تشرين الثاني November 2012

الأخت أدما حبيبيفي صبيحةِ أحدِ أيامِ الخريفِ المنعشة، التقت هارييت Harriet صديقتها الحميمة وخَرجتَا معًا لتتمشّيا في الهواء الطلق، ولكي تتمتّعا بأمجادِ الصباحِ الباكر الجميلة. وحالما شاهدتْ هارييت أشعةَ الشمس وهي تحاول أن تَبزُغَ من بين طبقاتِ الضباب الرقيقة التي تملأ سماءَ الصباح، وطبقةَ الجليد تغطي سفوحَ الرَّوابي المليئةَ بالأوراق المزدانةِ بالألوانِ الأخَّاذة من أصفرَ وبرتقالي وبنّي، وهي تتساقطُ رويدًا رويدًا على الأرض الداكنة، عندما شاهدتْ كلَّ هذا فاضَ قلبُها بالشكر والامتنان، فقالت:


"آه، كم أنا شاكرة، ومعترفة بالجميل لكلِّ هذا..." وهنا ما كان من صديقتها المسيحية المؤمنة إلاَّ أنْ سألتْها: شاكرة! ولِمَنْ أنتِِ شاكرة يا عزيزتي هارييت؟ لكنَّ هارييت لو Harriet Law وللأسف، لم تُجِبْ بشيء، لأنَّها كانت السيدة البريطانية التي ظهرت في الثلث الأول من القرن التاسع عشر وما بعده، والمعروفة بإلحادِها وبتكريسِ نفسِها للحركة العلمانية Secularist Movement. لقد اختارتْ هارييت الإلحادَ رافضةً بذلك كلَّ إيمانٍ نشأتْ عليه في الصِّغر. نعم، "قال الجاهل في قلبه ليس إله". أليسَ هذا ما يحدثنا به صاحب المزمور الرابع عشر؟!
يقول الرسول بولس وبوحي من الروح القدس في رسالته إلى الكنيسة في غلاطية: "لاَ تَضِلُّوا! اَللهُ لاَ يُشْمَخُ عَلَيْهِ. فَإِنَّ الَّذِي يَزْرَعُهُ الإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضًا" (7:6). أمَّا المغني والملحِّن والشاعر البرازيلي المعروف كازوزا Cazuza وفي إحدى حفلاته الشهيرة في ريو دي جانيرو Rio de Janeiro، فلقد راح ينفثُ دخانَ سيجارته في الهواء مستهترًا وموجّهًا كلامه للهِ ويقول: "خذْ، هذه لكَ يا الله!" لكنَّه سرعانَ ما قَضى فيما بعد وهو لا يزالُ  في عمر الثانية والثلاثين بعدَ أن أُصيبَ بمرضٍ خبيث (سرطان) في الرئة.

 

فَلِمَنْ نحنُ شاكرون، ولِمَنْ نحنُ ممتنُّون؟


تعودُ بنا ذكرى يومِ الشكر Thanksgiving  هذه ولمَن نحنُ شاكرونْ إلى تاريخٍ بعيدٍ في القرن السابع عشر وبالضبط إلى يوم السادس عشر من سبتمبر - أيلول وسنة ألف وستمئة وعشرين حين أبحرَتْ باخرتان كبيرتان من ميناء بليموث Plymouth في إنكلترا – وكانتا تحملان اسم: Speedwell & Mayflower. لكنَّ السفينةَ الأولى تعرَّضت لمشاكلَ متعددة، لهذا انتقل ركابها - والبالغ عددُهم اثنان وأربعون - إلى السفينة الثانية Mayflower وانضمُّوا إلى ركابها الستِّين وطاقمِها الذين كانوا ثلاثينَ شخصًا. وتعرَّضَ الركَّابُ جميعًا مع الطاقمِ إلى الكثيرِ من المخاطرِ في عبورهم للمحيط الأطلسي إلى أنْ حطُّوا الرِّحال أخيرًا على الساحل الشرقي لأميركا. كان أغلبُ الرُّكاب في هذه الباخرة الشهيرة هم من المؤمنين المسيحيين المضطهدين. هاجروا من بلادهم تاركين أوطانهم وجاؤوا إلى أميركا هربًا من القيود التي كانت الكنيسةُ في إنكلترا تفرِضه على أعضائِها وتكبّل به عبادتهم. لقد رغِب هؤلاء المؤمنون أن يتخلّصوا من هذه الفرائض والطقوس لكي يعبدوا الله بحرية وبحسب تعليم الكتاب المقدس. وقبلَ أن تصِل الباخرةُ إلى البرّ وترسو في الميناء، اتَّفق هؤلاء المؤمنون أن يكتبوا وثيقةً عُرفت بـ ميثاق مي فلاور Mayflower Compact. وفي صميم هذه الوثيقة كان هناك تأكيدٌ على الاعتقاد غير القابل للجدل يقول بأنَّه ينبغي أن يكون "الله" هو المركز لكل قانون ونظام، والقانون المجرَّد من الأساس الأخلاقي لا يُعتبر قانونًا البتة. وفي اليوم الذي وقّع فيه هؤلاء الرحّالة المهاجرون ميثاق مي فلاور، على حد قول سجلاَّت وليم برادفورد William Bradford: "أرسَوا السفينة في الخليج، الذي كان ميناء حسنًا، وبدأوا بتقديم الشكرِ لإله السماء، الذي أتى بهم بسلام عبرَ مياه المحيط الصاخبة والهائجة، مجتازين بذلك كلَّ الصعاب. وقرأوا يومذاك من كلمة الله الحية هذه الكلمات: "احمدوا الرب لأنه صالح لأن إلى الأبد رحمته" (مزمور 1:107).
ترى، هل محورُ شكرنا نحن هو اللهُ الصالح والذي إلى الأبد رحمتُه؟!

والآن، علامَ نحن شاكرون؟


قال أحدُهم مرةً:
أنا شاكرٌ لأنني أدفع ما عليّ من ضرائب للدولة، لأنَّ هذا يعني أن لديَّ عملاً (وظيفة).
وأنا شاكرٌ لله من أجل ملابسي التي أرتديها وإنْ كنتُ أظهرُ بها ممتلئًا بعضَ الشيء، فهذا يعني أنَّه لديَّ ما يكفيني من طعام وشراب.
وأشكرُ الله من أجل ظلِّي، نعم ظلِّي لأنَّ هذا يعني أنَّني خارج البيت وأنا جالسٌ أتمتَّع بأشعة الشمس الدافئة.
وإنَّني شاكر أيضًا من أجل العشب الذي يحتاج إلى جَزٍّ، ومن أجل النوافذ التي تحتاج إلى التنظيف، ومن أجل المزاريب التي تكرُج عبرَها مياهُ الأمطار على الرَّغم أنها بحاجةٍ إلى تصليح، لأنَّ كلَّ هذا يعني أنَّ لديَّ بيتًا أنضوي تحتَ سقفه وأسكنُ في ظلِّ جدرانِه.
وقال أيضًا: إنَّني شاكرٌ لله على كل التذمُّر والانتقاد اللذين أسمعهما عن الحكومة لأنَّ هذا يعني أنَّ هناك حريةً في التعبير نتمتَّع بها.
كما أنَّني شاكرٌ من أجلِ كومةِ الغسيلِ المتراكمةِ أمامي، لأنَّ هذا يعني أنَّ لديَّ عائلةً وأفرادَها محبَّبون على قلبي يعيشون معي وبقربي وتحتَ كَنفي.
وأنا شاكرٌ أخيرًا على جرس المنبِّه (الساعة) الذي يوقظُني في الصباح الباكر لأنَّ هذا يعني أنَّني ما زلتُ على قيدِ الحياة وأنَّني حيٌّ أُرزَقُ. "والآن يا قارئي العزيز علامَ أنتَ شاكرٌ إذن؟

لكن، لماذا نحن شاكرون؟


لقد عدّد صاحبُ المزامير الملك والنبي داود في القديم الكثيرَ من الأسباب التي جعلتْه يدوِّن مزاميرَه وتسابيحَه وصلواتِه مكرِّرًا بذلك بركاتٍ وإحساناتٍ لا عددَ لها ولا حَصْر؛ بركاتٍ روحية أبدية، فقال: "باركي يا نفسي الرب وكلُّ ما في باطني ليباركِ اسمه القدوس. باركي يا نفسي الرب ولا تنسَيْ كل حسناته، الذي يغفر جميع ذنوبك. الذي يشفي كل أمراضك، الذي يفدي من الحفرة حياتك، الذي يكللك بالرحمة والرأفة، الذي يُشبع بالخير عمرك فيتجدد مثل النسر شبابك... الإنسان مثل العشب أيامه، كزهر الحقل كذلك يزهر... أمَّا رحمة الرب فإلى الدهر والأبد على خائفيه وعدلُه على بني البنين لحافظي عهده وذاكري وصاياه ليعملوها" (مزمور 103).
أما بولس الرسول فكتب بوحي من روح الله القدوس هذه الآيات عن بركات المؤمن التي له في المسيح يسوع فقال في رسالته إلى الكنيسة في أفسس: "مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة، إذ سبق فعيننا للتبني بيسوع المسيح لنفسه حسب مسرة مشيئته لمدح مجد نعمته التي أنعم بها علينا في المحبوب الذي فيه لنا الفداء بدمه غفران الخطايا... الذي فيه أيضًا أنتم إذ سمعتم كلمة الحق إنجيل خلاصكم الذي فيه أيضًا إذ آمنتم خُتمتم بروح الموعد القدوس، الذي هو عربون ميراثنا لفداء المقتنى لمدح مجده" (أفسس 1).
نعم، لماذا نحن شاكرون؟
هل أنت شاكرٌ لأنك تتمتَّع الآن بهذه البركات الروحية الأبدية؟ هل اختبرت - يا قارئي - هذه الامتيازات في حياتك؟ وهل تباركُ الله وتشكره مع بطرس الرسول الذي قال:
"مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي حسب رحمته الكثيرة ولدنا ثانية لرجاء حي بقيامة يسوع المسيح من الأموات، لميراث لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل"؟
ينسى الناسُ أو يتناسون بأنْ ليس هناك اسمٌ أعظم من اسم يسوع المسيح والذي لاسمه وحده ستجثو كلُّ ركبة في السماء وما على الأرض وممَّا تحت الأرض. لماذا؟ لأنه وحده الحيُّ والقائم من بين الأموات. وبغضِّ النظر عمَّا يدّعيه البعض أو ما يؤمن به الآخرون، وما يفكر به الملحدون، فهذا لن يغيّرَ من هويَّته الحقيقية المجيدة غير المسبوقة. لأنه وحده الأزليُّ الأبديُّ، وبالتالي ما قامَ به من فداء للبشر وانتصارٍ على الموت فهو أيضًا أبديٌّ وهو الآن وحده الجالسُ عن يمينِ الآب يشفعُ بكلِّ مؤمن التجأَ إليه وألقى رجاءَهُ عليه.
والآن، هل عرفتَ السبب - يا قارئي - الذي يجعله فريدًا ومستحقًا لكلِّ شكر وتقدير وامتنان وحمد على كل بركاته الأبدية؟ وإذا كنت لم تعلمْ بعد فحبَّذا لو تفعل. وأحثُّك أن تتعرَّف إليه، لتحظى بالشركة المقدسة معه. عندها تتيقّن تمامًا لِمَنْ وعَلامَ ولماذا أنتَ شاكر!

المجموعة: تشرين الثاني November 2012