حزيران June 2014

Milad Philiposقال أيوب قديمًا: "من يعطيني أن أجده؟"، وقال موسى لله: "أرني مجدك"، وتلهّف اليونانيون لرؤيته فطلبوا من فيلبس: "يا سيد، نريد أن نرى يسوع". وحتى شاول الملك وشعبه معه لما لم يجبه الرب بالرؤى ولا بالأحلام ولا بالأنبياء ولا بالأوريم طلب العرّافات (1صموئيل 1:28). وهذه كانت علامات نهاية ملكه. كما أكد الوحي أنه "بلا رؤية يجمح الشعب"، فالرؤى الإلهية هامة جدًا في أيامنا التي اختلط فيها الغث بالثمين، والادعاء بالرؤى مما يدعو إلى تدخل الجسديات والجسد.

وهكذا يشك الغير في الرؤى الصحيحة. إن الرؤى الروحية دائمًا تتطابق ومشيئة الله، وبموجب كلمته فلا تتعارض والمكتوب، وتقترن بروح الصلاة والتواضع، وتؤول لمجد الله وخلاص النفوس، وتشهد عن حالة روحية عالية في جماعة الرب، ولها ثمرها الروحي لإتمام أغراض إلهية سامية (تثنية 22:18، أعمال 26). وكان إشعياء من هذا الطراز الروحي الذي استطاع أن يتمتّع بمناظر الرب وإعلاناته خلال مدة قيامه بالعمل النبوي إلى ما يزيد عن الستين عامًا.

 

أولًا: رأى الله

الله الممجد في محرابه، والقدوس المسيطر على مصير المسكونة، والمسبَّح من كل الخلائق.     وقد لا يمتّعنا الرب بهذه الرؤى السنية إلا عند وفاة عزّيّا الملك، أكان هذا للتعزية أم كان لإشباع أشواق مقدسة؟ أكانت رؤية خاصة باختبار شخصي أم كانت رؤيا عن مستقبل الخدمة والتفرّغ؟ ذكر تشارلس فني في تاريخ حياته أنه لما خلص وكان في حالة هيام بمحبة المسيح، رآه أمامه عينًا لعين: "فجثوت عند قدميه أبكي بشدة وأسكب قلبي أمامه، ومن تلك الساعة ملأه بالروح القدس ملئًا عجيبًا". لا يعني هذا بالضرورة أن رؤى الرب ينبغي أن تكون بشكل منظور، فهو روح "وطوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله"، "وطوبي للذين آمنوا ولم يروا".

وهنا نفهم معنى كلمة "دين"، في اليونانية "تريسكيا"، في يعقوب 26:1-27 مثلًا. إنها في اليونانية القديمة لا تشير إلى الديانة بل إلى العبادة، لكنها في اليونانية الحديثة تفيد معنى العبادة والديانة، أما في الإنجيل فلا تتضمن نظرة فلسفية أو تصوّرية بل الطريقة التطبيقية التقويّة التي يمارس بها حياة التقوى. إن النص كله يتّجه نحو الإخلاص في العبادة والتديّن الصحيح، فترجمة الكلمة دون ربطها بالنص مشكلة. في اللاتينية تعني هذه الكلمة "ارتباط" بين الإنسان وخالقه، فالعبادة مرتبطة بالديانة عمليًا وبالتعاليم نظريًا.

 

ثانيًا: رأى نفسه

في بداية السفر رأى إشعياء الشعب حوله وبدأ يصب الويلات عليهم، لكن أخيرًا رأى نفسه  "بسمع الأذن قد سمعت عنك أما الآن فقد رأتك عيناي". "في سنة وفاة عزيا الملك"، رأى الله ورأى نفسه. عزّيا باركه الرب فتطاول لكي يقدّم البخور على مذبح الله بدلًا من أولاد هارون المكرسين لخدمة الكهنوت "أما طردتم كهنة الرب بني هارون واللاويين، وعملتم لأنفسكم كهنة كشعوب الأراضي كل من أتى ملأ يده بثور ابن بقر وسبعة كباش صار كاهنًا للذين ليسوا آلهة" (2أخبار 13). لقد امتلأ كثيرون في هذه الأيام بشهادات اللاهوت بلا إيمان أو حياة، وآخرون خدموا مطمعًا في مركز أو سلطة... "فضربه الرب بالبرص حتى وفاته" عبرة لكل المملكة بل ولكل الأجيال. إن الله القدوس لا يقبل أن نعامله بلا احترام. أجل، لقد رأى إشعياء نفسه غير جدير بالاستحقاق، فجاءه ملاك بجمرة من على مذبح المحرقة التي تتكلم عن دينونة الله للخطية وعن قوة دم المسيح المطهرة (لاويين 3:1، 8:6-13، 4:9)، إذ تلتهم النار الذبيحة فواضح أن قداسة الله قد أُرضيت تمامًا ولا يطلب شيئًا آخر من الخاطئ الذي قدّم الذبيحة. إن النعمة ترضي الله، والعدل الإلهي يطالب بالذبيحة (عبرانيين 8).

 

ثالثًا: رأى الملائكة

قد يكون الملاك صاحب إعلان إلهي ليرشد أمثال كرنيليوس إلى بطرس الكارز بخلاص المسيح، أو للتمجيد كما لرعاة الميلاد، أو كالملائكة السبعة الذين حملوا الأبواق لإتمام مقاصد الله في ملكه.  "أليس جميعهم خدامًا للعتيدين أن يرثوا الخلاص؟". ولم يركز هذا النبي نظره على الملائكة بل على السيد الرب.

كان أحد الوعاظ يعظ في بلاد الإنجليز فأبصر يومًا عظيمًا من ذوي النفوذ بين الحاضرين فتقدَّم نحوه وطفق يقول: كم أنا مسرور لمجيئك اليوم لتسمعني، فبادره العظيم بالجواب: لم آتِ لأسمعك بل لأرى المسيح فيك. تحتاج النفس إلى النور المشرق من العلاء الذي ينير كل إنسان. قال المسيح: "أنا هو نور العالم. من يتبعني فلا يمشي في الظلمة". نعم، إن كثيرين لا تحتمل عيونهم رؤية هذا النور لأنهم اعتادوا على الوجود في الظلمة. ليت هؤلاء يأتون إلى الرب فيشرق في قلوبهم بإنارة إنجيل السلام.

 

رابعًا: رأى العالم

"من أُرسل؟ ومن يذهب من أجلنا؟" "هأنذا أرسلني". لقد طلب الملك سنحاريب أن تسلَّم إليه أورشليم، ومرض حزقيا الملك، وهوذا الخراب آتٍ من بابل والتهديدات تتوالى على شعب الله. يا لشقاء أورشليم ويهوذا بسبب إهمالهما الروحي! "وساكن وسط شعب نجس الشفتين أيضًا... ويل لي"! أهي صرخة نبي أم طلب للغفران؟ وهنا يبدأ الله بتعزية أولاده ابتداء من الأصحاح الأربعين. إن التعزية لا تأتي إلا بعد قبول التوبيخ، والعفو لا يأتي إلا بعد المحاكمة (إشعياء 8:6-12). ما أصعبها رسالة!

قال أغسطينوس: إن الكتب المقدسة هي قمّاطات الطفل يسوع، وإذا ما فتحنا لفائف الكتاب فإننا نشاهده فيه. وقال سبرجن: إن يسوع يرعى بين السوسن، والكتاب هو مواطن السوسن حيث نجده هناك وهو يتطلع إلى المرآة التي أعطانا، فإذا نظرنا إلى الكتاب، وجدنا صورته المباركة منعكسة من السماء فنراه في الكلمة فنشبع إلى أن نراه عينًا لعين (إشعياء 6).

المجموعة: حزيران June 2014