كانون الأول December 2010

وصارَ القصر يعجُّ ويمجُّ بالناس، والخدمُ والحشم يروحون ويجيئون ذهابًا وإيابًا وكأنَّهم يبحثون عن شخصٍ فائق الوصف علّه يساعدهم في إعادة السِّلْم والهدوء إلى صالات القصر وأروقتِه. وصاروا في حيرةٍ من أمر الملك صاحبِ المُلْك والصولجان، والنَّهي والسلطان. فلقد أضحى كَمَن مسَّه الجنونُ منذ أن زارتْه شُلّة من رجالٍ محترمين قَدِموا من الشرق مستفسرينَ وقائلين: "أَيْنَ هُوَ الْمَوْلُودُ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ فلقد رأينا نجمه اللامع ظاهرًا في قُبَّة الفضاء الفسيح، متلألئًا يُنبئُ بحدَثٍ مجيدٍ وسعيد. ولأنَّنا علماءُ الفلك نستطيع حلَّ الألغاز وفكَّ الرموز، تبعناهُ ساعينَ، علَّنا نمتِّع ناظرينا بمشهد المولود المليك، وعسانا نصيرُ للتاريخِ شهودًا، فنُضحي من المشاهير".
وصلتْنا كلُّ هذه الأخبارِ المثيرة عبرَ المرسَلين من قِبَلِ القصر، ودعانا يومَها الملكُ نفسُه للحضور فورًا وعلى جَناح السرعة لكي نَحُلّ هذا اللغزَ القائم ونسبُرَ غورَ معانيه وأبعادِه الحقيقية. وهنا ما كان مني أنا الذي كنتُ من الكتَبَة بين الشعب، إلا أن جمّعتُ ما أحتاج إليه من ملفات وكتابات، تأبَّطتُها بحرصٍ شديد، ونزلتُ متوجهًا إلى العربة التي أقلَّتني إلى القصر الملكي في أورشليم. وإثرَ وصولي وجدْتُ خِلاَّني وأحبابي وأترابي من الكتبة ورؤساءِ الكهنة قد سبقوني إلى هناك وكانوا جميعًا يتداولونَ في الحدَث الكبير والأمرِ الخطير. وللحال، ولمَّا اكتمَل النِّصابُ دخلَ علينا الملكُ هيرودس وهو في حالٍ من الانزعاج والاضطراب العظيمين. ووجَّه سؤاله لنا جميعًا وقال: أنتم يا رؤساءَ الدين من كتَبةٍ ومعلّمين، أين يولدُ المسيح؟ وعندما عُدنا أنا وزملائي إلى ملفَّاتنا ومخطوطاتنا، وجدْنا ما يريده وعرفنا ما يَبغيه. فقلنا له بصوت واحد مردّدين: "فِي بَيْتِ لَحْمِ الْيَهُودِيَّةِ. لأَنَّهُ هكَذَا مَكْتُوبٌ بِالنَّبِيِّ". وعندما استفسر مرة أخرى عن النبي المتنبئ عنه، اقتبسنا جميعنا الآية المكتوبة في سفر النبي ميخا والتي قال فيها: "وَأَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمٍ، أَرْضَ يَهُوذَا لَسْتِ الصُّغْرَى بَيْنَ رُؤَسَاءِ يَهُوذَا، لأَنْ مِنْكِ يَخْرُجُ مُدَبِّرٌ يَرْعَى شَعْبِي إِسْرَائِيلَ".
 
"في بيت لحم؟" كرَّر الملك سؤاله لنا نحن المستشارين. فقُلنا: نعم، من جديد. وميخا النبي قد أعطاهُ الله هذه النبوة منذُ سبعةِ قرون، وها نحن ننتظر تحقيقَ الحلم وتتميمَ الوعد. ليس نحنُ يا جلالةَ الملك - قلنا بفخر - مَن يترقَّب مجيء المسيح الملك فحسب، لكنَّ الشعبَ اليهودي بأسره ينتظر المسيح ملِكًا أرضيًا ومحرّرًا عظيمًا. فانتفَض هيرودس للحال أمامَ أعيننا كَمَن لسَعه ثعبانٌ مخيف، وكان الشَّررُ يتطاير من عينيه، وطلبَ منا أن ننصرِفَ عنه فورًا. وهكذا حملنا كتاباتنا وملفاتنا وتركنا القصر بما فيه من صخب كبير وحيرة أكبر.

تركتُ القصرَ فعلاً، لكنَّ ما حصل فيهِ لم يتركْني قطُّ، بل بقي في داخلي يقضُّ عليَّ مضجعي يومًا بعدَ الآخر. فمِن بيت لحم المتواضعة وليس من أورشليم، سيخرج المدبّر الذي يرعى شعبنا؟! وتساءلت حينذاك، وبعدَ مرور شهور عديدة على ذلك الحدَث، وقلت: كيف سيحدث هذا وقد أرسلَ هيرودسُ الحاقدُ وقتَل كلَّ الصبيانِ من سنتين فما دون؟ حتى إنَّ أصواتَ عويل النساء سُمع في كلِّ الأنحاء والأصقاع؟ "صَوْتٌ سُمِعَ فِي الرَّامَةِ، نَوْحٌ وَبُكَاءٌ وَعَوِيلٌ كَثِيرٌ. رَاحِيلُ تَبْكِي عَلَى أَوْلاَدِهَا وَلاَ تُرِيدُ أَنْ تَتَعَزَّى، لأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَوْجُودِينَ" (متى 17:2). ها قد خاب ظني واندثر الحلم الذي كنت أنتظر تحقيقَه! ولا بدَّ أنَّ المولود الذي سأل عنه أبناءُ الشرق أولئك، قد أضحى في عِداد الأموات، ولم يعدْ هناك مَلِكٌ ولا ملكوت. وبكيتُ بحرقةٍ لأن أملي في مجيء الملك المسيح قد خَبا لا بل اضمحلَّ. ومضتِ الأيام لا بل السنون وتوالتِ العُقود بخطىً وئيدة أحسستُها ثقيلةً ثقيلة.

ولكن في يوم من الأيام وبينما كنتُ مع أصدقائي في برية اليهودية إذا بي أسمعُ صوتًا من بعيد يصرخ ويقول: "تُوبُوا، لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّماوَاتِ". وبعد قليل توجّه الشخص الذي قيل عنه إنه يوحنا المعمدان، توجَّه إلى الفريسيين والصدوقيين الذين أتوا ليعتمدوا منه، قائلاً لهم: "يَا أَوْلاَدَ الأَفَاعِي، مَنْ أَرَاكُمْ أَنْ تَهْرُبُوا مِنَ الْغَضَب الآتِي؟". وبينما نحن نراقب رأيناه وهو يشير ببِنانه إلى شخص آخر قادم وقال: "هُوَذَا حَمَلُ اللهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ" (يوحنا 29:1)، وللحال اعتمد منه. وحدث شيء غريب عندها إذ لدى صعوده من الماء "وَإِذَا السَّمَاوَاتُ قَدِ انْفَتَحَتْ لَهُ، فَرَأَى رُوحَ اللهِ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ وَآتِيًا عَلَيْهِ، وَصَوْتٌ مِنَ السَّمَاوَاتِ قَائِلاً: هذَا هُوَ ابْني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ" (متى 16:3-17).

وكانت تلك يا أصدقائي بداية قصتي أنا مع هذا الشخص العجيب الذي دعاه النبي يوحنا "حمل الله" ودعته السماء "الابن الحبيب". نعم، لقد بقي على قيد الحياة ولم يمسَّه سوء - كلاَّ - ولم تصلْ إليه يد هيرودس الكبير. أجل، لقد تتبَّعتُه منذُ ذلك اليوم واستمعت إليه يتكلم في المجامع ويقتبس من الأنبياء ويقول: "الشَّعْبُ الْجَالِسُ فِي ظُلْمَةٍ أَبْصَرَ نُورًا عَظِيمًا، وَالْجَالِسُونَ فِي كُورَةِ الْمَوْتِ وَظِلاَلِهِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ" (متى 16:4). وراح من بعدها يسوع - وهذا اسمه - يكرز ويقول: "تُوبُوا لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ" (متى 17:4). ففرحت، وعاد الأمل يدغدغ قلبي من جديد، وتكلمت مع رفاقي عنه، فسخر البعض مني واستمع إليه معي البعضُ الآخر. ولكنْ، لما سمعته يعلّم الجموع على الجبل تأثرتُ جدًا ولمس كلامُه قلبي ورحت أفكر في تعليمه، وأقارنه أنا بالناموس والشرائع التي حفظتها عن ظهر قلب. ورأيت أن كلامه يفوق كلَّ وصية، ويسمو فوق كلِّ تعليم ويرتفع فوقَ كل شريعة. كلامه مملوء بالنعمة، والحكمة والمحبة الكاملة لبني البشر أجمعين.

وصرت أفكر، وراقبته من بعيد، وقال مرة شيئًا تركني أكثر حيرة. قال: "لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ، يَا رَبُّ! يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. بَلِ الَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ... فَكُلُّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالِي هذِهِ وَيَعْمَلُ بِهَا، أُشَبِّهُهُ بِرَجُل عَاقِل، بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الصَّخْرِ. فَنَزَلَ الْمَطَرُ، وَجَاءَتِ الأَنْهَارُ، وَهَبَّتِ الرِّيَاحُ، وَوَقَعَتْ عَلَى ذلِكَ الْبَيْتِ فَلَمْ يَسْقُطْ، لأَنَّهُ كَانَ مُؤَسَّسًا عَلَى الصَّخْرِ" (متى 21:7 و24-25). وبهتُّ عندها من تعليمه هذا إذ كان يتكلم كمن له سلطان وليس مثلنا نحن كتبة الشعب. وأُخذت بتعليمه، ورأيته يطهّر الأبرص؛ وسمعته يقول كلمة فيشفي من خلالها غلام قائد المئة الروماني. فتعجبت! لأنه كان يحب الجميع وليس شعبنا فقط. وعندما جاء إلى بيت أحد تابعيه رأى حماته مطروحة محمومة، فلمس يدها فتركتها الحمى للحال. وقدموا له مجانين كثيرين فأخرج الأرواح بكلمة وجميع المرضى شفاهم.
 
عندها لمعت في ذاكرتي نبوءة النبي إشعياء: "هُوَ أَخَذَ أَسْقَامَنَا وَحَمَلَ أَمْرَاضَنَا" (متى 17:8). وفي ذلك الحين لم أعد بحاجة إلى برهان، فركضت إليه من قلب الجموع الكثيرة، وتقدّمت نحوه من دون خجل أو وَجَل وقلت له: "يَا مُعَلِّمُ، أَتْبَعُكَ أَيْنَمَا تَمْضِي". نعم، لم يعد يهمني أحد، لا زملائي ولا رفاقي الذين ما زالوا في عنادهم وإصرارهم في رفضه لأنه لم يبنِ ملكوتًا على الأرض، ولم يردعْ عنا الرومان وحكمَهم الجائر. قلت له: "أتبعك أينما تمضي"، وكنت أعني ما أقول لأنني وجدت أنه هو رجائي وأملي في الحياة. فيه خلاصي ونجاتي من الخطية التي تسيطر علي. فقال لي يسوع: "لِلثَّعَالِب أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكَارٌ، وَأَمَّا ابْنُ الإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ" (متى 19:8). نعم، لم يكن له مكان معين يعيش فيه، لأنه كان يجول بين الناس دون فرق بين غني وفقير، بين عبد وحر، بين يهودي وأممي، لكي يعلّمهم روح الوصية، النعمة والحق. تبعتُه حتى ولو لم يكن لديه مكان يأوي إليه، تبعته أنا الكاتب، ويا لها من رحلة ممتعة. لأنني أدركت من بعدها أن يسوع المولود في بيت لحم، والذي انتظرْته ملكًا أرضيًا، هو المسيح الذي ملَكَ كياني الداخلي وغيَّر أحاسيسي ومشاعري وفكري وقلبي وكلّ شيء فيّ.

والآن، هأنذا أوجِّه كلمتي لكلِّ كاتب ماهر، ولكل متمسك بالناموس ثائر، ولكل إنسان عادي حائر، كلمتي لكَ اليوم هي: إن يسوع المسيح هو الملك الموعود، الذي جاء ليملك على قلوب البشر، فينظِّفها من الآثام والأوحال، ويتربع فيها على العرش. فهل أدركتَ مَن هو هذا وليدُ بيت لحم؟ وهل قبلتَه وآمنتَ به من كل قلبك؟ أم أنك لا زلت ترفضه ربًا ومخلصًا ومنقِذًا مرسَلاً من الله الآب ليمنحَكَ حياة وحياة أفضل؟ اتبعْه الآن فَتَحيا!

التوقيع: كاتب من فئة كَتَبَةِ الشعب

المجموعة: 201012