كانون الثاني - شباط Jan Feb 2012

الدكتور أنيس

هناك ثلاثة أنواع من الشر ينصحنا، بل يأمرنا إلهنا المحب في الكتاب المقدس أن نهرب منها وهي: الزنا (1كورنثوس 18:6)، وعبادة الأوثان (1كورنثوس 14:10)، ومحبة المال (1تيموثاوس 11:6). أما موضوعنا في هذه المرة فهو "محبة المال".

أنذر الرسول بولس تلميذه تيموثاوس في رسالته الأولى قائلاً: "وَأَمَّا الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَكُونُوا أَغْنِيَاءَ، فَيَسْقُطُونَ فِي تَجْرِبَةٍ وَفَخٍّ وَشَهَوَاتٍ كَثِيرَةٍ غَبِيَّةٍ وَمُضِرَّةٍ، تُغَرِّقُ النَّاسَ فِي الْعَطَبِ وَالْهَلاَكِ.

لأَنَّ مَحَبَّةَ الْمَالِ أَصْلٌ لِكُلِّ الشُّرُورِ، الَّذِي إِذِ ابْتَغَاهُ قَوْمٌ ضَلُّوا عَنِ الإِيمَانِ، وَطَعَنُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَوْجَاعٍ كَثِيرَةٍ. وَأَمَّا أَنْتَ يَا إِنْسَانَ اللهِ فَاهْرُبْ مِنْ هذَا، وَاتْبَعِ الْبِرَّ وَالتَّقْوَى وَالإِيمَانَ وَالْمَحَبَّةَ وَالصَّبْرَ وَالْوَدَاعَةَ" (1تيموثاوس 9:6-11). أمَّا أن محبة المال والرغبة في الغنى تغرّق الناس في العطب والهلاك، وأنه بسببها كثيرون طعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة، فهي حقيقة يؤكدها التاريخ، وسنقتبس بعض الحالات المذكورة في الكتاب المقدس.

أولاً: من العهد القديم

عخان بن كرمي (يشوع 7)

قبل أن تسقط أسوار أريحا إذ طافوا حولها سبعة أيام، أوصى الرب على فم يشوع بن نون أن يحرّموا كل ما فيها وأن لا يأخذوا شيئًا لأنفسهم، ولكن عخان بن كرمي من سبط يهوذا أخذ من الحرام، وبذلك سبّب هزيمة لهم حين حاربوا عاي المدينة الصغيرة بالمقارنة مع أريحا. ولما واجهه يشوع وقال له: "يَا ابْنِي، أَعْطِ الآنَ مَجْدًا لِلرَّبِّ إِلهِ إِسْرَائِيلَ، وَاعْتَرِفْ لَهُ... فَأَجَابَ عَخَانُ يَشُوعَ وَقَالَ... رَأَيْتُ فِي الْغَنِيمَةِ رِدَاءً شِنْعَارِيًّا نَفِيسًا، وَمِئَتَيْ شَاقِلِ فِضَّةٍ، وَلِسَانَ ذَهَبٍ وَزْنُهُ خَمْسُونَ شَاقِلاً، فَاشْتَهَيْتُهَا وَأَخَذْتُهَا. وَهَا هِيَ مَطْمُورَةٌ فِي الأَرْضِ فِي وَسَطِ خَيْمَتِي، وَالْفِضَّةُ تَحْتَهَا... فَأَخَذُوهَا مِنْ وَسَطِ الْخَيْمَةِ وَأَتَوْا بِهَا إِلَى يَشُوعَ... فَأَخَذَ يَشُوعُ عَخَانَ بْنَ زَارَحَ وَالْفِضَّةَ وَالرِّدَاءَ وَلِسَانَ الذَّهَبِ وَبَنِيهِ وَبَنَاتِهِ... فَرَجَمَهُ جَمِيعُ إِسْرَائِيلَ بِالْحِجَارَةِ وَأَحْرَقُوهُمْ بِالنَّارِ"
(يشوع 9:7-25). كلام مؤلم جدًا لا يحتاج إلى تعليق، يؤكد لنا أن محبة المال تغرق الناس في العطب والهلاك.

جيحزي خادم أليشع (2ملوك 5)

كان لجيحزي امتياز عظيم، إذ كان ملازمًا لأليشع النبي، وسمع الكثير من أقواله، ورأى الكثير من أعماله ومعجزاته، فتركت أثرًا عميقًا في ذاكرته حتى أمكنه أن يقصّ على الملك جميع العظائم التي فعلها أليشع (2ملوك 4:7-5). إلا أنه للأسف الشديد كان مصابًا بمحبة المال. ولعلّ معظمنا نعرف قصة نعمان السرياني الذي شفاه أليشع من برصه. لما عرض نعمان على أليشع هدايا كثيرة تقديرًا لما عمله، قال أليشع: "حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ الَّذِي أَنَا وَاقِفٌ أَمَامَهُ، إِنِّي لاَ آخُذُ. وَأَلَحَّ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ فَأَبَى"، ولما صرفه أليشع ليرجع، قال جيحزي: "حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ، إِنِّي أَجْرِي وَرَاءَهُ وَآخُذُ مِنْهُ شَيْئًا". ولما لحق نعمان وكذب عليه أعطاه نعمان وزنتين من الفضة وحلتَي ثياب. ثم رجع إلى أليشع وأنكر ما فعله. ولكن أليشع قال له: "فَبَرَصُ نُعْمَانَ يَلْصَقُ بِكَ وَبِنَسْلِكَ إِلَى الأَبَدِ. فَخَرَجَ مِنْ أَمَامِهِ أَبْرَصَ كَالثَّلْجِ" (2ملوك 7). وهكذا نرى مرة أخرى أن محبة المال تغرق الناس في العطب والهلاك.

ثانيًا: من العهد الجديد

يهوذا الإسخريوطي

كان ليهوذا أعظم امتياز لكونه أحد تلاميذ الرب يسوع المسيح، رب المجد، ويرى معجزاته ويسمع مواعظه. أنبياء وملوك اشتهوا أن يروا ويسمعوا ما رآه وسمعه ولكن للأسف الشديد كان قلبه مملوءًا بمحبة المال. لما سكبت مريم أخت مرثا الطيب النقي الكثير الثمن على قدمي يسوع، قال يهوذا: "لِمَاذَا لَمْ يُبَعْ هذَا الطِّيبُ بِثَلاَثَمِئَةِ دِينَارٍ وَيُعْطَ لِلْفُقَرَاءِ؟ قَالَ هذَا لَيْسَ لأَنَّهُ كَانَ يُبَالِي بِالْفُقَرَاءِ، بَلْ لأَنَّهُ كَانَ سَارِقًا، وَكَانَ الصُّنْدُوقُ عِنْدَهُ، وَكَانَ يَحْمِلُ مَا يُلْقَى فِيهِ" (يوحنا 5:12-6). لم يحاول يهوذا أن يتغلّب على محبة المال حتى أنه باع سيده بثلاثين قطعة من الفضة، فماذا كان مصيره؟ "مَضَى وَخَنَقَ نَفْسَهُ" (متى 5:27). "وَإِذْ سَقَطَ عَلَى وَجْهِهِ انْشَقَّ مِنَ الْوَسْطِ، فَانْسَكَبَتْ أَحْشَاؤُهُ كُلُّهَا" (أعمال 18:1). وهكذا نرى مرة أخرى أن محبة المال تغرق الناس في العطب والهلاك.

حنانيا وسفيرة

كان لهما امتياز وجودهما في أحسن عصر للكنيسة، وهو عصر الرسل، عصر نهضة وأفراح روحية وتضحيات مالية، وكان عدد المؤمنين يزداد باستمرار. والأرجح أنهما كانا مؤمنَين. ولكن للأسف الشديد أرادا التظاهر بالتضحية، وهما مصابان بمحبة المال. قال الرب يسوع المسيح: "لا تقدرون أن تخدموا الله والمال". كان لهما حق الاحتفاظ بأملاكهما، ولما باعا مُلكهما كان لهما حقّ الاحتفاظ بالثمن. ولكنهما أرادا الادعاء بالتقوى والسخاء. وفي نفس الوقت كان قلباهما مصابين بمحبة المال. لذلك "اخْتَلَسَ (حنانيا) مِنَ الثَّمَنِ، وَامْرَأَتُهُ لَهَا خَبَرُ ذلِكَ، وَأَتَى بِجُزْءٍ وَوَضَعَهُ عِنْدَ أَرْجُلِ الرُّسُلِ. فَقَالَ بُطْرُسُ: يَا حَنَانِيَّا، لِمَاذَا مَلأَ الشَّيْطَانُ قَلْبَكَ لِتَكْذِبَ عَلَى الرُّوحِ الْقُدُسِ وَتَخْتَلِسَ مِنْ ثَمَنِ الْحَقْلِ؟... أَنْتَ لَمْ تَكْذِبْ عَلَى النَّاسِ بَلْ عَلَى اللهِ. فَلَمَّا سَمِعَ حَنَانِيَّا هذَا الْكَلاَمَ وَقَعَ وَمَاتَ" (أعمال 1:5-5). وبعد ثلاث ساعات جاءت زوجته سفيرة وهي لا تعلم بما حدث لزوجها. ولما سألها الرسول بطرس كذبت هي أيضًا، ولما علمت بما حدث لزوجها وقعت هي أيضًا وماتت. يا للمأساة! في وسط نهضة روحية قد لا يتكرر مثلها في تاريخ الكنيسة، رجل وامرأته يموتان تحت التأديب الإلهي، وذلك بسبب محبة المال!

فنرى مرة أخرى أن محبة المال تغرق الناس في العطب والهلاك.

ولنلاحظ أنه في كلٍّ من هذه الحالات الأربع لم ينتفع أحد منهم بالمال الذي حصل عليه، ولو لفرصة قصيرة. فعخان مات رجمًا بالحجارة، وجيحزي أُصيب بالبرص وكان مكانه خارج المحلة، ويهوذا مضى وخنق نفسه، وحنانيا وسفيرة وقعا على الأرض وماتا.

بالإضافة إلى ما اقتبسناه من الكتاب المقدس، فهناك حالات كثيرة في عصرنا هذا تثبت نفس هذه الحقيقة. اجتمع في القرن الماضي في مدينة شيكاغو عددٌ من أغنى رجال العالم، وعقدوا اجتماعًا مهمًّا. وبعد بضعة سنين تتبّع أحد الصحفيين مصير كل منهم، فإذا بواحد مات في السجن، وآخر في مستشفى الأمراض العقلية، وآخر مات منتحرًا، وهكذا...

والآن لا بد أن نوضح نقطة مهمة، وهي الفرق بين الغنى ومحبة المال.

ذات يوم كنت جالسًا مع بعض الزملاء في قاعة الطعام، فقال لي أحدهم مازحًا: إن الكتاب المقدس يقول أن المال أصل لكل الشرور، إذًا أعطني مالك وتخلَّص من أصل الشرور".

فقلت له: "إن الكتاب المقدس لا يقول إن المال أصل لكل الشرور". فاندهش وقال لي: "أنا سمعت ذلك من كثيرين".

فقلت له: "إن الكتاب المقدس يقول أن محبة المال أصل لكل الشرور".

فسكت ثم قال: "نعم، هذا صحيح!"

إن الفصل الذي يخبرنا أن محبة المال أصل لكل الشرور - أي أنه مثل شجرة كل ثمارها شرور - يعلمنا أيضًا كيف نستخدم المال للبركة. فيقول في 1تيموثاوس 17:6-18

"أَوْصِ الأَغْنِيَاءَ فِي الدَّهْرِ الْحَاضِرِ أَنْ لاَ يَسْتَكْبِرُوا، وَلاَ يُلْقُوا رَجَاءَهُمْ عَلَى غَيْرِ يَقِينِيَّةِ الْغِنَى، بَلْ عَلَى اللهِ الْحَيِّ الَّذِي يَمْنَحُنَا كُلَّ شَيْءٍ بِغِنًى لِلتَّمَتُّعِ. وَأَنْ يَصْنَعُوا صَلاَحًا، وَأَنْ يَكُونُوا أَغْنِيَاءَ فِي أَعْمَال صَالِحَةٍ، وَأَنْ يَكُونُوا أَسْخِيَاءَ فِي الْعَطَاءِ، كُرَمَاءَ فِي التَّوْزِيعِ".

ثلاثة نصائح للأغنياء

1- أن لا يستكبروا، فالغني معرَّض للكبرياء.

2- أن لا يلقوا رجاءهم، أي أن لا يتكلوا على الغنى لأنه غير مضمون، لأنه "يَصْنَعُ لِنَفْسِهِ أَجْنِحَةً (ويطير)" (أمثال 5:23).

3- أن يكونوا أسخياء وأغنياء في الأعمال الخيرية.

ختامًا، نقول أن الله أعطانا نصيحة ثمينة إذ قال: "لِتَكُنْ سِيرَتُكُمْ خَالِيَةً مِنْ مَحَبَّةِ الْمَالِ. كُونُوا مُكْتَفِينَ بِمَا عِنْدَكُمْ، لأَنَّهُ قَالَ: لاَ أُهْمِلُكَ وَلاَ أَتْرُكُكَ" (عبرانيين 5:13).

المجموعة: كانون الثاني - شباط Jan-Feb 2012