنّ، والمعرفة، والذوق، لعائلة أثقلها الدهر بمصائبه، وأتعبها الفقر والحرمان من الكثير من النعم.  وفي أحيان كثيرة يكون ربُّ البيت مقعداً بسبب مرضٍ ما ألمَّ به،  أو بسبب حادثٍ تعرّضَ له. وفي كل مرة شاهدتُ فيها بدايةَ العمل وما آلتْ إليه النهاية، وقفتُ متعجبةً من نشاط تلك المجموعة ومن اندفاعها وحماسها الباهرَيْن. لا بل رأيتُ نفسي مذهولةً من كمية المواد المتبرَّع بها من قِبَل شركات ضخمةٍ معروفة في أميركا، منها المواد الأساسية لبناء البيت ومن ثم الأثاث الذي يأتي من كل حدب وصوب.
وهنا تذكَّرتُ تقريراً قرأته مؤخراً عن دراسة حديثة تتكلم عن ثلاثة عوامل تولِّد الفرح عند الإنسان. وعلى رأس هذه العوامل هو التواصل والتعاطف بين البشر. لأنَّ هذا يقوِّي من إفرازات (هرمون الأوكسيتوسين الذي يطلَقُ عليه أيضاً هرمون الحب) ويفعِّل من آثار العصب الرئوي المِعَدي المحفِّز للسعادة. ولاحظتِ الدراسة أنَّ عمليةَ التطوع لخدمة الآخرين من شأنها أن ترفع من معنويات البشر، وتُشعرَهم بنوع من الرضا الشخصي عن ذاتهم وتشتدُّ هذه الظاهرة وقت الأزمات. إذن التعاون والتطوع لخدمة الآخرين يخلقان نوعاً من الرضى والاكتفاء في نفس المتطوع وهذا ما ينشئ في النفس سعادةً وغبطة.
ورحتُ أتساءل بيني وبين نفسي وأقول:  هل تُرانا نجد مشهداً مماثلاًً "للتجديد إلى أبعد حد" على أرض الواقع في عالمنا وبيئتنا ومجتمعاتنا العربية؟ وهل روحُ العطاء والتطوّع بهذا الشكل لها وجود في مجتمعاتنا التي لا تقلُُّ غنىً ومالاً ونعمةً عن تلك الموجودة هنا في عالم الغرب؟ أم أنَّ الغني يزداد غنىً لنفسه، والفقيرَ يزدادُ فقراً وعوزاً؟ وفي كل يوم يمر نرى الشرْخَ يزدادُ بين الاثنين "ولا حياةَ... لمنْ تنادي؟!"
إذا كانَ التواصلُ والتعاطف بين بني البشر والشعور مع الآخرين ومدُّ يدِ العون ينشئ في النفس سعادة وفرحاً ولو مؤقتاً، فما هو حالُنا نحن المؤمنين الذين اختبرنا وعرفنا معنى التواصل الحقيقي بيننا وبين الله الآب، وما تخلِقه الشركة بيننا وبينه تعالى من سعادة حقيقية؟  أليس حريٌّ بنا أن نكون نحن بالأولى مَن نهبُّ لكي نمدَّ يد العون لأخينا المحتاج؟! هل ترانا نجد هذا المشهد حاصلاً بين مؤمنينا وفي كنائسنا؟ فأين العطاءُ من دون تردُّد؟ وأين السخاءُ في تقديم الوقت، والمال، والمواهب، من أجل إتمام حاجة عائلة مستورة، وقعتْ في حبائل العوز والفقر؟ أين نحن جميعاً من سماع صراخ المتألم والحزين؟ أم ترانا نصمُّ آذاننا عن السمع، لا بل نمقت مَنْ يشكو لنا همَّه ويشاركنا في عوزه وعوز أولاده؟! هذه كلُّها أسئلة ينبغي التوقّف عندها ومحاسبة أنفسنا إزاءها ونحن في مطلع سنة جديدة أنعم بها علينا الباري لأنه "من إحسانات الرب أننا لم نفن."
حريٌّ بنا أن نتذكر كلمات الرب يسوع إذ قال: ثُمَّ يَقُولُ الْمَلِكُ لِلَّذِينَ عَنْ يَمِينِهِ: ”تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي، رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ. لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي. عَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي. كُنْتُ غَرِيبًا فَآوَيْتُمُونِي عُرْيَانًا فَكَسَوْتُمُونِي. مَرِيضًا فَزُرْتُمُونِي. مَحْبُوسًا فَأَتَيْتُمْ إِلَيَّ. فَيُجِيبُهُ الأَبْرَارُ حِينَئِذٍ قَائِلِينَ: يَا رَبُّ، مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعًا فَأَطْعَمْنَاكَ، أَوْ عَطْشَانًا فَسَقَيْنَاكَ؟ وَمَتَى رَأَيْنَاكَ غَرِيبًا فَآوَيْنَاكَ، أَوْ عُرْيَانًا فَكَسَوْنَاكَ؟ وَمَتَى رَأَيْنَاكَ مَرِيضًا أَوْ مَحْبُوسًا فَأَتَيْنَا إِلَيْكَ؟ فَيُجِيبُ الْمَلِكُ وَيَقوُل لَهُمْ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ، فَبِي فَعَلْتُمْ“ (متى 25: 34-40)
أترانا نفتش عن هؤلاء الأصاغر؟ المسكين، والعريان، والحزين، والمسنّ، والمعوز، والمحتاج، والبائس، واليائس، في دائرتنا وبين جيراننا ومجتمعاتنا وكنائسنا؟ ليس لكي نربح الملكوت على أساس عملنا هذا، كلا أبداً، بل لأنها ثمارُ الملكوت الذي في داخلنا، ثمار مُلْك الرب يسوع في قلوبنا وحياتنا التي يجب أن تَظهر بجلاء ووضوح. وإلاَّ فهناك خوفٌ علينا أن لا نكونَ قد اختبرنا محبة الله ورحمتَه لنا. هذه هي الثمار الفعلية لِمُلْك الله في حياتنا، أن نشعرَ مع الآخر، ونستمع للآخر، وأن نفتحَ جيبنا للآخر ومن دون حساب نعطي، ونعطي، ونعطي. وهكذا نستثمر في ملكوت الله، لأنَّ العطاء هو بكلمة أخرى استثمارٌ في أكبر مصارف العالم قيمةً وقوةً وتأثيراً. فالذي يستثمر في نفسٍ بشرية وينشلها من الظلمات إلى النور، وبطريقة عملية واقعية، فهو إنَّما يربح هذه النفس في مملكة الله. فأين تستثمر أموالك يا صديقي؟! في بنوك التي تصعدُ وتهبط أسهمها في لحيظات؟! تربح وتخسر في طرفة عين؟! أم في نفوس حية بذل الرب يسوع المسيح مخلصُنا نفسه من أجلها؟! علَّنا نتوقف لحيظةً لكي يجيبَ كلُّ منا بنفسه ولنفسه عن هذه الأسئلة الجديرة بالإجابة. ويا ليتنا نحاسب أنفسنا قبل أن يفوت الأوان ويحاسبنا ملك الملوك ورب الأرباب عندما نقف أمام كرسيه لنعطي حساباً عمَّا فعلنا بما أعطانا.
فهل تشاركُ أحد هؤلاء الأصاغر بالنعم والبركات المادية والمعنوية أيضاً وبسخاءٍ من دون قيود؟

المجموعة: 201001