تشرين الثاني November 2013

shahid"وَجَاءُوا إِلَى أَرِيحَا. وَفِيمَا هُوَ خَارِجٌ مِنْ أَرِيحَا مَعَ تَلاَمِيذِهِ وَجَمْعٍ غَفِيرٍ، كَانَ بَارْتِيمَاوُسُ الأَعْمَى ابْنُ تِيمَاوُسَ جَالِسًا عَلَى الطَّرِيقِ يَسْتَعْطِي. فَلَمَّا سَمِعَ أَنَّهُ يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ، ابْتَدَأَ يَصْرُخُ وَيَقُولُ: يَا يَسُوعُ ابْنَ دَاوُدَ، ارْحَمْنِي! فَانْتَهَرَهُ كَثِيرُونَ لِيَسْكُتَ، فَصَرَخَ أَكْثَرَ كَثِيرًا: يَا ابْنَ دَاوُدَ، ارْحَمْنِي! فَوَقَفَ يَسُوعُ وَأَمَرَ أَنْ يُنَادَى. فَنَادَوُا الأَعْمَى قَائِلِينَ لَهُ: ثِقْ! قُمْ! هُوَذَا يُنَادِيكَ. فَطَرَحَ رِدَاءَهُ وَقَامَ وَجَاءَ إِلَى يَسُوعَ. فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ بِكَ؟ فَقَالَ لَهُ الأَعْمَى: يَا سَيِّدِي، أَنْ أُبْصِرَ! فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: اذْهَبْ. إِيمَانُكَ قَدْ شَفَاكَ. فَلِلْوَقْتِ أَبْصَرَ، وَتَبِعَ يَسُوعَ فِي الطَّرِيقِ" (مرقس 46:10-52).
يتعذر أحيانًا على الإنسان أن يدرك ما هي مقاصد الله في حياته. وكثيرًا ما تراوده الشكوك والتساؤل ولا سيما حين تلم به المصائب والآلام، وتعصف به أنواء الحياة فيجد نفسه وحيدًا، قلقًا، في وحشة نفسيّة، وفكرية، وعاطفية. ويشعر بعضنا أحيانًا أن الله قد تخلّى عنه في أشدّ اللحظات التي هو في أمس الحاجة إليه. وليست هذه حالات نادرة في حياة المؤمن، فإن قوى الشر قد تتألّب عليه لتوهن من عزيمته وتثبط من همته، وتوحي إليه أن فكرة وجود إله قادر على كل شيء ليست سوى أسطورة من الأساطير قد ابتدعها الخيال الإنساني خوفًا من المجهول. وفي مثل هذه الحالة يلجأ الإنسان إلى رب هذه الأسطورة، أي إلى قوة ماورائية لتنقذه من أوضاعه الراهنة المخيفة. ومع مضي الزمن، استعبدته هذه الفكرة وصدّقها ولم يعد له منجاة من قيودها وأسرها.
ولكن مجيء المسيح وتجسده كانا أعظم تعبير عن صدق الله وثبات وجوده، وأنه ليس فكرة عاجية أو وهمًا من الأوهام اختلقه العقل البشري. واستطاع المسيح بميلاده، وآلامه، وموته، وقيامته، وأعماله الباهرة أن يكشف للجنس البشري عن حقيقة وجود إله حي يتعامل مع الإنسان المخلوق أصلاً على صورة الله ومثاله. فهناك علاقة روحية، وتاريخية، ومستقبلية بين الإنسان والله؛ وهي علاقة حقيقية أثبتها المسيح بمحض وجوده على الأرض، وطبيعته الإلهية-الإنسانية التي تلازمت في وحدة فائقة مقدسة في أثناء وجوده بيننا.
وفي غضون حياته هذه، ولا سيما في خلال السنوات الثلاث والنصف من بدء خدمته العملية، نرى تلك الصورة الحية عن صحة وجود الله الخالق الذي بيده مصائر الأمم.
ومن الملاحظ أيضًا أن الرب يسوع المسيح قد كانت له مواقف جبارة في الإعراب عن ألوهيته إن في القول أو في العمل. فقد قال عن نفسه: "أنا هو القيامة والحياة... أنا هو نور العالم... أنا هو خبز الحياة... أنا هو الطريق والحق والحياة... أنا هو الألف والياء... أنا والآب واحد... ومن رآني فقد رأى الآب... وغيرها من العبارات التي لم يجرؤ أي نبي من جميع الأنبياء ادعاءها. ومن الناحية العملية فقد غفر الخطايا وهو أمر لم يكن من حق أحد سوى الله، وأقام الميت بقوته الشخصية، وشفى الضرير، والأبرص، والمقعد، والأصم، وكل الذين جاءوا إليه حاملين معهم أمراضهم فوهب لهم العافية بكلمة قدرته، وبذلك كشف عن ألوهيته في إنسانيته.
فابن الإنسان هذا الذي عاش بيننا، وتعرّض في إنسانيته لكل ما يمكن أن يتعرّض له أبناء الجنس البشري ما عدا الخطيئة، جسّد في ذاته في مواقف ألوهيته كل خصائص الله الخافية عن الإنسان.
ومن هنا، من عمق اليأس جاءت صرخة بارتيماوس (ابن تيماوس): "يا يسوع ابن داود ارحمني". فنحن لا ندري كيف استطاع ابن تيماوس الكفيف أن يربط بين إنسانية المسيح وألوهيته، بل كيف عرف أنه ابن داود أو من نسله. ولست أشك لحظة أن ما استطاع أن يراه ببصيرته كان أكثر مما يمكن أن يراه الإنسان السليم ببصره.
كان هتافه المتواصل: "يا يسوع بن داود ارحمني" هو هتاف الإنسان الواثق أن يسوع، ويسوع وحده هو القادر أن يعيد إليه بصره؛ لهذا كلما حاولت الجماهير المحتشدة حوله أن تنتهره كان يزداد صراخه حتى بلغ صوته مسامع السيد رغم صخب الجموع. كان نداءً من القلب، من أعماق حاجته؛ نداء الذي أدرك إن هذه هي فرصته الذهبية لاستعادة بصره، فتمرّد على إرادة الجماهير التي لم تكن تبالي به، ولم يصغِ إلى تنديد منتهريه، فهذه هي لحظة العمر، وقد لا يلتقي مرة ثانية بيسوع بن داود. لا ريب أن تصوراته عن المسيح لم تكن قد اكتملت بعد، فهو من خلفية يهودية تنتظر مجيء المسيا الذي سيحطم نير الدولة الرومانية ويقهرها ويعيد المجد لإسرائيل. ولكن مع ذلك كله، فقد اكتشف أن هذا المسيح هو صانع المعجزات، وغافر الخطايا وفي قدرته أن يعيد إليه البصر. كان ملحًّا في صراخه لأنه أدرك أنه إن لم يتسنّ له اللقاء بابن داود فإنه لن يُشفى حتى ساعة موته. وعرف السيد شدة حاجة هذا الإنسان الذي لم يرضخ لإرادة الجماهير.
ويبدو لي أن يسوع الحنون القلب لم يسمع آنئذ شيئًا آخر سوى صوت هذا الإنسان البائس الذي يسعى للشفاء. لقد غابت عن مسامع يسوع كل الأصوات الأخرى الضاجة حوله، ولم يرف في أذنيه إلا هذا الصوت الواحد المنطلق من قلب مكلوم ونفس متوجعة. وهل للمسيح أن يتجاهل مثل هذا الصوت الصارخ إليه من أغوار النفس؟
عندئذ توقف كل شيء وكأن الزمن قد أصابه شلل. إشارة من يد السيد كانت كافية لكي تسكت صخب الجماهير ويسود الهدوء: ادعوه إليّ، ادعو هذا المسكين الصارخ إليّ الذي يكافح في سبيل الشفاء.
من الجلي أن هذا الأعمى لم يكن لديه سوى صوته، فهو كفيف عاجز عن اختراق صفوف الجماهير وحده ولم يتطوّع أحد منهم أن يتأبط ذراعه ويقوده إلى المسيح، فلم يكن في وسعه أن يفعل شيئًا سوى أن يصرخ بأعلى صوته: "ارحمني". ويقول الكتاب: "فوقف يسوع"! لم يتابع سيره. وعندما وقف يسوع وقفت جميع الجماهير، وأمر يسوع فانصاعت لأمره الجموع! بل إن هناك من هرع إلى هذا الكفيف قائلاً: "ثق، قم! هوذا يناديك".
نعم، يا ابن تيماوس، إن سيد الأكوان يناديك. هذه ساعتك التي انتظرتها طويلاً، قم إنه يناديك وسرعان ما طرح رداءه، وربما كان هذا الرداء هو كل ما يملكه، وأقبل إلى يسوع. ها هو الآن يقف وجهًا لوجه أمام ابن داود مخلص البشرية وفاديها، وسمع آنئذ أروع ما كان يحلم به: إيمانك قد شفاك.
إن يسوع المسيح يدعونا دائمًا إليه لكي نأتي. فكل من يقبل إليه لا يخرجه خارجًا، ولا يمكن أن يطرده من حضرته، ولكن ضجيج العالم بكل ما فيه من رغبات ومشاغل تحول دون أن نقبل دعوته ونسرع إليه. كل واحد منا، مؤمن أو غير مؤمن، يعلم أن ابن داود يقف على أبواب قلوبنا قارعًا ذلك الباب المغلق لكي يُفتح له، بل وأكثر من ذلك، إنه يسمع أنين القلوب المنكسرة التي أقبلت إليه تطلب الشفاء من الخطيئة، ولا يسمح لأي ضجيج أن يخرس ذلك الأنين لأن أنين التوبة هو أعذب موسيقى تُعزف في أذني الرب. هو يعرف الأشواق التي تختلج في قلب طالب التوبة الذي اكتشف حاجته إلى الخلاص. وفي لحظة القبول، بل في لحظة لقاء الفادي المخلص مع الخاطئ الهارب من مصير أبدي رهيب، يستولي الصمت على الكون لأن هذه اللحظة هي لحظة مقدسة في عيني الله؛ هي عربون الدم المسفوك ثمنًا من أجل فداء البشرية.
سأل المسيح ابن تيماوس: ماذا تريد؟
فأجابه: أن أبصر. فقال له السيد: إيمانك قد شفاك! وها هو يسأل اليوم: ماذا تريد؟
فما هو جوابك؟

المجموعة: تشرين الثاني November 2013