حزيران June 2014

JosephAbdoلم يدع المسيح، له المجد، خلال مدة خدمته العلنية، أية فرصة تمرّ دون أن يجري معجزة خارقة، أو يعلم تعليمًا رائعًا، وهو دائب لرفع الضيم عن البؤساء والمعذبين من جهة، ولبنيان تلاميذه وإعدادهم لخدمة بشارة الملكوت من جهة أخرى. وكان موته على الصليب لأجل الفداء، قمّة أعماله، وقيامته المجيدة من بين الأموات قمة المعجزات.

إلا أن تلك الأعمال والأقوال والمعجزات لم تتوقف بسبب الصلب إلا لفترة البقاء في القبر، ثم استمرّت بكل زخمها بعد القيامة، حتى كانت لمساته الأخيرة قبيل صعوده إلى السماء مسك الختام لتلك الحياة الرائعة الكمال المفعمة بالحب والحنان، والتي لم تشهد لها هذه البسيطة مثيلاً على مدى الأزمان.

كان تكوينه لشخصية بطرس الرسول وتشذيبها، وما زال بعد حوالي ألفي سنة لرحيل ذلك التلميذ عن هذه الفانية، سرًا عميقًا لتعاملات المسيح مع أصناف متباينة الطباع ومختلفة المشارب. فقد بدأ بتشكيله مستخدمًا مهنته وهوايته، حيث كان "سمعان بن يونا" وهذا هو اسمه، صيادًا ماهرًا للسمك في بحيرة طبرية بسفينته الخاصة، وكان يرافقه يعقوب ويوحنا ابنا زبدي بسفينة أخرى، يوم عملوا الليل كله ولم يمسكوا شيئًا. فكان وقع ذلك الفشل عليهم محبطًا حتى أنهم غسلوا الشباك، وتوقفوا عن المحاولة.

وفي ذلك الظرف المهيّأ من قبله سعى إليهم يسوع إلى المكان، فأحاطت به جموع كثيرة كعادته. فاستخدم سفينة بطرس منبرًا لتعليم هؤلاء، وإشباع جوعهم إلى كلمته الصالحة، ثم تابع مهمته التي جاء من أجلها: "ولما فرغ من الكلام قال لسمعان بطرس: ابعد قليلاً إلى العمق وألقوا شباككم للصيد" (لوقا 4:5). كان أمر يسوع لبطرس مخالفًا لأصول المهنة؛ فالليل هو الوقت الأفضل للصيد بالشباك، والعمق لا يساعد كثيرًا في ذلك، ولكن بطرس الذي كان قد شاهد بعض معجزات المسيح كتحويل الماء إلى خمر، وشفاء ابن خادم الملك، وغيرها، انصاع بسببها لتنفيذ أمر يسوع، وهذا ما يفسّر قوله "يا سيد، قد تعبنا الليل كله ولم نمسك شيئًا، لكن على كلمتك ألقي الشبكة". فملأته الدهشة حين رأى شبكته وقد امتلأت تمامًا بالسمك بصورة لم يختبرها ولم يسمع عنها من قبل، وعندها صاح قائلاً: "اخرج من سفينتي يا رب، لأني رجل خاطئ".

كانت هذه نقطة التحوّل الأولى في مسيرة إيمان بطرس بربوبية المسيح، لذلك فعندما تكلم الرب عن أن جسده مأكل حق، ودمه مشرب حق، كناية عن ضرورة الإيمان بذبيحة جسده الكفارية، كما ورد في إنجيل يوحنا "فرجع كثيرون من تلاميذه إلى الوراء ولم يعودوا يمشون معه، فقال يسوع للاثني عشر: ألعلّكم أنتم تريدون أن تمضوا؟ فأجاب سمعان بطرس: يا رب، إلى من نذهب؟ كلام الحياة الأبدية عندك، ونحن قد آمنا أنك أنت هو المسيح ابن الله الحي" (يوحنا 66:6-69).

وفي واقعة أخرى سأل يسوع تلاميذه: من يقول الناس أني أنا؟ فأجابوه حسبما يسمعون من الآخرين. فقال: وأنتم من تقولون؟ فانبرى بطرس أيضًا وأجاب: "أنت هو المسيح ابن الله الحي" (متى 16:16). فطوّب يسوع إيمانه هذا واصفًا إياه بالإعلان السماوي، ثم قال له: "وأنا أقول لك: أنت بطرس [صخرة] وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها" (متى 18:16).

وقد علم الرب أن ذلك التخصيص والإطراء زاد من اعتداد بطرس بنفسه، لذا فقبيل إلقاء القبض عليه من قبل اليهود، حذّر بطرس ورفاقه من تجارب الشيطان قائلاً: "كلكم تشكون فيّ في هذه الليلة... فأجاب بطرس وقال له: وإن شك فيك الجميع فأنا لا أشكّ أبدًا. قال له يسوع: الحق أقول لك: إنك في هذه الليلة قبل أن يصيح ديك تنكرني ثلاث مرات. قال له بطرس: ولو اضطررت أن أموت معك لا أنكرك" (متى 31:26-34).

وقد كانت نبوة يسوع هذه من أسرع نبوات الكتاب المقدس تحقّقًا. ففي محاكمة يسوع الليلية في منزل رئيس الكهنة، نرى بطرس الذي ظن نفسه الصخر الذي لا يتزعزع وقد زعزعه كلام جارية وأخجله صياح ديك. ولكن بعد لمسات يسوع الختامية الشفائية صار بطرس بطلاً لم يخفْ من سلطة نيرون ودومتيان (أباطرة روما). وصار عصيًا على الخوف حتى من الموت صلبًا، ولكن معكوسًا أيضًا.

وبعد قيامة الرب يسوع من بين الأموات، استعاد بحكمته وسلطان لاهوته هذا التلميذ من ضعفاته التي أُصيب بها ليكون صيادًا حقيقيًا للناس، وعلى صخرة إيمانه القوي القويم يبني الرب كنيسته. وذلك من خلال معجزة صيد السمك الكثير الأخيرة (حسب يوحنا 21) حيث عالج المسيح في ذلك اللقاء الرائع جميع ضعفاته ليجعله راعيًا بكل معنى الكلمة.

 

1- حالة الفشل وضياع الرؤيا

كان شبح الفشل في ملازمة سيدهم أثناء محنة المحاكمة والصلب ولا سيما الإنكار – بالنسبة لبطرس – يؤرق هؤلاء التلاميذ فلم يستطيعوا تجاوزه حتى وهم في العلية منتظرين إتمام وعود الرب لهم بعد القيامة. حتى أنه أنساهم مركزهم ورؤياهم الحقيقيين كرسل وصيادين للناس. قال بطرس لرفقائه: "أنا أذهب لأتصيد" فجاء معه ستة آخرون، وفي تلك الليلة لم يمسكوا شيئًا. ها هو الفشل يواجههم من جديد ويعطّل مجهوداتهم لأنها "خارج الخطة الإلهية". وهنا يقف يسوع على الشاطئ عند الفجر وينادي "يا غلمان، ألعلّ عندكم إدامًا؟". أجابوه: لا. ظن الكثيرون أن عبارة "يا غلمان" أراد بها الرب التحقير والاستصغار، ولكن حاشا له من التحقير، فنحن نفهمها على ضوء مفاهيم زمنها، كما جاء في تلك المقارنة اللطيفة في سفر إشعياء: "الغلمان يعيون ويتعبون، والفتيان يتعثّرون تعثّرًا، وأما منتظرو الرب فيجددون قوة، يركضون ولا يتعبون. يمشون ولا يعيون" (إشعياء 31:40). فقد عنى بها "الشبان الأقوياء". وهنا صحح الرب لهم المسار وأعاد لهم الثقة بأنهم ينجحون حينما ينفذون أمره. "فَقَالَ لَهُمْ: أَلْقُوا الشَّبَكَةَ إِلَى جَانِبِ السَّفِينَةِ الأَيْمَنِ فَتَجِدُوا. فَأَلْقَوْا، وَلَمْ يَعُودُوا يَقْدِرُونَ أَنْ يَجْذِبُوهَا مِنْ كَثْرَةِ السَّمَكِ. فَقَالَ ذلِكَ التِّلْمِيذُ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ لِبُطْرُسَ: هُوَ الرَّبُّ". فعرفوا أنه به وبه فقط يحققون الهدف.

 

2- حالة الجوع والتعب

قبل معالجة وضعهم الروحي، هيّأ لهم المائدة بنفسه، ولكي لا يشعروا بالمهانة والعجز طلب إليهم أن يقدموا مما أمسكوا من السمك، علمًا أن كل بركة من هذا أو ذاك هي أصلاً من يديه. فما أعظم لطف الفادي!

 

3- معالجة التفرّد والشعور بالأفضلية لدى بطرس

بعد أن شبع التلاميذ واستراحوا، سأل الرب بطرس: "يا سمعان بن يونا، أتحبّني أكثر من هؤلاء؟ أي، مما يحبني هؤلاء الآخرون. فأجاب: "يا رب، أنت تعلم أني أحبك". ولسان حاله يقول: بصرف النظر عن محبة الآخرين لك. وقد لمس الرب بعض الحسرة والندم مع الصدق في جوابه هذا.

 

4- معالجة حالة التطلعات غير الواقعية

قال له الرب: "ارعَ خرافي". فأنت يا سمعان خبير بصيد السمك، وقد وعدتك أن تصير صيادًا للناس، ولكن كما واجهت الفشل في الأُولى، ستواجه الفشل في الأخرى، إلا إذا جعلت اعتمادك عليّ. ولا يكفي هذا بل عليك أن تتقدم لكي تتعلم مهنة أهم، مهنة الرعاية. ولذا عليك أن تتدرب فتبدأ برعاية الخراف الصغيرة والحملان. والمؤمنون الصغار يحتاجون إلى رقة وحنان كما قال إشعياء النبي: "بذراعه يجمع الحملان وفي حضنه يحملها ويقود المرضعات" (إشعياء 11:40). وكما سمعت مني حين قلت: أنا هو الراعي الصالح والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف" (يوحنا 11:10).

 

5- معالجة حالة الادعاء بالمحبة، أو المحبة النظرية

قال له ايضًا: يا سمعان بن يونا، أتحبني؟ فأجاب: أنت تعلم يا رب أني أحبك. قال له يسوع: ارع غنمي. إن المحبة النظرية ليست هي المطلوبة، ولكن عليك أن تحبني محبة عملية، بأن ترعى غنمي التي أقتنيها بدمي، وهذا يتطلب إتقان مهنة الرعاية ومعرفة أسرارها. فالراعي يجب أن يكون منكرًا للّذّات الشخصية، يقدم المحبة الوفية والتضحيات الحقيقية. وقد فهم بطرس هذا الدرس الذي كرره الرب عليه.

واستطرادًا أقول: ما أكثر الذين يتعلمون مهنة الصيد وطرح الشباك، من متكلمين على المنابر، وفي الفضائيات، وكتّاب للكتب والمجلات، والبعض منهم يمضي الليل كله ولا يمسك شيئًا لأنهم لا يلقون الشبكة على كلمة الرب. وبعضهم يحاول الصيد في الماء العكر بالمناسبات والنزاعات، وكثيرون كيونان، فقد كان صيادًا ماهرًا، استطاع أن يربح أهل نينوى جميعًا للتوبة بجولة واحدة، ولكنه كان راعيًا فاشلاً جدًا. فقد اغتاظ عندما صفح الله عنهم.

وماذا عني وعنك؟

ليرحمنا الرب. آمين.

المجموعة: حزيران June 2014