حزيران June 2010

وحين نأخذ في دراسة الأدب الإنجيلي ولا سيما خطب المسيح وتعاليمه وأمثاله، وقصصه يطالعنا أُسلوب أدبي رفيع له دلالته الفنية وإيقاعه الموسيقي. ومع أن الترجمات على اختلاف أنواعها قد اخفقت في إبراز هذا الجمال، فإن بعض مظاهره نراها مجسّدة في بضعة مقطوعات علّق عليها عباس محمود العقاد في سياق حديثه عن لغة المسيح، فقال:


كانت فذّة في تركيب كلماتها ومفرداتها، فذّة في بلاغتها وتصريف معانيها، فذّة في طابعها الذي لا يشبهه طابع آخر في الكلام المسموع والمكتوب، ولولا ذلك لَمَا أُخذ السامعون بها ذلك المأخذ المحبوب مع غلبته القوية على الأذهان والقلوب.
ويستطرد أيضاً:
كانت في تركيبها نمطاً بين النثر المرسل والشعر المنظوم؛ فكانت فناً خاصاً ملائماً لدروس التعليم والتشويق وحفز الذاكرة والخيال. وهو نمط من النظم لا يشبه نظم الأعاريض والتفعيلات التي نعرفها في اللغة العربية، لأن هذا النمط من النظم غير معروف باللغة الآرامية ولا باللغة العبرانية، ولكنه أشبه ما يكون بأسلوب الفواصل المتقابلة والتصريعات المردّدة التي ينتظرها السامع انتظاره للقافية وإن كانت لا تتكرر بلفظها المعاد.
ولقد اطّلعت على مقتطفات من ترجمة عربية قديمة للإنجيل يرجع تاريخها إلى القرن الثامن أو التاسع للميلاد، أورد نصوصها كاملة كنماذج رائعة لأسلوب المسيح ولغته ومضمونه:
"لاَ تَجْعَلُوا كُنُوزَكُمْ فِي الأَرْضِ حَيْثُ يُفْسِدُهَا السُّوسُ وَالدُّودُ وَحَيْث يَنْقُبُ السُّرَّاقُ، وَلَكِنِ اجْعَلُوا كُنُوزَكُمْ فِي السَّمَاءِ فَإِنَّهُ حَيْثُ تَكُونُ كُنُوزُكُمْ تَكُونُ قُلُوبُكُمْ. إِنَّ العَيْنَ هِيَ سِرَاجُ الجَسَدِ فَإِذَا كَانَتْ عَيْنُكَ صَحِيحَةً فَإِنَّ جَسَدَكَ كُلَّهُ مُضِيءٌ. وَإِنَّهُ لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ لِرَبَّيْنِ اثْنَيْنِ إِلاَّ أَنْ يُحِبَّ أَحَدَهُمَا وَيُبْغِضَ الآخَرَ، وَيُوَقِّرَ أَحَدَهُمَا وَيُهِينَ الآخَرَ، فَكَذَلِكَ لاَ تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَعْمَلُوا لِلَّهِ وَلِلْمَالِ، وَلاَ يُهِمِّنَّكُمْ مَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَشْرَبُونَ وَمَا تَلْبَسُونَ، أَلَيْسَتِ النَّفْسُ أَفْضَلَ مِنَ الطَّعَامِ، وَالجَسَدُ أَفْضَلَ مِنَ الْلِبَاسِ؟ أُنْظُرُوا إِلَى طَيْرِ السَّمَاءِ فَإِنَّهُنَّ لاَ يَزْرَعْنَ وَلاَ يَحْصُدْنَ وَلاَ يَجْمَعْنَ فِي الأَهْرَاءِ، وَأَبُوكُمْ الَّذِي فِي السَّمَاءِ هُوَ الَّذِي يَرْزِقُهُنَّ، أَفَلَسْتُمْ أَفْضَلَ مِنْهُنَّ؟ وَأَيُّكُمْ الَّذِي جَهِدَ قَدَرَ أَنْ يَزِيدَ فِي طُولِهِ ذِرَاعَاً وَاحِداً! فَلِمَ تَهْتَمُّونَ بِالْلِبَاسِ؟ إِعْتَبِرُوا بِسُوسِ البَرِّيَّةِ فَإِنَّهُ لاَ يَعْمَلُ وَلاَ يَغْزِلُ، وَأَنَا أَقُولُ: إِنَّ سُلَيْمَانَ بِوَقَارِهِ لمَ ْيَسْتَطِعْ أَنْ يَلْبَسَ كَوَاحِدَةٍ مِنْهُ؛ فَإِذَا كَانَ اللهُ يُلْبِسُ عُشْبَ الحَقْلِ الَّذِي يَنْبُتُ اليَوْمَ وَيُلْقَى غَداً فِي النَّارِ، أَفَلَسْتُمْ يَا قَلِيلِي الإِيْمَانِ أَفْضَلَ مِنْهُ؟ وَلاَ تَهْتَمُّوا فَتَقُولُوا: مَاذَا نَأْكُلُ وَمَاذَا نَشْرَبُ وَمَاذَا نَلْبَسُ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَهْتَمُّ لِذَلِكَ ابْنُ الدُّنْيَا، وَإِنَّ أَبَاكُمْ الَّذِي فِي السَّمَاءِ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ يَنْبَغِي لَكُمْ؛ فَابْدَأوا فَالْتَمِسُوا مَلَكُوتَ اللهِ وصدِّيقِيَّتُهُ فَإِنَّكُمْ سَوْفَ تُكْفَوْنَ. وَلاَ يَهُمَّنَّكُمْ مَا فِي غَدٍ، فَإِنَّ غَداً مُكْتَفٍ بِهَمِّهِ، وَحَسْبُ اليَوْمَ شَرُّهُ. وَكَمَا تَدِينُونَ تُدَانُونَ، وَبِالمْكِيْاَل الَّذِي تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ. وَكَيْفَ تُبْصِرُ القَذَاةَ فِي عَيْنِ أَخِيكَ وَلاَ تُبْصِرُ السَّارِيَةَ فِي عَيْنِكَ؟ لاَ تُعْطُوا الكِلاَبَ القُدْسَ، وَلاَ تُلْقُوا لُؤْلُؤَكُمْ لِلْخَنَازِيرِ. سَلُوا تُعْطَوا، وَابْتَغُوا تَجِدُوا، وَاسْتَفْتِحُوا يُفْتَحُ لَكُمْ، وَانْظُرُوا الَّذِي تُحِبُّونَ أَنْ يَأْتِيَ النَّاسُ إِلَيْكُمْ فَأْتوُا مِثْلَهُ. أُدْخُلُوا البَابَ الضَّيِّقَ، فَإِنَّ البَابَ وَالطَّرِيقَ إِلَى الهَلَكَةِ عَرِيضَانِ، وَالَّذِينَ يَسْلُكُونَهُمَا كَثِيرٌ. وَمَا أَضْيَقَ البَابَ وَالطَّرِيقَ الْلَذَيْنِ يُبَلِّغَانِ إِلَى الحَيَاةِ! وَالَّذِينَ يَسْلُكُونَهُمَا قَلِيلٌ.
وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَتْبَعُكَ حَيْثُ ذَهَبْتَ؛ فَقَالَ لَهُ عِيسَى (المَسِيحُ): لِلثَّعَالِبِ جِحَرَةٌ، وَلِطَيْرِ السَّمَاءِ كِنَانٌ، وَلَيْسَ لاِبْنِ الإِنْسَانِ مَكَانُ يُسْنِدُ فِيهِ رَأْسَهُ.
وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الحَوَارِيِّينَ (التَّلاَمِيذِ): أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أَدْفِنَ أَبِي؟ فَقَالَ لَهُ: دَعِ المَوْتَى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُمْ وَاتْبَعْنِي. وَقَالَ لِلْحَوَارِيِّينَ: لاَ تَتَزَوَّدُوا شَيْئاً، فَإِنَّ العَائِلَ مَحْقُوقٌ أَنْ يُطْعَمَ قُوتَهُ، وَإِنِّي أُرْسِلُكُمْ كَالْخِرْفَانِ بَيْنَ الذِّئَابِ، فَكُونُوا حُلَمَاءَ كَالْحَيَّاتِ وَبُلْهَاً كَالْحَمَامِ. وَإِذَا دَخَلْتُمْ عَلَى البَيْتِ فَسَلِّمُوا عَلَى البَيْتِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ البَيْتُ أَهْلاً لِسَلاَمِكُمْ فَلْيُصِبْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلاً لِسَلاَمِكُمْ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إِلَيْكُمْ. وَمَنْ لَمْ يُؤْوِكُمْ وَيَسْمَعْ لِقَوْلِكُمْ، فَإِذَا خَرَجْتُمْ مَنْ قَرْيَتِهِ فَانْفُضُوا الغُبَارَ عَنْ أَرْجُلِكُمْ".
وعلى الرغم من أن هذه الترجمة فيها شيء من التصرف فقد تميزت بنصاعة العبارة، وعبّرت، إلى حد ما، عن أسلوب المسيح في اللغة الأصلية. وفي سياق تحذيره ونذيره لأُورشليم قال المسيح:
"يَا أُورُشَلِيمُ، يَا أُورُشَلِيمُ، يَا قَاتِلَةَ الأَنْبِيَاءِ وَرَاجِمَةَ المُرْسَلِينَ إِلَيْهَا! كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَوْلاَدَكِ كَمَا تَجْمَعُ الدَّجَاجَةُ فِرَاخَهَا تَحْتَ جَنَاحَيْهَا، فَلَمْ تَرِيدُوا!
"هُوَذَا بَيْتُكُمْ يُتْرَكُ لَكُمْ خَرَابَاً".
وحين خاطب بنات أورشليم النائحات بصوته الحنون قائلاً:
"يَا بَنَاتِ أُوْرُشَلِيمَ، لاَ تَبْكِينَ عَلَيَّ وَإِنَّمَا عَلَى أَنْفُسِكُنَّ وَأَوْلاَدِكُنَّ فَابْكِينَ.
"هُوَذَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُولُ فِيهَا النَّاسُ: طُوبَى لِلْعَوَاقِرِ الْلَوَاتِي لَمْ يَحْمِلْنَ وَلَمْ يَلِدْنَ وَلَمْ يُرْضِعْنَ.
"آنَئِذٍ يَدْعُونَ الجِبَالَ أَنْ تَنْهَارَ عَلَيْهِمْ وَالآكَامَ أَنْ تُغَطِّيَهُمْ".
وعندما تناول أسلوب الأمثال فقد اعتمد المسيح ضروبا من القوالب التعبيرية التي يعوِّل بعضها على الرمز كمثل الزارع ومثل العشر عذارى؛ وبعضها التي فيها يعوِّل على الحكمة كقوله: «لاَ تَطْرَحُوا دُرَرَكُمْ أَمَامَ الخَنَازِيرِ» أو «بِالْكَيْلِ الَّذِي تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ». وبعضها يعوِّل على القياس كمثل قوله: «إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ مَنْ يُحِبُّونَكُمْ فَأَيُّ فَضْلٍ لَكنُمْ؟ أَلَيْسَ ذَلِكَ شَأْنَ الْعَشَّارِينَ؟ أو «لاَ حَاجَةَ بِالأَصِحَّاءِ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ الْمَرْضَى». ومن نماذج المثل الذي يعوِّل على التشبيهات حديثه لتلاميذه:
"أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ فَإِنْ فَسُدَ الْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُمَلَّحُ؟ إِنَّهُ لاَ يَصْلُحُ إِلاَّ لأَِنْ يُطْرَحَ عَلَى التُّرَابِ وَيُدَاسَ. أَنْتُمْ نُورُ الْعَالَمْ وَلاَ خَفَاءَ بِمَدِينَةٍ قَائِمَةٍ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ؛ وَمَا مِنْ سِرَاجٍ يُوْقَدُ لِيُوْضَعَ تَحْتَ الْمِكْيَالِ، وَلَكِنَّهُ يُرْفَعُ عَلَى الْمَنَارِ لِيَسْتَضِيءَ بِهِ جَمِيعُ مَنْ فِي الدَّارِ".
وقد مال المسيح في معظم أمثاله إلى أُسلوب المقابلة بين الأضداد لجلاء المعاني إيضاحاً للفوارق وممايزة للتباين من وراء هذه المقابلة كمثل قوله:
"وَكَيْفَ تٌبْصِرُ الْقَذَاةَ الَّتِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ وَلاَ تُبْصِرُ السَّارِيَةَ الَّتِي فِي عَيْنِكَ؟
"يُحَاسِبُونَ عَلَى الْبعُوضَةِ وَيَبْلَعُونَ الْجَمَلَ.
"فِي الظَّاهِرِ جِدْرَانٌ مُبْيَضَّةٌ وَفِي الْبَاطِنِ عِظَامٌ نَخِرَةٌ".
ويقول العقاد:
وجميع هذه التشبيهات تتسم بطابع واحد هو طابعه الذي انفرد به بين أنبياء الكتب الدينية بغير نظير وإن كانوا قد اعتمدوا مثله على ضروب شتى من الأمثال.
ولعل من أبرز القصص التي سردها المسيح القصة المعروفة بقصة الابن الضال. وأقل ما يقال عنها أنها نموذج حيٌّ لواقع اجتماعي غير محدد بزمان معين أو بيئة ما، وإن كانت في ظاهرها تمثل المجتمع الشرقي بعامة. فالروابط العائلية، والتقاليد، والعادات، والأعراف التي تشكل الإطار الظاهري للنظام الأُسروي والاجتماعي تبرز بجلاء في نسيج هذه القصة. كذلك نشهد فيها، وبصورة صارخة، الثورة على رموز السلطة كتعبير ملتو عن الحرية المشوّهة. إن الإنسان ميّال بطبعه نحو الحرية التي هي هبة إلهية أسبغها الله على عباده. ولكن الإنسان بغبائه لم يفرق بين الحرية المسؤولة وبين الحرية الفوضوية. الابن الضال رمز للحرية المتحللة من كل النظم والأعراف. وفي سبيل هذه الحرية تمرد على تقاليد مجتمعه، ورفض إسار المحبة التي كانت تتفجر في قلب والده. ظن أن الحرية، كما فهمها، هي أثمن شيء في حياته، فتنكَّر لماضيه، وعائلته، وقيمه. إن الرغبة الجامحة لاكتشاف المجهول كانت الحافز الحقيقي وراء اغترابه بل ضلاله. أقول «ضلاله» لأن «اكتشاف المجهول» كان قائماً على إشباع نزواته وأهواء نفسه. كانت القرية التي أقام فيها تفتقر إلى الإثارة والحركة. إنه مجتمع باهت رتيب يبعث على الملل، لهذا أقدم على خطوة تستنكرها الأعراف المتّبعة إذ طالب بميراثه ووالده ما برح على قيد الحياة. كان من حق الوالد ان يورث ابنه، باختياره، ما يشاء من ثروته، ولكن لم يكن من حق الابن أن يطالب بنصيبه من المال في أثناء حياة والده. وأكثر من ذلك فإن الابن الضال بعد أن قبض ميراثه ومضى إلى أرض بعيدة، بذّر أمواله على كل ما تشتهيه نفسه. فجأة وجد نفسه شريداً، وحيداً في أرض غريبة. إن سعيه وراء المجهول لم يسعفه على «اكتشاف المجهول» بل جعل منه راعياً للخنازير. أليست هذه هي صورة واقعية عن الداء المستشري في مجتمعاتنا المعاصرة حيث يسود الإحساس باللاإنتماء؟ أليس شباب عصرنا قد ضلوا سواء السبيل وهم يظنون أنهم يبحثون عن الحقيقة فاختلفت خطاهم، وانساقوا وراء أوهام وأحلام ألقت بهم في مهاوي التهلكة وهم لا يعلمون؟ لقد صاغ المسيح، بأُسلوبه الدافئ الحيوي، وفي قصة قصيرة، عالماً قائماً بذاته صوّر فيه بدقّة متناهية بعيدًا عن أُسلوب الموعظة، سلسلة مواقف متناقضة كشف فيها عن شخصيات أبطالها. هذه الشخصيات التي تختلف باختلاف نظرتها إلى الحياة؛ فالأب الذي أقدم على إعطاء ابنه نصيبه من الميراث قد فعل ذلك وهو مدرك تمامًا للنتائج الوخيمة التي سيتعرض لها ابنه، ولكنه كان واثقًا ان ابنه المتمرد لن يصغي إلى صوت العقل. وهكذا تحمّل الوالد على مضض آلامه، وكان دائمًا توّاقًا لعودته على الرغم من عصيانه وتصرفه الشائن، ليحتل من جديد مكانه اللائق بالأسرة. ومن ناحية أخرى، هي تجسيد عميق لمحبة الأب اللامتناهية على نقيض ما أبداه الأخ الأكبر من غضب، وبرٍّ ذاتي، وتبجّح بمآثره لدى عودة أخيه من رحلة الضياع، وثارت حفيظته على والده لِمَا أبداه من ترحيب برجوع ابنه الضال، هذا الابن الذي بذّر أموال أبيه من غير طائل، وأساء إلى سمعة العائلة. وفي التحليل النهائي، يبدو أن هذه القصة تعكس مستويات ثلاثة: المستوى الأول هو مستوى المحبة التي تعانق كلية الإنسان الخاطئ التائب كما تجلت في موقف الأب؛ والمستوى الثاني هو مستوى القلب المتمرّد الذي غرق في مستنقع الخطيئة كما جسّده الابن الضال؛ والمستوى الثالث هو مستوى الروح الفرِّيسيّة التي أعرب عنها الابن الأكبر. وهكذا تصطرع في هذه القصة إرادات ثلاث متناقضة في بيئة تهيمن عليها التقاليد التي لا يمكن أن تتبدّل إلاّ بالمحبة.
والواقع، إن من يتأمّل في هذه الأساليب وسواها التي اعتمدها المسيح، يرى أنه اقتبس معانيه من مختلف مظاهر الحياة، وخاطب الجماهير بما هو مألوف لديهم. لم ينحُ المسيح نحو المطلقات إلاّ في حالات نادرة جداً، بل تناول أمثاله من طبيعة المجتمع الذي كان يعيش فيه. فالحقول تمتد أمام باصرتيه، والجبال تحيط به، وشواطئ البحر الأبيض المتوسط تخط الساحل الفلسطيني، فضلاً عن بحيرة طبرية ونهر الأردن. ثم راح يجول في المدن والقرى، ويختلط بكل طبقات المجتمع، ويعنى بالمرضى المتوافدين إليه من كل رجء. لم يعش المسيح بمعزل عن الحياة اليومية، ولم يترهّب في صومعة منفردة على قمة جبل، بل عايش أحداث عصره وخاض معارك روحية واجتماعية مع مناوئيه، فاستوعب بذهن متوقّد، وقلب نبي، وقوة إله، مشكلات ذلك المجتمع وتعقيداته. لهذا اجتذب إليه الجماهير، وسلب قلوبهم وعقولهم بأسلوب خطابه الرائع وأمثاله المستمدة من واقع حياتهم. لم يتفلسف المسيح في مواعظه بل عالج موضوعاته بلغة وتعابير لها رنينها الخاص، وإيقاعها الممتع، فهمها الناس بعد ان أضفى عليها معان جديدة ذات أبعاد غلب عليها عنصر الرؤيا.

المجموعة: 201006