كانون الثاني - شباط Jan-Feb 2013

الدكتور صموئيل عبد الشهيد"فِي ذلِكَ الْوَقْتِ أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ: أَحْمَدُكَ أَيُّهَا الآبُ رَبُّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هذِهِ عَنِ الْحُكَمَاءِ وَالْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا لِلأَطْفَالِ. نَعَمْ أَيُّهَا الآبُ، لأَنْ هكَذَا صَارَتِ الْمَسَرَّةُ أَمَامَكَ. كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي، وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الابْنَ إِلاَّ الآبُ، وَلاَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الآبَ إِلاَّ الابْنُ وَمَنْ أَرَادَ الابْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ" (متى 25:11-27؛ وانظر لوقا 21:10-22).

1- حديث الاختبار

نطق الرب يسوع المسيح بهذه الصلاة بعد أن اشتدت عليه المقاومة من الكتبة والفريسيين والهيرودسيين فانتحى جانبًا لينفرد بنفسه. ومع ذلك، كما ورد في إنجيل لوقا، "تهلل يسوع بالروح" وصلى إلى الآب السماوي الذي كان دائمًا هو ملجأه. ولقد اقترنت هذه الصلاة برجوع السبعين تلميذًا من مهمتهم الناجحة التي كان المسيح قد عهد بها إليهم (راجع لوقا 21).
لقد سبق للكتبة والفريسيين أن رفضوا المسيح واتَّخذوا منه موقفًا معاديًا بل حاولوا أن يثيروا عليه الشعب؛ كذلك لم تشعر معظم الفئات المثقفة بحاجتها إليه وإلى تعاليمه. ولقد أنكر المسيح عليهم هذه المواقف التي اعتمدت الحكمة البشرية والتي تنم عن جهل مطبق بالروحيات، عوضًا عن الحكمة الإلهية. لا يعني هذا أن الرب يسوع كان يدين العقل، إنما كان يدين كبرياء العقل. يقول الشارح بلامر: "إن القلب وليس العقل هو موطن الإنجيل". والواقع، ليست البراعة الفكرية ولا الذكاء هما اللذان يمنعان الإنسان من قبول المسيح، إنما هي الكبرياء والشعور بالتفوّق. وليس الغباء هو الذي يجعل المرء يؤمن به بل التواضع والاعتراف بالنقص. إن المسيح لم يقرن في يوم من الأيام الإيمان بالغباء إنما كان يقرنه دائمًا بالتواضع. قد يكون الإنسان حكيمًا كسليمان ولكن إن لم يكن قلبه في بساطة قلب الطفل، وإن لم تكن لديه ثقة الابن المحب بأبيه، فإنه يغلق على نفسه أبواب الفهم، ولا يدرك أبعاد الروحيات الشاملة (متى 25:11). يقول أحد شعراء الإنكليز:
فهو (المسيح) يعلن عن ذاته للنفس المتواضعة ولا يختار لسكناه وعرشه إلا القلب الطاهر.
لذلك أخفق الذين اعتمدوا على الكبرياء العقلية في فهم حقيقة المسيح وغرض تجسده، من هو، وما هي علاقته بالله.

2- حديث الإعلان والإظهار


"ليس أحد يعرف الابن إلا الآب، ولا أحد يعرف الآب إلا الابن ومن أراد الابن أن يعلن له".
في هذا الإعلان الإلهي المقدس يؤكد المسيح على ثلاثة أمور:
أولاً، أن الآب يملك المعرفة الكلية المطلقة عن طبيعة المسيح.
ثانيًا، أن المسيح وحده يعرف طبيعة الآب، ويعرف أيضًا عن محبته المخلِّصة لأن المسيح هو دائمًا على وعي وثيق لإرادة الآب، وأن الله قد استودعه دون سواه مهمة نقل هذه المعرفة لمن يريده.
ثالثًا، إن المؤمنين المتواضعين الأنقياء القلب هم الذين يكشف لهم المسيح بالروح القدس عن الحقائق الإلهية إذ أنهم صاروا أولاد الله بالتبنِّي: "وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنون باسمه". وبذلك أصبحوا مشاركين بالطبيعة الإلهية بالإيمان بالمسيح. وهذا ما حدا ببطرس أن يعترف بإيحاء من الروح القدس أن المسيح هو ابن الله الحي. وعندما قال المسيح "أنا والآب واحد" كأنما كان يقول: إذا كنت تريد أن تعرف كيف هو الله، أو كنت ترغب أن تدرك ما هو فكر الله، وقلبه، وطبيعته؛ إن كنت تسعى لمعرفة موقف الله الكلي من الإنسان، انظر إليّ. والواقع، هذا هو اقتناع المؤمن الحقيقي. فإننا بالمسيح فقط نستطيع أن نرى من هو الله لأن الله ذاته لم يره إنسان. كذلك فإن قناعة المؤمن تؤكد أن يسوع وحده قادر أن يهب المعرفة لأي قلب متواضع بالحق ولديه الإيمان الكافي لقبولها.

3- حديث الانتصار


جسَّد المسيح في صلاته تلك الوحدة القائمة بينه وبين الله. وقد أسفر هذا الإظهار عن إعلان النتيجة الحتمية الطبيعية لقدرة المسيح على الإنقاذ والخلاص بل والانتصار. فإذا تابعنا مطالعتنا الآيات 28-30 من إنجيل متى يتبين لنا أن الرب يسوع قد جاء خصيصًا ليريح التعابى والمتألمين. أليس هو القائل: "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم؟" لقد كان المسيح محاطًا بعدد وفير من المتعبين:
بعضهم متعبون من هموم الدنيا.
بعضهم متعبون من قلق البحث عن الحقيقة.
بعضهم متعبون من ثقل الجهد الشخصي للارتفاع إلى مستوى القداسة.
بعضهم متعبون بأثقال التقاليد والناموس.
وبعضهم متعبون بأعباء الخطيئة، وقد باءت جميع محاولاتهم بالإخفاق.
كان مفكرو اليونان يقولون: "من الصعب أن تجد الله، وعندما تجده يصبح من المستحيل أن تخبر الآخرين عنه". ولكن الحقيقة هي على نقيض ذلك. فالمسيح هو الذي جاء ليكون قريبًا منك بل من جميع الناس، وهو الذي يدعوهم إليه. لقد أحبهم قبل أن يحبوه، وأدرك حاجتهم إلى الفداء قبل أن يعبّروا عنها. قال الشاعر الإرلندي ييتس متسائلاً:
هل يقدر المرء على الوصول إلى الله بكدِّه؟
إنه (أي الله) يعطي نفسه للقلب البريء ولا يطالبنا إلا بانتباهنا.
لقد التفت المسيح إلى هؤلاء المرهقين بأنيار الكتبة والفريسيين الذين "يحزمون أحمالاً ثقيلة عسرة ويضعونها على أكتاف الناس وهم لا يحرّكونها بإصبعهم" (متى 4:23)، وقال لهم: "احملوا نيري عليكم وتعلموا مني... لأن نيري هيِّن وحملي خفيف" (متى 30:11).
إن اللفظة اليونانية التي تعني "نيرا" تشير إلى النير الملائم ملاءمة جيدة. هناك أسطورة عن الرب يسوع تقول أنه إبان عمله كنجار كان أمهر صانع أنيار؛ وتقول أيضًا أن كلمات اللافتة المعلقة فوق باب النجار كانت "أنياري أكثر الأنيار ملاءمة".
لقد استهدف يسوع بذلك أن يعلن للناس قاطبة أن الحياة التي يوفرها لجميع التعابى والمرهقين هي حياة مفعمة بالرضى ولن تكون أثقل مما يستطيعون تحمُّله، بل هي حياة صالحة وملائمة لكل واحد بحسب احتماله. هي حياة مسؤولية وليست حياة عبودية. ولكنها مسؤولية ناجمة عن فعل اختيار ومسرة. إن كل ما يفعله الله يفعله وفق مقاييس قدرتنا وما يفي بحاجاتنا. وكما قال أحدهم: "حملي غدا أغنيتي".
إن هذا الحمل قد وُضع علينا بمحبة لكي نحمله بمحبة. وعندما ندرك أن حملنا يعبر عن محبتنا لله وللآخرين عندئذ يتحوّل الحمل حقًا إلى أغنية يتردد صداها في أرجاء الأرض.
شاهد رجل صبيًا يحمل على ظهره طفلاً أعرج، فسأله باهتمام: "أليس هذا حملاً ثقيلاً عليك لتحمله على ظهرك؟ فأجابه الصبي: هذا ليس حملاً يا سيدي، هذا هو أخي الصغير". إن حمل المحبة هو دائمًا حمل خفيف. هو حمل الانتصار!
فالله يريد منا حقًا أن ندرك مدى محبته لنا إذ صُلب ومات ومن ثَمَّ قام، لنحيا معه ونسير في موكب نصرته.

المجموعة: كانون الثاني - شباط Jan-Feb 2013