أذار March 2013

القس يعقوب عمارييطلعنا إنجيل لوقا في أصحاحه الثاني على مشهدٍ يجمع ما بين حدث الميلاد وحدث الصلب في لوحةٍ واحدة! ففي النصف الأول من الأصحاح، يحدثنا عن قصة ميلاد المسيح وما جرى من أحداث حولها، أما النصف الثاني من الأصحاح فيتحدث عن حدث الصلب وآثاره بكلماتٍ غاية في الدقَّة، وحسن الصياغة، وجمال التعبير، مغلفة بأسلوب رمزي ممعنٍ بالإيجاز يثير الدهشة.
وجه الغرابة في هذا المشهد أن هناك فقرتين متجاورتين في الأصحاح ذاته، تتحدث كل منهما بما يشبه نقيض الأخرى، فالأولى تتحدث عن الحياة بولادة طفل في العالم والثانية تتحدث عن الموت؛ الأولى تتحدث عن طفلٍ ما زال رضيعًا في أسابيعه الأولى، والأخرى تتحدث عن موتٍ مؤلمٍ سيغزوه ويغرس سيفًا موجعًا في قلب أمٍ ولدته! فالعجب في ما نشير إليه هو الربط بين الحدثين في مشهدٍ واحد.    
الرسالة الذكية التي يستنتجها الباحث الجاد من هذا المشهد العجيب هو أن مولود العذراء ذاك قد وُلِد لكي يموت. ولأن موته هو الغاية القصوى المبغيّ الوصول إليها، فقد ركَّزت النبوات على التَّذكير به والإشارة إليه، حتى وإن كان الوليد ما زال طفلاً رضيعًا ابن أيامٍ بعد ميلاده!
نحن كأُناس نولد لنعيش ونتمتع بالحياة، أما ذاك - ابن العذراء - فقد وُلِد لكي يموت، فالموت كان الغاية التي لأجلها وُلِد!
ولنستعرض ما تقدم بأكثر وضوح:
يحدثنا الإنجيل هنا عن زيارة قامت بها العذراء الطهور لبيت الله، حاملةً ابنها المولود حديثًا لتؤدي واجبًا دينيًا بخصوص كلّ ذكرٍ فاتح رحم تمشيًا مع ما نصّت عليه شريعة موسى. فالعذراء حينها كانت تحت ظلال الشريعة الموسوية، تحترمها وتقوم بواجبها!
وحين دخلت العذراء عتبات بيت الله في الهيكل لتقوم بما جاءت لأجله ويرافقها يوسف رجلها، إذا بشيخٍ طاعنٍ بالسن قد قام من مكانه وتقدّم نحوها والتقاها، ودون سابق معرفة، أخذ طفلها من حضنها، ورفع صلاة لله على مسمعٍ منها قائلاً: "الآن تُطلِق عبدك يا سيّد حسب قولك بسلام، لأن عينيّ قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته قدام وجه جميع الشعوب نور إعلان للأمم" (لوقا 29:2-32).
سمعت العذراء صلاته ودخلت في حيرة، فهي لا تعرف لكلماته تفسيرًا، ولا تعرف هذا الشيخ الذي احتضن طفلها فجأة دون سابق علم، وما الذي عناه بصلاته؟!
ولمعلومات القارئ العزيز، فسمعان الشيخ هذا كان رجلاً تقيًا يتمتَّع بصلةٍ عميقةٍ بالله، وقد لا يكون معروفًا سوى في محيطه الذي عاش فيه في أورشليم. ورجل تقي مثل سمعان الشيخ يأتمنه الله على سرّهِ، والكتاب المقدس يقول: "سرّ الرب لخائفيه" (مزمور 14:25).
ويُخبرنا الإنجيل عن سمعان الشيخ أنه سبق وأعلن له الله أنه لن يذوق الموت قبل أن يرى المسيح الذي تنتظره الأجيال. والمسيح حينها لم يكن قد انتشر خبر ميلاده بين العامة، لكن سمعان أتى إلى بيت الله منقادًا بالروح في ذلك اليوم. وما أن دخلت العذراء إلى بيت الله وهي تحمل طفلها على ذراعيها، حتى أحسّ الرجل بإيحاء من روح الله أن الطفل المحمول على ذراعي أمه هو المسيح المنتظر، فاندفع نحوها وأخذ الطفل بين يديه ورفع صلاة شكرٍ لله بينما كانت العذراء تراقب وتسمع ولا تدري ما تعنيه كلماته، فحفظتها في قلبِها تتفكَّر بها مُستسلمةً لأمر الله!
القصة لم تنته عند هذا الحدّ. فبعد صلاة هذا الشيخ، اتجه إلى أمّ الطفل وقال لها كلمات تثير مزيدًا من الدهشة، فقال مشيرًا إلى طفلها: "ها إن هذا قد وُضِع لسقوطِ وقيامِ كثيرين في إسرائيل، ولعلامةٍ تُقاوَم" (لوقا 34:2).
يا للعجب! فالكلمات تنمّ عن عمقِ فهمٍ لأحداثٍ قادمة تتعلَّق بطفلها، أحداث ما زالت في علم الغيب لا يدري بها أحد، ولا حتى العذراء أم المولود! ثم واصل الرجل حديثه لمريم وقال: "وأنت أيضًا يجوز في نفسك سيفٌ لُتعلَن أفكار من قلوب كثيرة" (لوقا 35:2).
ونتوقف هنا عند الملاحظات التالية:

أولاً: قال سمعان للمطوبة مريم: "ها إن هذا قد وضع لسقوطِ وقيام كثيرين في إسرائيل ولعلامة تقاوم" (لوقا 34:2).

قال: "سقوط وقيام." سقط من نعمة الله الكثيرون من اليهود بعد أن أُعطيت لهم الفرصة للإيمان بالمسيح فرفضوه وقاوموه، وخسروا فرصة أتاحت لهم حق الأسبقية بين الشعوب للتعرف على المسيح والإيمان به. فالمسيح وُلِد بينهم، وعاش بين ظهرانيهم، ومشى في شوارعهم، وشفى مرضاهم، وصنع ما صنع من معجزات في وسطهم، ونادى وعلَّم في مجامعهم، وانطبقت عليه نبوات توراتهم بكل وضوح، ومع ذلك تنكّروا له ورفضوه فقال فيهم الإنجيل: "إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله" (يوحنا 11:1).
فكانت نبوة سمعان الشيخ، والمسيح ما زال طفلاً في حضن العذراء: "إن هذا قد وُضع لسقوط وقيام كثيرين في إسرائيل". فبعضهم سقط فعلاً رافضًا نعمة الله، والبعض الآخر قام ونهض، وآمن وتبارك، إذ قَبِل فداء المسيح وانضم إلى المؤمنين؛ ومنهم رسل المسيح الأحد عشر، وشاول الطرسوسي الذي بعد أن آمن بالمسيح صار يُعرف ببولس الرسول. واليوم، الملايين منهم آمنوا بالمسيح واندمجوا بجسم الكنيسة المسيحية في بقاع الدنيا، والعملية متواصلة!
فنبوة سمعان تعني أن قبولَ المسيح أو رفضه يشكّل في حسابات الله الحد الحسم في قيام أو سقوط الأفراد والشعوب، سواء في هذه الدنيا أو في يوم الدين.

ثانيًا: وقال سمعان: "إن هذا قد وُضِع لعلامةٍ تقاوَم."

فالمسيح حسب نبوة هذا الشيخ الجليل قد وُضع "لعلامةٍ تقاوم"، بمعنى أن المسيح ستميزه علامة يقاومها البعض، فسترتبط به علامة تدلّ عليه، وتختص به دون غيره، والعلامة سُتقاوم! يقول: "علامة" وليست "ميزة"، فميزات المسيح كثيرة وليست واحدة. بينما هذه علامة تراها العين، تذكِّر بصاحبها وترتبط بشخصه.
والأهم أن "العلامة" المُشار إليها سُتقاوُم، وسيرفضها البعض ويقاومونها. فالسؤال الآن: ما هي هذه العلامة المنظورة المرتبطة بالمسيح؟
العلامة الوحيدة المرئية التي يراها الناس على اختلاف مذاهبهم أينما كانوا في كل دائرة الأرض وتدل على المسيح وُتذكِّر به هي الصليب!
ومع أنها هي العلامة التي يجّلها المسيحيون، ويرفعونها على منابرهم، وفوق قباب كنائسهم وعلى تيجان ملوكهم، فهي علامة يقاومها من يجهلون ما ترمي إليه. ونبوة سمعان تعلن عن ذلك قبل حدوث الصلب بثلاث وثلاثين سنة!
وثبت فعلاً أنها علامة تقاوم وتتعرض للمعاداة في بعض البلدان، ويُمنع ظهورها على ساحات أراضيهم، مع أنها لا تعادي بل تقدم العون لإنقاذ البشرية!
والسؤال الآن: من أعلم سمعان الشيخ بكل هذا؟! وكيف اكتشف الحدث قبل وقوعه بما يزيد عن ثلاثين سنة؟! أليس في هذا عجب؟!
ثم، هل كان سمعان يدرك أبعاد ما قاله؟ ليس بالضرورة! فهو إنما كان ينطق بكلمات وحيٍ وضعها الله على لسانه، ليوصلها لا إلى العذراء وحدها بل ولأجيال البشرية قاطبة ليتفكر بها كلُّ من تصل إليه، فتتكشَّف له عن سر قد لا يكون في حسبانه!

ثالثًا: وتضيف النبوة على لسان سمعان الشيخ دليلاً آخر يؤكِّد على هوية وملامح تلك العلامة. فقد قال لمريم: "وأنتِ سيجوز في نفسك سيف!" (لوقا 35:2).
ونتساءل: هل حصل في تاريخ العذراء أن جازت في أسى أو حزنٍ وكأن سيفًا يخرق قلبها؟! وإن حصل، أين كان؟ ومتى؟ وكيف؟ وما المناسبة؟
ألم يخترق السيف قلبها وهي واقفة على بعد أمتار من ابنها البار وهو معلَّق على الصليب يرشح دمًا؟
قارئي الكريم: الصليب حقيقةٌ، والمصلوب صُلب ليمنحك حياة أبدية. فبدمه شقَّ المسيح الطريق ليصالحك مع الله ويؤمِّن لك الدخول إلى مجلس الأبرار والقديسين في الأبدية.
صلب هو لتحيا أنت. مات هو ليمنحك الحياة، وبدم الصليب غفرانًا لخطاياك! ومن دونه سقوطٌ وخسارةٌ وندم! رسالة الصليب رسالة خيرٍ للبشرية، وملجأ أمان لمن يحتمي بظلاله.
ولا تنسَ قارئي العزيز أن الصليب أعقبه قيامة. وبقيامته من القبر بعد صلبٍ محقَّق، شهادة على مدى الأزمان على صدق ما نادى به المسيح وعلَّم.

المجموعة: أذار March 2013