شباط February 2010

ترد كلمة "جسد" في العهد الجديد من الكتاب المقدس بمعانٍ مختلفة، نذكر منها:
1- الجسد أي الجسم
الجسم الذي نستخدمه لتتميم احتياجاتنا، مثل الأكل والشرب والذهاب إلى

أماكن معينة. والكتاب المقدس لا يعلمنا أن نهمل أجسادنا أو نؤذيها، كما يفعل بعض الناس ظناً منهم أن هذا يرضي الله، ولكن الكتاب المقدس يسميها عبادة باطلة، لا منفعة منها (كولوسي 23:2). بل يقول: "فَإِنَّهُ لَمْ يُبْغِضْ أَحَدٌ جَسَدَهُ قَطُّ، بَلْ يَقُوتُهُ وَيُرَبِّيهِ، كَمَا الرَّبُّ أَيْضًا لِلْكَنِيسَةِ" (أفسس 29:5). ويحرّضنا الكتاب المقدس أن نكرس أجسادنا لخدمة الرب (رومية 1:12).
2- الجسد بمعنى الشيء المنظور والملموس كرمز لحقيقة روحية
فمثلاً حين قال المسيح: "لأَنَّ جَسَدِي مَأْكَلٌ حَقٌّ وَدَمِي مَشْرَبٌ حَقٌّ. مَنْ يَأْكُلْ جَسَدِي وَيَشْرَبْ دَمِي يَثْبُتْ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ" (يوحنا 55:6-56) فسّر هذا بالقول: "اَلرُّوحُ هُوَ الَّذِي يُحْيِي. أَمَّا الْجَسَدُ (أي الرمز في حدّ ذاته) فَلاَ يُفِيدُ شَيْئًا. اَلْكَلاَمُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ هُوَ رُوحٌ وَحَيَاةٌ" (يوحنا 63:6). وهذا واضح أيضاً من قوله: "مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ فَلاَ يَجُوعُ، وَمَنْ يُؤْمِنْ بِي فَلاَ يَعْطَشُ أَبَدًا" (عدد 35)، فقد شبّه الإيمان به والإقبال إليه بالأكل والشرب.
3- الجسد بمعنى الطبيعة الساقطة
التي ورثناها نتيجة لدخول الخطيئة إلى العالم، وهذه هي موضوعنا في هذا المقال. وسنقتبس بعض الآيات التي تتكلم عن الجسد كرمز للطبيعة القديمة الخاطئة التي فينا:
"وَلكِنَّ الَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا الْجَسَدَ مَعَ الأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ" (غلاطية 24:5). من الواضح طبعاً أنه لا يعني أن المؤمنين صلبوا أجسادهم.
"عَالِمِينَ هذَا: أَنَّ إِنْسَانَنَا الْعَتِيقَ قَدْ صُلِبَ مَعَهُ لِيُبْطَلَ جَسَدُ الْخَطِيَّةِ، كَيْ لاَ نَعُودَ نُسْتَعْبَدُ أَيْضًا لِلْخَطِيَّةِ" (رومية 6:6). فمن الواضح هنا أن الذي صُلب هو إنساننا العتيق، أي طبيعتنا القديمة وليست أجسامنا.
"لأَنَّهُ لَمَّا كُنَّا فِي الْجَسَدِ (أي في الطبيعة السابقة أي القديمة) كَانَتْ أَهْوَاءُ الْخَطَايَا الَّتِي بِالنَّامُوسِ (أي المعلنة في الناموس، كما تقول الترجمة التفسيرية) تَعْمَلُ فِي أَعْضَائِنَا، لِكَيْ نُثْمِرَ لِلْمَوْتِ" (رومية 5:7).
"فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ سَاكِنٌ فِيَّ، أَيْ فِي جَسَدِي، شَيْءٌ صَالِحٌ" (رومية 18:7).
"فَالَّذِينَ هُمْ فِي الْجَسَدِ (أي الذين لم يحصلوا على طبيعة جديدة) لاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُرْضُوا اللهَ" (رومية 8:8).
هذه الآيات كلها تتكلم عن الجسد بمعنى الطبيعة القديمة الساقطة. من هذه الآيات، وهناك كثير مثلها، نتعلم أن المقصود بصلب الجسد هو الحكم على الطبيعة القديمة بأنها لا تصلح للتصرّف والتحكّم في حياة المؤمن. هذه الطبيعة القديمة تُسَمَّى أيضاً "الإنسان العتيق" كما رأينا في رومية 6:6.
هذه الحقيقة، أي حقيقة صلب الجسد، أي الطبيعة القديمة، الذات، لها ناحيتان:
من الناحية الواحدة قد صُلِبَت فعلاً مع المسيح، أي قضائياً في نظر الله؛ قد تمّ صلبُها مع المسيح. فإنساننا العتيق قد صُلب معه. كما يقول بولس: "مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا، بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ" (غلاطية 20:2). إن الله يرانا الآن في ابنه الحبيب الذي مات لأجلنا، ونحن متنا معه، ودُفِنّا معه، وقُمنا معه (وهو ما ترمز إليه المعمودية). يقول الكتاب في أفسس 5:2-6 "وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ بِالْخَطَايَا أَحْيَانَا مَعَ الْمَسِيحِ... وَأَقَامَنَا مَعَهُ، وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ".
ولكن من الناحية الأخرى، أي عمليّاً، في حياتنا اليومية يجب أن نتذكّر هذا فلا نسمح للطبيعة القديمة، أي إنساننا العتيق، بأن يتداخل في أفكارنا أو مشاعرنا أو مشروعاتنا. فهو قد وُضع على الصليب لكيلا يصحّ له أن يتصرّف أو يسيطر على حياتنا. لا يقول الكتاب المقدس أن الطبيعة القديمة قد ماتت وتلاشت تماماً، بل إنها مُسَمَّرة على الصليب. والمُسَمّر على الصليب لا يستطيع أن يخطّط أو يُدبِّر، بل أمامه مستقبل واحد هو الموت. لنفترض أن رجلاً رب بيت كان إنساناً شريراً مجرماً فحُكم عليه بالصلب. وهو على الصليب جاء ابنه إلى الجندي الحارس لعملية الصلب، وقال له: "حدثت مشكلة مع أحد الجيران، ونطلب أن تسمح لأبي أن يأتي ليعرّفنا ماذا نفعل". ماذا يكون جواب الجندي المسئول؟ يكون جوابه: "لن نسمح له بذلك لأن تصرفه إزاء المشاكل هو أحد أسباب الحكم عليه بالصلب". إنه مجرم ومن الحماقة أن تستشير شخصاً لا يعرف إلا الغشّ والإجرام. هذه هي الطبيعة القديمة. هذا هو إنساننا العتيق الذي يسميه الكتاب "الجسد". ولكن قد يكون الإنسان العتيق مهذّباً، ولا يرتكب الجرائم. ربما لم يوجد في مواقف تستدعي ذلك. ولكنه على أي حال هو فاسد جداً. وهذا هو ما قصده الرسول بولس حين قال: "فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ سَاكِنٌ فِيَّ، أَيْ فِي جَسَدِي (الطبيعة القديمة)، شَيْءٌ صَالِحٌ" (رومية 18:7).
منذ سنين كثيرة حين ابتدأت ممارسة مهنتي جاءني مريض مصاب بحصوة في الكلية kidney stone، فسألته إن كان هناك في عائلته من عانى من هذا المرض، فقال لي: my old man وهي الترجمة الإنجليزية في الكتاب المقدس للإنسان العتيق، وإذ أدرك أني لم أفهم قصده في بادئ الأمر، قال: "أبي كان عنده نفس الشيء". ولكن العجيب أنه في ذات اليوم جاءت امرأة كبيرة السن ولما أخبرتها بما تحتاج إليه من فحوصات وتحاليل قالت لي أن her old man أي إنسانها العتيق في غرفة الانتظار، فهل يمكن أن نستدعيه لكي يسمع ما تقوله؟ فتعجّبت أن يكون هذا التعبير في الحالتين  يشير إلى شخص آخر. أما في الكتاب المقدس فإن إنساني العتيق هو أنا. أنا بكلّيَّتي قبل الإيمان، قبل الولادة الثانية، لم أكن إلا هذا الإنسان الفاسد الذي لا يسكن فيه شيء صالح. ولو وُضع هذا الإنسان العتيق تحت الامتحان لظهر فساده بشكل مخيف. ومهما عمل هذا الإنسان العتيق أعمالاً صالحة، فما هي إلا كالخِرَقِ البالية والثياب النجسة. وهو لذلك لا يستحق إلا الموت الأبدي. ولكن شكراً لله لأن كل الذين قبلوا المسيح وُلدوا ولادة جديدة وصاروا خليقة جديدة فنالوا طبيعة تحبّ البرّ وتكره الشر. وطالما تذكّروا فعلاً أن الإنسان العتيق قد صُلب فإنهم في أمان. ولكن إذا سمحوا للإنسان العتيق أن يتصرّف فإنه سيفسد كل شيء.
نحن نعلم أن لنا ثلاثة أعداء:
1) الشيطان - ولكن يقول الكتاب: ""قاوموا إبليس فيهرب منكم" (يعقوب 7:4).
2) العالم بشهواته – وهذا تطرده محبة الآب (1يوحنا 15:2-17).
3) الجسد – أي الإنسان العتيق، وهذا لن يفارقنا حتى نفارق هذا العالم. وهو في الحقيقة أخطر أعدائنا. هو دائماً يريد أن يظهر وأن يتداخل في كل شيء. فمثلاً، قد يقوم المؤمن بعمل صالح مثل العطاء بسخاء أو التبشير أو شرح كلام الله. في كل هذا يحب الإنسان العتيق أن يظهر لكي يمدحه الناس، وفي هذا خطر عظيم على المؤمن. ليتنا نتذكّر دائماً أن "إنساننا العتيق قد صُلب معه (أي مع المسيح) ليبطل جسد الخطية كيلا نعود نُستعبد أيضاً للخطية". لنحذر من أن نسعى وراء أعجاب الناس بنا ولا سيما في الأمور الروحية.
إذا أساء إليّ شخص، فإن الجسد أي الإنسان العتيق يريد أن ينتقم، أما الطبيعة الجديدة فتطيع أمر الكتاب "لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء" (رومية 19:12). صلب الجسد يُعبَّر عنه أيضاً بخلع الإنسان العتيق، كما يقول في كولوسي 9:3-10 "إِذْ خَلَعْتُمُ الإِنْسَانَ الْعَتِيقَ مَعَ أَعْمَالِهِ، وَلَبِسْتُمُ الْجَدِيدَ الَّذِي يَتَجَدَّدُ لِلْمَعْرِفَةِ حَسَبَ صُورَةِ خَالِقِهِ".

المجموعة: 201002