كانون الأول December 2010

يحتل موضوع الميلاد العذراوي للمسيح موقعًا مرموقًا في مجالات الجدال الديني والتاريخي، ولم تخلُ أبحاث العلماء من التنويه عن تلك العقيدة. ويعتقد المسيحيون أنها تعليم كتابي بل وإحدى المعجزتين الكبريين في الدين جنبًا الى جنبٍ مع معجزة القيامة. فالمسيح وُلد معجزيًا وقام معجزيًا؛ لذلك حياته كانت إعجازًا فائقًا، وبشارته رسالة خلاص، وتعاليمه قمة الشرائع، وأعماله مدرسة الأجيال، وتأثيره نقطة فاصلة في قرارات الفرد والعائلة والأمم. وأرسل الملاك الى عذراء مخطوبة ليوسف "ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر ودعا اسمه يسوع" (متى 25:1). وحتى مريم نفسها نفت أية علاقة مع يوسف "وأنا لست أعرف رجلاً" (لوقا 34:1)، ويوسف "أراد تخليتها سرًا". فلو كانت زوجته كيف يتخلى عنها؟ وهذا يأتي بنا الى رؤى عجيبة لميلاد المسيح العذراوي والتي تؤيد إمكانية أو ضرورة حدوثه:
 
 أولاً: الرؤيا الأزلية
 
 وهذا ما أعلنه الله نفسه عندما سقط الأبوان الأولان في جنة عدن لأن العداوة بين نسل المرأة والحية ستظل قائمة بدوام الحياة "هو يسحق رأسك وأنت تسحقين عقبه" (تكوين 15:3). ومتى تم ذلك؟ "في ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوًدا من امرأة، مولودًا تحت الناموس، ليفتدي الذين تحت الناموس". و"تدعو اسمه يسوع لأنه يخلص شعبه من خطاياهم" (متى 21:1). ولماذا وُلد معجزيًا وليس كأي انسان؟ السبب حتى لا يرث طبيعة آدم ولا تسري عليه. أما لماذا لا نعتبره كآدم في الخلق؟ لأنه بمجيئه تجسّد الكلمة "والكلمة صار جسدًا". قال يوسيفيوس المؤرخ اليهودي باب 20 رأس 8: "وكان في ذلك الزمان رجل يقال له يسوع ذا حكمة بليغة وكان يجيء من ضروب المعجزات بأبدعها، وكان يهدي إلى الحق. وقد أمر بيلاطس بأن يُصلب فمات على الصليب، لكنه انبعث إليهم في اليوم الثالث حيًّا". وهذا ما تنبأت به الأنبياء. إن المسيحية هي الإعجاب بالمسيح بإخلاص وبقوة حتى نصير مثله.
 
 ثانيًا: الرؤية النبوية
 
 يتنبأ إشعياء النبي عن عمانوئيل المسيح المنتظر قبل مجيئه بسبعة قرون وثلث في 10:7-16 "ها العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمانوئيل". وقد أثار هذا القول الكثير من التفاسير والشروح ما بين مؤيد وناقد. ويخفى عن هؤلاء بأن الأصحاحات من 1-12 تنطق بنبوات عن شعب الله القديم: نبوة على أورشليم ص2-4، ونبوات أخرى عن القضاء الذي يحل بها ومجد عصر المسيا، وعن ازدهار شعب الله ص5، ورؤيا مجد الرب في هيكله ص6، ثم الإعلان عن عمانوئيل "الله معنا". وقد ابتدع الناقدون فكرة عدم دقة إشعياء في استخدام الأسماء، وركزوا على اسم ابنه "لمهير شلال حاش بز" ومعناه يعجل السلب ويسرع النهب، وأهملوا اسم ابنه الثاني "شآريشوب" ومعناه البقية ترجع. وهنا لنا ثلاث كلمات يحرفها غير العلماء والفاهمين: العذراء و"عمانوئيل" وآية. كلمة "العذراء" في العبرية قد تعني فتاة أو امرأة شابة أو زوجة لم تعرف رجلاً، ولو كان الحبل عاديًا، فأين المعجزة؟ وهل تؤمنون بالآيات والمعجزات؟ ولماذا لا تفيد البتولية لا سيما أن الله "نفسه" هو مصدر الوعد؟ والكلمة الثانية هي عمانوئيل وتعني "الله معنا". ولا توجد مشكلة في هذا التعريف فهو الألف والياء، الأول والآخر، البداية والنهاية. وهل يمكن لإنسان مهما علا قدره أن يدّعي بأنه "ليس أحد صعد الى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء" (يوحنا 13:3)، وقوله لتلاميذه "وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر" (متى 28:20). إنه بالناسوت وُلد من عذراء، وباللاهوت هو قبل كل الدهور؛ أي وجوده وأولويته "في البدء كان الكلمة" (يوحنا 1:1).
 
 ثالثًًا: الرؤيا المجوسية
 
 إن كلمة "مجوس" تعني كهنة بالفارسية، وهم مجموعة من العلماء، والفلاسفة، والفلكيين، والمنجمين. كان باستطاعتهم أن يميّزوا مواقع النجوم وحركاتها؛ يعرفون الغيب، ويكشفون المستقبل بواسطة النجوم ورصدها؛ ورأوا فيها عمل الله المعجزي في خلق الكون وسيطرته. ساد في عصرهم الاعتقاد بظاهرة خارقة فوق الطبيعة ستقودهم الى الملك الأعظم أو المولود العجيب. وقد اكتشف العالِم الطبيعي "كبلر" إمكانية حدوث هذه الظاهرة في القرن السابع عشر الميلادي إذ وجد أول اقتران بين المشتري وزحل في الشهر الأخير سنة 1603. ثم انضم إليهما، في السنة التالية كوكبان، أحدهما المريخ. وبالبحث وجد أن اقتران مثل هذا حصل حوالي سنة 4-6 ق.م. وهذا يعني أن ظهور نجم المجوس لم يكن أمرًا غريبًا. وأثناء البحث المُخلص عن الله رأوا النجم "رأينا نجمه"، وأتوا إليه "وأتينا لنسجد له..."، ثم فتحوا كنوزهم وقدموا له ذهبًا ولبانًا ومرًّا (متى 2). الذهب دليل ملكه، واللبان رمز لكهنوته، والمرّ إشارة لآلامه وصلبه؛ فهو الملك الحقيقي، والشفيع الأبدي، والمخلص الفادي. ولماذا قاد النجم المجوس الى أورشليم أولاً؟ لينتزع الرب من اليهود الاعتراف بالمسيح "مدبّر يرعى شعبي" (متى 6:2، ميخا 5:2، إشعياء 6:9).
 
 رابعًا: الرؤيا الليلية
 
 في هذه الرؤيا، أضاء "مجد الرب" على الرعاة - كما في خروج 7:16 - فحوّل الصحراء جنة، والأرض القاحلة فردوسًا، وسواد الليل نورًا للحياة والحب. بدّد مخاوفهم، وجعل من بشارة الملائكة فرحًا وسلامًا وخلاصًا لجميع الشعب. فمضوا ليروا "المسيح الرب والمخلص"؛ ومعنى كلمة "المسيح الرب" هنا: "يسوع المسيح هو يهوه" (لوقا 8:2-11). وسبحت الملائكة، ليس فقط إعلاء للخالق لاكتمال خليقته (مزمور 1:104-9)، بل لأجل إعلان مجد تجسّده (لوقا 8:2-18)، وأيضًا لكمال تدبير فدائه وملكه فستصير ممالك العالم ملكًا للرب ومسيحه (رؤيا 15:11). فكان إعلان التجسّد حلقة رابطة للخليقة الأولى وتجديدها، أو الخليقة المادية والخليقة الروحية، أو الفداء والرجاء، أو حقبة البدايات وتاج النهايات.
 
 إن الرؤى الروحية تبيّن عظمة الله ومعرفته غير المحدودة ومشيئته، فيرشد كرنيليوس للخلاص برؤيا، ويخلص بولس برؤيا، ويهدي شعبه برؤيا كما مع يوسف ومريم، ويبشر بالخير برؤيا كما في ولادة شمشون وصموئيل والمعمدان، ويعلن عن مكان وجود المولود الإلهي برؤيا. وقد تأتي الرؤى بسبب ضيقة شديدة، أو لإشباع أشواق مقدسة، أو لإعلان عن أحداث مقبلة كسفر الرؤيا. لكن لنحذر من تدخل الجسد أو تشتت العقل، و"الشيطان نفسه يغير شكله الى شبه ملاك نور" (1كو 14:11).
 
 خامسًا: الرؤيا الملائكية
 
 ففي 1بطرس12:1 إعلان لحقيقة غير مدركة عن ميلاد المسيح و"الْخَلاَصَ الَّذِي فَتَّشَ وَبَحَثَ عَنْهُ أَنْبِيَاءُ، الَّذِينَ تَنَبَّأُوا عَنِ النِّعْمَةِ الَّتِي لأَجْلِكُمْ، بَاحِثِينَ أَيُّ وَقْتٍ أَوْ مَا الْوَقْتُ الَّذِي كَانَ يَدِلُّ عَلَيْهِ رُوحُ الْمَسِيحِ الَّذِي فِيهِمْ، إِذْ سَبَقَ فَشَهِدَ بِالآلاَمِ الَّتِي لِلْمَسِيحِ، وَالأَمْجَادِ الَّتِي بَعْدَهَا... الَّتِي أُخْبِرْتُمْ بِهَا أَنْتُمُ الآنَ، بِوَاسِطَةِ الَّذِينَ بَشَّرُوكُمْ فِي الرُّوحِ الْقُدُسِ الْمُرْسَلِ مِنَ السَّمَاءِ. الَّتِي تَشْتَهِي الْمَلاَئِكَةُ أَنْ تَطَّلِعَ عَلَيْهَا". كان الميلاد العذراوي خطة الله، والحبل من عذراء بعمل روح الله، وإعلان البشارة السارة منحة الله "فأنار لنا الحياة والخلود بواسطة الإنجيل".
 
 رسم مصوّر صورة لرجل في قارب وهو ممسك بالمجداف، والأمواج حوله مرعبة، والجوّ غاضب، ولا يظهر في السماء إلا نجم واحد. وترى عيني الرجل متطلعة إلى النجم رغم المخاطر؛ وتحت الصورة كُتبت هذه الكلمات: إن أضعت هذا هلكت. هذا هو المسيح "كوكب الصبح المنير" الذي يضيء طريقك نحو السماء.
 
 سادسًا: الرؤيا الكتابية
 
 "له يشهد جميع الأنبياء"، إذًا هذه ليست أسطورة قديمة بل حدث تاريخي يرتبط بوقائع مؤكدة، وعلى الأقل بولادة يوحنا المعمدان "لأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَدَى اللهِ" (لوقا 27:1). ونجد هنا تسبيحات ثلاث: تسبحة أليصابات، وتسبحة مريم، وتسبحة زكريا. وسنتناول فقط تسبحة زكريا الكاهن، وتمجيده لله، ومباركة الله لأجل خلاصه وفدائه، وشكره للرب لأجل عطاياه. وبهذا يرجع بنا زكريا إلى تكوين 3 وترتيبات الفداء الإلهي. إنه المسيا المنتظر "مشتهى كل الأمم". إن الزواج اليهودي كان يتم على ثلاث مراحل: الأولى خطبة التراضي منذ الطفولة، والثانية تأكيد الوعد بخطبة ملزمة للزواج ولا يمكن فسخها إلا بالطلاق، والثالثة هي الزواج بعد سنة من الخطبة. هناك ثلاثة لا يمكن أن تأخذ رأيهم: الجاهل والحاسد والمتكبر؛ فإن الجاهل يزيدك جهلاً، والحاسد يجتهد أن يسقطك لتساويه، والمتكبر يقودك الى أدنى لئلا تساويه. قال أحدهم: كنت أودّ أن أرى ثلاثة أشياء: روما في مجدها، وبولس يعظ في أثينا، والمسيح في الجسد. نعم! فقد تلاقت في المسيح الألوهية والإنسانية معًا "وبدون رؤيا يجمح الشعب" (أمثال 29:18).
 
 إن حياة المسيح الموعود به تتركز في ثلاثة موضوعات: البشارة بميلاده وولادته، وصلبه وموته، وعودته الى الأرض ديانًا.
 
 في كنيسة القديس بطرس بروما صورة جميلة في أحد القباب تُتعب أعناق من يودّون رؤيتها فلجأوا الى مرآة يمسكها الشخص فيرى الصورة بسهولة. وهكذا فعل الله في التجسد لنراه في المسيح حين قال المسيح: "الذي رآني فقد رأى الآب" (يوحنا 9:14). وقال أيضًا: "إن أحبني أحد... أنا أحبه، وأظهر له ذاتي" (يوحنا 21:14).

المجموعة: 201012