نيسان April 2010

 

هذه الصرخة الدامية التي انطلقت من صدر ابن الإنسان، يسوع المسيح على الصليب، والتي تردّدت عبر العصور حاملة معها ثقل الأحزان البشرية ما برحت حتى هذه اللحظة تُرجِّعها قلوب جميع المتألمين. ولكن صرخة ابن الإنسان كانت وما زالت تختلف في مضمونها وعمقها، وتأثيراتها عن أية صرخة أخرى صدرت عن أي مخلوق آخر.

فهذه الصرخة من حيث مضمونها وأسبابها هي صرخة حملت في ذاتها آلام الجنس البشري منذ عهد آدم إلى آخر يوم يعيش فيه الإنسان على هذه الكرة الأرضية. ومن المؤسف حقاً أن نسبة كبيرة من الناس، لا تكترث لهذه الصرخة، ولا تأبه لنتائجها لأن لها عواقب وخيمة على الذين يستهترون بها ولا يتوقّفون لحظة واحدة ليسألوا أنفسهم: ما هذه الصرخة؟ وعمَّن صدرت؟ ومن هو صاحبها، ولماذ أطلقها من صليب الجلجثة؟

إن المسيح الذي تخلّى عن أمجاده التي كان يتمتّع بها منذ الأزل، والذي أخذ صورة عبد صائراً في شبه الناس قد جاء إلى هذا العالم الفاني باختياره ليحقق للإنسان المتمرّد غير المستحقّ لأي غفران، سبيل خلاص، وطريق نجاة من أبدية رهيبة لا يعلم مدى رعبها إلا الله وحده. وقد أقدم الله على هذه الخطوة من فرط محبته أوّلاً، ورغبة المسيح الطوعية، وحفاظاً على صورته التي خلق عليها الإنسان، أن يعطي هذا المخلوق المتمرّد النزّاعُ نحو الشر، فرصة جديدة ليتصالح  مع الآب السماوي، فتترمّم العلاقة ما بينه وبين الله التي أصابها العطب. فخطايانا أصبحت فاصلة بيننا وبين إلهنا خالق السماوات والأرض، على غير ما كان عليه القصد الإلهي.

في لحظة السقوط الأولى، على الرغم من تحذيرات الله لآدم، وعن طريقه لحواء،  ألقى الإنسان بالنَّهيِ الإلهي عرض الحائط، واتّخذ موقفاً عصى فيه ربه فأضلّ نفسه وذريته من بعده لأن الخطيئة قد دخلت إلى ذلك العالم الذي خلقه الله طاهراً ليكون مقراً مقدساً لمخلوقه الذي فوّض إليه كل سلطة. جاء في سفر التكوين 27:1-30

"فَخَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ. ذَكَرًا وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ. وَبَارَكَهُمُ اللهُ وَقَالَ لَهُمْ: أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ، وَأَخْضِعُوهَا، وَتَسَلَّطُوا عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى كُلِّ حَيَوَانٍ يَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ. وَقَالَ اللهُ: إِنِّي قَدْ أَعْطَيْتُكُمْ كُلَّ بَقْل يُبْزِرُ بِزْرًا عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ، وَكُلَّ شَجَرٍ فِيهِ ثَمَرُ شَجَرٍ يُبْزِرُ بِزْرًا لَكُمْ يَكُونُ طَعَامًا. وَلِكُلِّ حَيَوَانِ الأَرْضِ وَكُلِّ طَيْرِ السَّمَاءِ وَكُلِّ دَبَّابَةٍ عَلَى الأَرْضِ فِيهَا نَفْسٌ حَيَّةٌ، أَعْطَيْتُ كُلَّ عُشْبٍ أَخْضَرَ طَعَامًا. وَكَانَ كَذلِكَ".

ومن الملاحظ هنا أن الله قد خاطب آدم وحواء بصيغة الجمع لأنهما كانا ممثلين عن الجنس البشري. فكل ما أعدّه الرب لآدم وحواء من بركات كان أيضاً من نصيب ذرّيتهما. لأنه أمرهما أن يثمروا ويملأوا الأرض، وذلك قبل السقوط. فالجنة بكل ما فيها من بركات، ونِعَمٍ، وخيراتٍ قد أعدّها الله للجنس البشري. ولكن، يا للتعاسة، فإن الإنسان باختياره الشخصي رفع راية العصيان، وأذعن لنفسه الأمّارة بالسوء لأنه خضع لإغراء الشيطان وأراد أن يكون عالماً بالخير والشر أو كما يقول الكتاب المقدس: "وَتَكُونَانِ كَاللهِ عَارِفَيْنِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ" (تكوين (5:3). وحقاً، فإنهما تطاولا على الله وأرادا أن يكونا مثله وهي نفس الخطيئة التي ارتكبها الشيطان المطرود من الحضرة الإلهية. ولكن هذه المعرفة لم تفدهما شيئاً، بل حكمت عليهما بالدينونة التي استوجبت نار جهنّم.

وعندما طُرداً من الجنة طُرد معهما كل الجنس البشري الذي أصبح مصفّداً بأغلال الخطيئة. أجل، إن الفردوس المفقود قد أصبح محرّماً على الإنسان كما أن السماء أصبحت محرّمة على الشيطان. ومنذ السقوط غرق العالم في بحرٍ من الدماء، والحروب، والهزّات، والبراكين، والشقاء. إن المآسي البشرية التي نعاني منها اليوم هي نتيجة محتّمة أسفرت عنها الخطيئة. فهل تخلّى الله عن الإنسان الذي خلقه على صورته ومثاله؟! إن الإنسان وحده قد خُلق في شبه الله من دون سائر الكائنات الحية والجامدة، لهذا فإن ربّ السماوات والأرض أشفق على مصيره الرهيب وهيّأ له الفرصة في شخص المسيح المتألم.

إن سيرة المسيح الأرضية، منذ وجودها حتى نهاية خدمته، كانت مفعمة بالآلام والأوجاع. فرؤساء الأديان، وقادة الشعب، والحكم الروماني، اتخذوا منه مواقف عدائية ولم يدركوا أن هذا المولود من العذراء هو كلمة الله المتنازل عن أمجاده ليفديَ الإنسان. ولكن هذا العداء المستشري لم يثبط من عزيمة الفادي، فقد جاء لغرضٍ معيّن دفع فيه ثمناً باهظاً يتعذّر على البشر إدراكه.

إن المسيح الذي تجرّب مثلنا بكل شيء باستثناء الخطيئة كان وحده القادر أن يجابه الخطيئة وحكم الدينونة. هذا البريء القدوس أخذ على عاتقه أن يهزم قوى الشر بطريقة مدهشة، هي عملية إنقاذ لم يعرف العالم نظيرها. لأن عملية الإنقاذ هذه لم تقتصر على اللحظات الآنية، ولا على بلدٍ ما أو شعبٍ ما ولكنها عانقت الإنسانية بكاملها بغضّ النظر عن الزمان والمكان. إنها عملية يعجز عنها جميع البشر حتى ولو تكافلوا معاً.

ومن المدهش حقاً أن المسيح نفسه كان مدركاً للثمن الباهظ الذي سيدفعه لقاء عملية الإنقاذ هذه. فكم من مرة تناول موضوع موته وقيامته، وألقى الأضواء على هذه الحقيقة بالاستعانة بكتب الأنبياء، والإشارات الواردة فيها. فالصورة كانت واضحة المعالم في ذهنه لا يشوبها أي غموض. إنها عملية خطط لها منذ الأزل وظهرت أولى بوادرها في اللحظة التي سقط فيها الإنسان. ومع ذلك، وعلى الرغم من عظم الآلام فإنه لم يحجم عن متابعة سيره إلى الصليب.

وعندما أشير إلى الآلام التي قاسى منها رب المجد، فإنني لا أعني بها الآلام الجسدية، فلم يكن المسيح أوّل من صُلب أو آخر من يُصلب. ولكنني أتحدّث عن الآلام الروحية التي هي أبعد غوراً من كل ألم جسدي.

فالمسيح على الصليب كان أولاً ضحية بريئة. لم يرتكب إثماً، ولم يجنِ ذنباً. هو حمل الله القدوس! فكان كشاة سِيق إلى الذبح من غير مقاومة، ورفض أن يقوم من يدافع عنه بقوة السلاح كما أراد أن يفعل بطرس في تهوّره. كان موقف المسيح موقفاً شمولياً إيثارياً هو تجسيد حيّ لتضحية كونية، ومضى على الصليب من غير أن يفتح فاهاً.

وثانياً، إن المسيح قد أقدم باختياره على بذل ذاته فداء للإنسان. كان يدرك أن خطيئة الإنسان تتطلب العدالة الإلهية. وعدالة الله تستوجب عقاب الإنسان الخاطئ. إن الموقف هنا موقف مصيري. فكان لا بد من تضحية تضاهي عظم الخطية. ومن حيث أنه لم يوجد من يستطيع أن يخلص الإنسان من إثمه وفجوره، وعقابه، وينقذه من عدالة الله غير المتبدّلة، فإن المسيح، كلمة الله الأزلي وابن الله الممجّد، عرف أنه هو الحلّ لمشكلة الإنسان وأنه بغيره لا تحصل مغفرة. وهناك على الصليب التقت العدالة بالمحبة؛ اجتمع العقاب بالفداء وتمت المصالحة التاريخية الأبدية.

ثالثاً، ومع كل ذلك، فإن عملية الإنقاذ هذه حملت في طياتها موقفاً رهيباً جداً. إنها اللحظة التي يشيح فيها الآب وجهه عن ابنه. إنها لحظة التضحية الكبرى! وكأن الله لم يتحمّل أن يرى ابنه ينوء تحت أثقال خطايا الإنسانية. إنه مشهد مقيت في عينَي الآب السماوي الكلي القداسة، فانفطر قلبه حزناً على ابنه. إن أجرة الخطيئة هي موت. لقد تمّ ذلك على الصليب، وأكمل العمل الإلهي. تحقّقت الخطة الإلهية للخلاص ولكن على حساب ثمنٍ لم يستطع أحد أن يتصوّره. وفي الصليب اشتركت السماء والأرض في موكب حزن لأن البار صار خطيئة من أجلنا.

رابعاً، في اللحظة التي أشاح بها الآب وجهه عن ابنه ارتفعت تلك الصرخة الداوية: "إلهي! إلهي! لماذا تركتني؟" لم يكن هذا التخلّي ولو للحظات وجيزة إنكار الآب للابن بل كان ضرورة فرضتها العدالة من ناحية والمحبة من ناحية أخرى. ولكن تلك الصرخة الأليمة كانت تعبيراً عن العلاقة الحميمة بين الآب والابن. فكما أن الآب لم يتحمّل أن يرى ابنه البريء تحت عقاب الدينونة من أجل فداء الخطاة، فإن الابن لم يتحمّل أن يرى الآب يشيح بوجهه عنه ولو للحظات قصار.

ولكن هذا المشهد الفاجع لم يطُلْ، فإن المصلوب الفادي بموته قد غلب الموت وقهر الهاوية، وأحبط مؤامرة إبليس واكتملت عملية الإنقاذ.

يا قارئي العزيز، بقي عليّ أن أهمس بأذنك كلمة خطيرة جداً. إن فداء المسيح متوافر لك في أية لحظة، ولكن الحصول عليه يتوقّف عليك؛ فالمسيح لا يفرض ذاته عليك قسراً، لأنه يحترم إرادتك، ولكن عليك أن تتذكّر التضحية الهائلة التي بذلها من أجل خلاصك، فإن قبلت فداءه فلك حياة أبدية، وإن رفضته واستنكرته فأنت المسؤول عن مصيرك الوخيم العاقبة.

ألا تتوقّف لحظة لتفكّر بهذه الحقيقة؟

المجموعة: 201004