كانون الثاني - شباط Jan-Feb 2014

الدكتور لبيب ميخائيلجاءت هذه السيدة الكريمة لزيارتنا مع أفراد أسرتها، وأثناء الزيارة أخذتني إلى مكان هادئ في البيت وقالت لي: هل يمكن أن تشرح لي مصير الإنسان بعد الموت، سواء كان مؤمنًا أو غير مؤمن؟
قلت: قبل أن نستطرد في الحديث، لا بد أن نعرف أن الإنسان مكوّن من روح، ونفس، وجسد، وهذا ما أثبته بولس الرسول بكلماته: "وإله السلام نفسه يقدسكم بالتمام، ولتُحفظ روحكم ونفسكم وجسدكم كاملة بلا لوم عند مجيء ربنا يسوع المسيح" (1تسالونيكي 23:5).
الروح مركز عبادة الله (رومية 9:1) والنفس مركز الذات، والإرادة، والعاطفة والعقل (أيوب 8:32)، والجسد يحتوي الاثنين، كما يسكن فيه الروح القدس حين يقبل الفرد المسيح ربًا ومخلصًا (1كورنثوس 16:3).
ما حدث للمسيح الإنسان بعد موته على الصليب، يحدث للمؤمن حين يموت.
روح المسيح استودعها في يد الآب إذ قال وهو على الصليب: "يا أبتاه في يديك استودع روحي" (لوقا 46:23).
نفس المسيح ذهبت إلى الهاوية، وهذا ما قاله بطرس الرسول: "إنه لم تترك نفسه في الهاوية" (أعمال 31:2).
وجسد المسيح ظل في القبر ثلاثة أيام وثلاث ليال ولم ير فسادًا (متى 40:12)، وقام منتصرًا على الموت.
والمؤمن حين يموت تذهب روحه إلى المسيح، كما أعلن استفانوس بكلماته وقت استشهاده: "فكانوا يرجمون استفانوس وهو يدعو ويقول: أيها الرب يسوع، اقبل روحي" (أعمال 59:7).
وتذهب نفسه إلى الهاوية العليا لتكون مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب وباقي المؤمنين، وأقول الهاوية العليا لأن الهاوية قسمان:
الهاوية العليا، وإليها تذهب نفوس المؤمنين، وهي ذاتها الفردوس الذي وعد به المسيح اللص الذي قال له: "اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك. فقال له يسوع: الحق أقول لك إنك اليوم تكون معي في الفردوس" (لوقا 43:23-44).
والهاوية السفلى التي تذهب إليها نفوس غير المؤمنين.
ونفس المسيح الإنسان لم تذهب بعد موته إلى السماء، بل ذهبت إلى الهاوية العليا التي هي الفردوس.
هذا يأتي بنا إلى قصة الغني ولعازر التي ذكرها المسيح، وقصة الغني ولعازر لم تكن مثلاً بل قصة حقيقية، ذُكر فيها إبراهيم ولعازر باسميهما، وهذه هي القصة: "كان إنسان غني وكان يلبس الأرجوان والبزّ وهو يتنعم كل يوم مترفهًا. وكان مسكين اسمه لعازر الذي طُرح عند بابه مضروبًا بالقروح" (لوقا 19:16-20). ولم يذكر الرب اسم الغني لأنه مات في شره وأمثاله "مع الصديقين لا يُكتبوا" (مزمور 28:69)، أما لعازر فقيل عنه: "فمات المسكين وحملته الملائكة إلى حضن إبراهيم" (لوقا 22:16). حملت الملائكة نفس لعازر إلى حضن إبراهيم... إلى الهاوية العليا.
"ومات الغني أيضًا ودُفن، فرفع عينيه في الهاوية وهو في العذاب، ورأى إبراهيم من بعيد ولعازر في حضنه، فنادى وقال: يَا أَبِي إِبْرَاهِيمَ، ارْحَمْنِي، وَأَرْسِلْ لِعَازَرَ لِيَبُلَّ طَرَفَ إِصْبِعِهِ بِمَاءٍ وَيُبَرِّدَ لِسَانِي، لأَنِّي مُعَذَّبٌ فِي هذَا اللَّهِيبِ. فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: يَا ابْنِي، اذْكُرْ أَنَّكَ اسْتَوْفَيْتَ خَيْرَاتِكَ فِي حَيَاتِكَ، وَكَذلِكَ لِعَازَرُ الْبَلاَيَا. وَالآنَ هُوَ يَتَعَزَّى وَأَنْتَ تَتَعَذَّبُ. وَفَوْقَ هذَا كُلِّهِ، بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ هُوَّةٌ عَظِيمَةٌ قَدْ أُثْبِتَتْ، حَتَّى إِنَّ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْعُبُورَ مِنْ ههُنَا إِلَيْكُمْ لاَ يَقْدِرُونَ، وَلاَ الَّذِينَ مِنْ هُنَاكَ يَجْتَازُونَ إِلَيْنَا. فَقَالَ: أَسْأَلُكَ إِذًا، يَا أَبَتِ، أَنْ تُرْسِلَهُ إِلَى بَيْتِ أَبِي، لأَنَّ لِي خَمْسَةَ إِخْوَةٍ، حَتَّى يَشْهَدَ لَهُمْ لِكَيْلاَ يَأْتُوا هُمْ أَيْضًا إِلَى مَوْضِعِ الْعَذَابِ هذَا. قَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: عِنْدَهُمْ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءُ، لِيَسْمَعُوا مِنْهُمْ. فَقَالَ: لاَ، يَا أَبِي إِبْرَاهِيمَ، بَلْ إِذَا مَضَى إِلَيْهِمْ وَاحِدٌ مِنَ الأَمْوَاتِ يَتُوبُونَ. فَقَالَ لَهُ: إِنْ كَانُوا لاَ يَسْمَعُونَ مِنْ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءِ، وَلاَ إِنْ قَامَ وَاحِدٌ مِنَ الأَمْوَاتِ يُصَدِّقُونَ" (لوقا 22:16-31).
تعلن كلمات القصة أن الغني ذهب إلى الهاوية السفلى التي قال عنها داود النبي: "لأن رحمتك عظيمة نحوي وقد نجيت نفسي من الهاوية السفلى" (مزمور 13:86). ونقرأ عنها كذلك الكلمات: "إنه قد اشتعلت نار بغضبي فتتّقد إلى الهاوية السفلى" (تثنية 22:32).
ولأن نفس الغني، لا جسده، هي التي ذهبت إلى الهاوية السفلى، فالعذاب الذي وقع على الغني كان عذابًا نفسيًا، عبّر عنه بكلمة "العذاب" و"اللهيب"، ولم يعترض الغني على العذاب الذي هو فيه، لأنه عاش حياته بعيدًا عن الله، تركزت اهتماماته في المظاهر المادية، "كان يلبس الأرجوان والبزّ"... والشهوات العالمية "وهو يتنعّم كل يوم مترفهًا" (لوقا 19:16). لم يفكر في المسكين الذي طُرح عند بابه مضروبًا بالقروح، ولم يعطه حتى الفتات الساقط من مائدته. أما لعازر المسكين فقد احتمل آلامه وتمسك بإيمانه بإلهه. ولذلك عندما مات حملته الملائكة إلى حضن إبراهيم إلى الهاوية العليا.
وتعلن القصة أن الغني لم يكن في قدرته بعد موته الاتصال بإخوته ليشهد لهم، ولذا طلب من إبراهيم أن يرسل لعازر، فالموت يفصل بين عالم الأحياء وعالم الأموات، والادعاء بأن في قدرة الإنسان تحضير أرواح الذين ماتوا، ادعاء كاذب وخدعة شيطانية (جامعة 5:9-6).
طلب الغني من إبراهيم أن يرحمه ويرسل لعازر ليبلّ طرف إصبعه بماء ويبرّد لسانه.
وقد أخطأ الغني في طلب الرحمة من إبراهيم، إذ طلب الرحمة يجب أن يوجه إلى الله وحده (مزمور 1:51)، وهنا طلب إبراهيم من الغني أن يستخدم ذاكرته يوم كان يعيش غارقًا في الخيرات، وكان لعازر غارقًا في البلايا، وعندما كان يعيش مترفهًا لم يعبأ بآلام المسكين المطروح عند بابه متناسيًا كل الوصايا الخاصة بالعناية بالفقراء والمساكين... ولكن بعد الموت يتغيّر الحال.
الصورة ترينا أن المؤمن وغير المؤمن سيستمر وجود روحه ونفسه، فهناك حياة بعد الموت للمؤمنين وغير المؤمنين. ولأول مرة اهتم الغني، وهو في عذاب الهاوية السفلى، بمستقبل إخوته الأبدي، فطلب من إبراهيم أن يرسل لعازر إلى بيت أبيه ليشهد لإخوته لكيلا يأتوا هم أيضًا إلى موضع العذاب الذي هو فيه.
وعندئذ "قَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: عِنْدَهُمْ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءُ، لِيَسْمَعُوا مِنْهُمْ. فَقَالَ: لاَ، يَا أَبِي إِبْرَاهِيمَ، بَلْ إِذَا مَضَى إِلَيْهِمْ وَاحِدٌ مِنَ الأَمْوَاتِ يَتُوبُونَ. فَقَالَ لَهُ: إِنْ كَانُوا لاَ يَسْمَعُونَ مِنْ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءِ، وَلاَ إِنْ قَامَ وَاحِدٌ مِنَ الأَمْوَاتِ يُصَدِّقُونَ" (لوقا 29:16-31).
هنا يجدر بنا أن نتوقف عند هذه الآيات لنفهم معناها بتدقيق.
وأول ما تعلنه هذه الآيات أن المرجع الوحيد الصحيح لكل إنسان يريد نوال الحياة الأبدية هو كلام الله الموحى به، هو أسفار موسى والأنبياء وقت موت الغني، نضيف إليها كتب العهد الجديد في وقتنا الحالي... وهذا ما قرره بطرس الرسول بكلماته:
"وَعِنْدَنَا الْكَلِمَةُ النَّبَوِيَّةُ، وَهِيَ أَثْبَتُ، الَّتِي تَفْعَلُونَ حَسَنًا إِنِ انْتَبَهْتُمْ إِلَيْهَا، كَمَا إِلَى سِرَاجٍ مُنِيرٍ فِي مَوْضِعٍ مُظْلِمٍ، إِلَى أَنْ يَنْفَجِرَ النَّهَارُ، وَيَطْلَعَ كَوْكَبُ الصُّبْحِ فِي قُلُوبِكُمْ، عَالِمِينَ هذَا أَوَّلاً: أَنَّ كُلَّ نُبُوَّةِ الْكِتَابِ لَيْسَتْ مِنْ تَفْسِيرٍ خَاصٍّ. لأَنَّهُ لَمْ تَأْتِ نُبُوَّةٌ قَطُّ بِمَشِيئَةِ إِنْسَانٍ، بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ اللهِ الْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ" (2بطرس 19:1-21). فإذا أردت معرفة الطريق لنوال الغفران والحياة الأبدية، فعليك أن تقرأ الكتاب المقدس، وتصلي أن يكشف الروح القدس عن عينيك لمعرفة معنى ما تقرأ وتعرف طريق الخلاص.
ويلفت نظرنا في هذه الآيات ما قاله إبراهيم للغني: "عندهم موسى والأنبياء...". كيف عرف إبراهيم أن إخوة الغني عندهم أسفار موسى والأنبياء وهو قد مات قبل موسى والأنبياء بمئات السنين؟
والجواب:
إن الذين يموتون سواء من الأبرار أو الأشرار، يحملون آخر أخبار الأرض إلى الذين ماتوا قبلهم، ومن هؤلاء الذين وفدوا إلى الهاوية العليا بعد إبراهيم بمئات السنين. عرف إبراهيم أن بني إسرائيل عندهم أسفار موسى والأنبياء.
هذا يأتي بنا إلى طلب الغني أن يرسل لعازر إلى بيت أبيه، وقد أعلن إبراهيم للغني أنه لكي يذهب لعازر للشهادة لإخوته لا بد أن يقوم من الأموات إذ قال له:
"إِنْ كَانُوا لاَ يَسْمَعُونَ مِنْ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءِ، وَلاَ إِنْ قَامَ وَاحِدٌ مِنَ الأَمْوَاتِ يُصَدِّقُونَ" (لوقا 31:16).
فلا يمكن لمن مات من القديسين أن يظهر أو يتكلم للذين على الأرض إلا إذا قام من الأموات، وبغير قيامته لا يمكن ظهوره أو اتصاله بسكان الأرض، والقيامة من الأموات لن تحدث إلا عند المجيء الثاني للمسيح. فالادعاء بظهور القديسين الذين ماتوا في أي مكان يخالف تمامًا ما قاله الكتاب المقدس، ويجب أن يرفضه الذين يفهمون كلمة الله رفضًا باتًا وقاطعًا.
بعد أن رأينا هذا المشهد من الهاوية لنعد إلى سكان الأرض... لكن الواقع المحزن أن أغلبية سكان الأرض، يتبعون الضلالات، ويعبدون الأصنام، وقد ابتدعوا لأنفسهم ديانات غريبة من عقولهم الضالة، رغم البراهين الساطعة التي تؤكد صدق الكتاب المقدس الذي بين أيديهم، وحقيقة وجود الله الذي خلقهم وفداهم.
وقد فعل ذلك المصريون القدماء قبلهم، فقد رأوا قوة الله في الضربات العشر التي أوقعها على مصر... ضربة تحويل نهر مصر إلى دم، وضربة الضفادع، وضربة البعوض، وضربة الذبان، وضربة الوباء الثقيل الذي قتل مواشي المصريين، وضربة البرد، وضربة الجراد، وضربة الظلام الدامس، وأخيرًا ضربة قتل جميع أبكار المصريين.
رغم كل هذا بقي المصريون يعبدون العجل أبيس مع باقي أصنامهم، ولم يؤمنوا بالإله الحقيقي القادر على كل شيء. لكن شكرًا لله، لأجل الأقلية التي عندما ترى الحق تترك عقائدها الموروثة من الآباء، وتؤمن بما أعلنه الله بأعماله العجيبة وفي الكتاب المقدس الكريم. من هذه الأقلية، راحاب الزانية التي لم تهلك مع العصاة (عبرانيين 31:11)، ونعمان السرياني الذي شُفي من برصه على يد أليشع النبي (2ملوك 17:5)، وراعوث الموآبية التي احتمت تحت جناحي الرب (متى 5:1).
فمن أي فريق أنت؟ من فريق الأقلية التي بحثت عن الحق ووجدته، وآمنت به، وأطاعته؟ أو من فريق الأغلبية التي تتمسك بتقاليدها الموروثة من الآباء، وترفض إعلانات كلمة الله؟ وأين ستذهب بعد الموت؟ هل ستكون روحك مع المسيح ونفسك في الهاوية العليا مع القديسين والأبرار، أم ستذهب روحك إلى السجن (1بطرس 19:3) ونفسك إلى الهاوية السفلى إلى أن تواجه يوم الدينونة العظيم.
أصلي أن يباركك الرب، وينير ذهنك، ويجذبك بحبه إليه، لترى عظم محبته وتنال الغفران والحياة الأبدية.

المجموعة: كانون الثاني-شباط Jan-Feb 2014