الدكتور القس غسان خلفالمحبة والرحمة كلمتان أَساسيَّتان في الكتاب المقدس. يسود استعمال الأُولى في العهد الجديد، والثانية تسود في العهد القديم. وتترادف الكلمتان جزئيًّا ولا تتطابقان كليًّا، وكل منهما له علاقة بالآخر. فالرحمة تتضمن عنصر المحبة، والمحبة تتضمن عنصر الرحمة، ولكن الرحمة لا تحيط إحاطة كاملة بالمحبة ولا تستوعبها، بينما المحبة تحيط بالرحمة وتستوعبها بالكلية. فالرحمة محدودة والمحبة شاملة.

يمكن إدراج الرحمة وتصنيفها تحت باب المحبة، لكن لا يمكن إدراج المحبة تحت باب الرحمة. المحبة هي الينبوع، ويتفرّع منه النعمة، والرحمة، والرأْفة، والرفق، والإحسان. كل واحدة من هذه الصفات تحمل شيئًا من طبيعة ما تفرّعت منه، لكن ولا واحدة منها تستأْثر بكل طبيعة المحبة. المحبة هي الأَصل والرحمة فرع.
وإذا كان ما بين العهد القديم والجديد ارتقاء، فالارتقاء هو من الرحمة إلى المحبة. يوصف الله في العهد القديم بالرحيم (خروج 6:34؛ تثنية 31:4؛ مزمور 15:86؛ يونان 2:4)، أَما في العهد الجديد فجوهره محبة "لأَن الله محبة." (1يوحنا 8:4)
وتختلف الرحمة عن المحبة في مجال العلاقة والتواصل، فلكل منهما سياقه، فالرحمة لا تنسجم مع سياق الصداقة في مجال العلاقات بين البشر، ولا في مجال التعامل بين ذات وأُخرى من ندٍّ إلى ندٍّ، إنما تتوافق الرحمة مع إطار التكرُّم. فالرحمة هي دائمًا في اتجاه منحدر من فوقُ إلى أَسفل. هي دفق إحسانٍ عاطفٌ هابط من الأَعلى نحو الدون، من السيد إلى العبد، من القادر إلى الضعيف، من العالِم إلى الجاهل، من المُستغني إلى المحتاج، من الميسور إلى الفقير، من المملوء إلى الخاوي، ممّن عندَه إلى من ليس عندَه.
لا تعرف الرحمة تواصلاً على المستوى الأُفقيِّ المتكافئ، ولا هذا المستوى الأُفقيُّ يعرفها. هي غريبة إذًا عن دار الصداقة، أَو الحياة الزوجية، أَو العلاقة بين الإخوة. لا تقف الرحمة في حضرة المساواة والتعادل. هي تزدهر في العلاقات العمودية، والطبقية، والرُتْبية، حيث التفاوت والتدرُّج. ويُزهر حول الرحمة أَفعال من مثل: أَنعم على، أَحسن إلى، عطف على، تكرَّم على، رأَف بـ ، تلطَّف على، رقَّ لـ ، تصدَّق على. الرحمة دائمًا تنظر من فوقُ وتمُنُّ على من هم تحتُ. يرحمُ السيدُ العبدَ ولا يرحمُ العبدُ السيدَ. يرحمُ الأَعلى الأَدنى، ولا يرحم الأَدنى الأَعلى.
ونسأَل عن الرحمة في مجال العلاقة بين الله والإنسان؟ ونجيب بأَنها تسير في النهج الذي أَرسيناه. ففي مجال الرحمة أَو على مستواها، الله هو الأَعلى والإنسان هو الأَدنى. الله ينعم على الإنسان بالوجود، وبالفداء، وبالخلاص. ينشل الله بواسع رحمته البشرية الهابطة إلى الجحيم ويرفعها إلى النعيم. يَرزُق اللهُ الإنسانَ حاجتَه. الله يعتني بالإنسان. الله يُسكِن الإنسانَ الفردوسَ. يمنحُ اللهُ الإنسانَ الحياةَ الأَبدية.
ونسأَل من جهة الإنسان:
هل يستطيع الإنسانُ أَن يفعل لله بالمقابل ما فعل الله لأَجله؟
الجواب البديهي: لا! فالله هو الراحم، والإنسان هو المرحوم. يستطيع الله أَن يرحم الإنسان، ولا يستطيع الإنسانُ أَن يرحم الله. إذًا، العلاقة بين الله والإنسان في مجال الرحمة هي علاقة باتجاه واحد، من فوقُ إلى تحت، هي سكة وطريق باتجاه واحد، ولا يمكن السير فيها باتجاهين نزولاً وصعودًا.
أَمَّا المحبة، في هذا المضمار، فهي على نقيض الرحمة. صحيح أَن الرحمة تُنتج النعمة، والرأْفة، والعناية، ولكنَّ المصدرَ الأَول لهذه جميعها هو المحبة. خزَّان المحبة هو الذي يدفق مياه الرحمة. ليست الرحمة ما يحرك المحبة، إنما المحبة هي ما تحرك الرحمة. وبالتالي، لا يبقينا الله في مجال العلاقة به على مستوى الجداول والفروع، بل يرفعنا إليه لنكون على مستوى الينبوع.
إن مستوى العلاقة بين ذات وأُخرى في مجال المحبة، أَرقى ممَّا يكونه في مجال الرحمة. لذلك يريد الله علاقة به لا تستمر في مجال الرحمة، بل ترتقي إلى مجال المحبة. الله شخصٌ - ذاتٌ، ويرغب في علاقة على مستوى الشخص - الذات، مع الإنسان. والإنسان المخلوق على صورة الله، هو شخصٌ - ذاتٌ، ويرغب في علاقة على هذا المستوى مع الله. إن أَية محاولة لإقامة علاقة على مستوى الشخص - الذات، بين الله والإنسان، أَو بين الإنسان وأَخيه الإنسان على أَساس الرحمة ستنهار، وكل محاولة من هذا النوع تنجح إذا كان أَساسُها المحبة.
أَقول ذلك، لأَن الرحمة تسير باتجاه واحد من فوقُ إلى تحت، أَمَّا المحبة فتسير في اتجاهين في آن معًا. من فوقُ إلى تحت ومن تحت إلى فوق. في الرحمة يرحم الله الإنسانَ ولا يرحمُه الإنسانُ، ولكن في المحبة يحب الله الإنسانَ ويحبُّه الإنسانُ. يقول الله: أُحبكَ أَيها الإنسانُ؛ ويجيبه الإنسانُ: وأَنا أُحبكَ، يا الله! الرحمة تؤكد الفوقية، المحبة تؤكد المساواة. الرحمة تؤكد العلاقة بين خالق ومخلوق. والمحبة تؤكد العلاقة بين فاد ومُفتَدى. الرحمة تؤكد العلاقة بين الأَسياد والعبيد (متى 32:18-33)، والمحبة تؤكد العلاقة بين الأَصدقاء، "ودعي (إبراهيم) خليلَ الله." (إشعياء 8:41؛ يعقوب 23:2)
قال الرب يسوع: "لا أَعود أُسمِّيكم عبيدًا، لأَن العبد لا يعلم ما يعمل سيدُه؛ لكنِّي قد سمَّيتكم أَحباءَ، لأَني أَعلمتكم بكل ما سمعته من أَبي." (يوحنا 15:15) إن المسيحَ، بناء على هذا القول، يريد أَن يؤسس علاقة بتلاميذه على مستوى المحبة. إن العلاقة على مستوى المحبة بين الله والإنسان، لا تلغي سيادةَ الله وكونَه خالقَ الإنسان ومُعيلَه، لكنها تفتح فرصة لعلاقة حميمةٍ أَكثرَ عمقًا وفرادةً بين الذات الإلهية والذات الإنسانية مما لو كانت مقتصرةً فقط على الرحمة.
وهذا يقودنا إلى امتياز البنوَّة في المسيح. قال يسوع: لا يبقى العبد في البيت إلى الأَبد، أَمَّا الابن فيبقى (يوحنا 35:8). تحكم الشريعة العلاقة بين الله والإنسان في العهد القديم، ولا تحكم الشريعة العلاقة بين الله وشعبه المُفتدى في العهد الجديد، بل النعمة. جاء في العهد القديم على لسان نحميا: نحن عبيد الله (نحميا 20:2)، أَما في العهد الجديد فجاء على لسان يوحنا: "انظروا أَية محبة أَعطانا الآب حتى نُدعى أَولاد الله، وهكذا نحن... الآن نحن أَولاد الله ولم يُظهَر بعد ماذا سنكون. ولكن نعلم أَنه إذا أُظهِر نكون مثله لأَننا سنراه كما هو." (1يوحنا 1:3-2)
قال الرسول بولس: "ولكن لما جاء ملء الزمان، أَرسل الله ابنه مولودًا من امرأَة، مولودًا تحت الناموس، ليفتدي الذين تحت الناموس، لننال التبني. ثم بما أَنكم أَبناء، أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم هاتفًا: آبا، الله أَبي. إذًا، لستَ بعد عبدًا بل ابنًا، وإن كنتَ ابنًا فوارث لله في المسيح." (غلاطية 5:4-7) في هذا الكلام تأْكيد على أَن المحبة، كعلاقة، تسمو في مجالها على الرحمة، والمقارنة بين العهد القديم والجديد، توضح أَن الرحمة تقترن بالعبودية والمحبة بالبنوية.
وثمة سؤال يفرض نفسه هنا: ما التأْثير الذي تُنتجه المحبةُ وفلسفتُها على الشعوب والمجتمعات التي تعتنقها، وكذلك ما تأْثير الرحمةِ وفلسفتِها على من يعتنقها؟ وكلنا يعلم ما للوجدان الديني من تأْثير على البشر وحياتهم الاجتماعية والسياسية.
لنبدأْ بالرحمة وفلسفتِها، فحيث تسود هذه يكثر الطغاةُ والنظمُ الدكتاتورية، وتقل الحرية والمساواة بين الناس. فمنطق الرحمة أَن تُقبَّلَ اليدُ، ومنطق المحبة أَن يُقبَّلَ الوجهُ. في هذا الجوّ الذي تخلقه فلسفة الرحمة تنتشر روح التسيُّد والعبودية، ويكون الناس إمَّا حاكمين أَو محكومين. يُفقَد الشعور بأَن الإنسان هو سيد نفسه، وأَن رفيقه في المُواطنة هو شريكه. في هكذا مجتمعات، لا يَقبلُ الواحدُ الآخرَ ندًّا له. والأَسوأُ، حين تظهر أَمراض الطبقية في الكنيسة من عدوى المجتمع حولها. لبُّ الحكمة القولُ: إن الأَرض أَمام الله مستوية.
وحيث تسود المحبة وفلسفتُها يزدهر الإخاء، والمساواة، والحرية بين البشر. تنعكس المحبة القائمة بين الله والإنسان على العلاقة بين الإنسان وأَخيه الإنسان. تتوفر كرامة كل إنسان لأَنه معترف به كحبيب وصديق، لا كوسيلة، وعبد، وأَداة استغلال. يشرق اللهُ سبحانه شمسه على الأَشرار والصالحين، ويمطر على الأَبرار والآثمين (متى 43:5-48).
وفي الكنيسة فإن الذين اعتمدوا بالمسيح لبسوا المسيح. ليس يهودي ولا يوناني، ليس عبد ولا حر، ليس ذكر وأُنثى، لأَنكم جميعًا واحد في المسيح (غلاطية 27:3-28)، وليس عند الله محاباة (رومية 11:2، أعمال 34:10).
خميرة الكلام: لنخرج من إطار فلسفة الرحمة، وما فيها من روح فوقية-دونية، وندخل في إطار فلسفة المحبة، حيث الله حبيبي، وحيث كل مؤمن بيسوع هو حبيبي وأَخي في الإيمان، وكل إنسان آخر هو حبيبي وأَخي في الإنسانية.

المجموعة: آب (أغسطس) 2015