أذار March 2011

وكم في العالم من فقير حسب الظاهر، ينعم بغنى وفير؟ وكم من غني في نظر المجتمع، لا يملك في نفسه شروى نقير؟ فالإنسان غنيّ بما يملك في أعماق نفسه من غنى روحي وثراء معنوي، وهو فقير إلى ما يعوزه من سلام دائم ونعيم مقيم.

فإذا ملك الإنسان مال قارون، ولم يكن غنيًا بنفسه، فهو الفقير. وإذا اتّخذ من الفولاذ دروعًا، ومن القلاع حصونًا، ولم يكن شجاعًا بنفسه فهو الرعديد.

فالغنى، كل الغنى في أعماق نفس الإنسان، ولو دلت مظاهره على الفقر المدقع الشديد.

تحدّثنا هذه القصة عن غنيٍّ مغمور، لم يشأ المسيح أن يذكر اسمه، تجاهلاً منه بقدره، أو تقديرًا منه لحقيقة فقره الروحي؛ فهو نكرة من النكرات على الرغم مما يملك من ثروة وجاه.

كان ذلك الغني الفقير، يلبس الأرجوان والبزّ وهو يتنعّم كل يوم مترفّهًا فكانت علائم الإسراف والبذخ والترف بادية عليه، في نوع لباسه، ووفرة طعامه إذ كان يتنعّم كل يوم تنعّمًا فاخرًا.

وعلى مقربة من ذلك الغني الفقير، كان يعيش إنسان مسكين اسمه "لعازر" مطروحًا عند بابه. ومع أن المسيح تجاهل اسم ذلك الغني الفقير، إلا أنه ذكر لنا اسم الفقير الغني، فقال: "لعازر"، ومعناه "الله يقوي".

إذًا، كان ذلك الفقير المعدم المسكين علمًا من الأعلام، بل كان المفرد العلم.

ما أشبهه بالجندي المجهول، الذي كان غفلاً من الرمم - فأضحى نارًا على علم جمع في شخصه ضحايا الأمم، كما يجمع الكتابة القلم، والكتيبة العلم.

كان لعازر المسكين، فريسة الفقر، وضحية الآلام والبلايا، لأنه كان مصابًا بالقروح... وكان يشتهي أن يشبع من الفتات الساقط من مائدة الغني، ولم يعطه أحد، لأن جميع الناس أعرضوا عنه، وفي مقدمتهم ذلك الغني الفقير.

غير أن الكلاب كانت تأتي وتلحس قروحه، فسخّر الله له من تلك الكلاب التي كانت تسابقه إلى التقاط الفتات المتساقط من مائدة الغني، خير صديق. فما أقسى الإنسان على أخيه الإنسان! وكثيرًا ما بين الحيوان والإنسان في هذا الميدان مصداقًا لقول الشاعر العربي:

عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى

وصوّت الإنسان فكدت أطير

غير أن الرواية لم تتم فصولاً... فحدثنا المسيح عن خاتمة الغني الفقير، وخاتمة الفقير الغني، بقوله: مات الغني فدُفن في جهنم - ومات المسكين فحملته الملائكة إلى السماء! فما أعظم الفارق بين تقدير السماء للناس، وبين تقدير البشر.

ورب متسائل: وماذا عمل ذلك الغني من شر، حتى انتهت حياته إلى هذه النهاية المؤلمة؟ والجواب:

إنه لم يعمل شيئًا... فهو لم يضرب لعازر، ولم يلذعه بسياط مؤلمة وقاسية، ولم يستلبه ما كان معه من مال! كلا، إنه لم يعمل أي شيء من هذا أو ذاك. بل كل جريمته أنه كان يمر بذلك الفقير المسكين، ويرميه بنظرات التحقير والازدراء، وهي شر من السياط اللاذعة. ولم يسرق ما كان معه من مال لأن الفقير لم يكن يملك شيئًا، لأنه تغاضى عنه في فقره وأهمله فلم يسعفه بشيء من المال، وهذه هي السرقة بعينها. لأن كل ما يذّخره الغني في خزانته فوق حاجته إنما هو مستلب من حق الفقير المسكين.

هذا هو حب المال الذي أدرك قلب ذلك الغني، فأصابه بالتحجّر، وهو حب المادة، الذي أعمى عينيه عن أن ينظر إلى أخيه المسكين. فما الفقر سوى جريمة الأغنياء على الفقراء، وما المرض سوى جناية الميسورين على البؤساء. فمع أن ذلك الغني كان فخورًا بأنه من أبناء إبراهيم إلا انه كان وليد الطمع، وربيب الشراهة، وكلها نابعة من حب الذات والأنانية التي إذا تملّكت نفوس الناس أنستهم المساكين المشردين عن ديارهم، وهم يرتعون في بحبوحة من العيش ولكن إلى حين... فصبرًا جميلاً أيها الأخ وأيتها الأخت لأن الله لن ينساكم، وساعة الفرج آتية عن قريب... فإن بعد العسر يسرًا.

المجموعة: 201103