لماذا انقلبت الأعمدة؟مُذ خلق الله الإنسان الأول على كوكب الأرض، وزوّده بالقدرة على الإنجاب والتكاثر، رتّب له بحكمته الأزلية ضوابط ومرتكزات، تضمن بشكل رئيسي إتمام مشيئته الصالحة في خليقته، وتنظّم بالتالي مسالك أفراد هذه الخليقة التي ميّزها عن خلائقه الأخرى، بحيث يسلك هؤلاء في سبل الحق والخير والصلاح، في تعاملهم مع الخالق بالدرجة الأولى، ومن ثم في تعامل بعضهم مع البعض الآخر، بما يحقق النتائج المرجوّة من وجودهم، بحسب نور المعرفة ووعي الضمير اللذين منحهما لهم الله منذ البداية بالإضافة إلى إعلانات الوصايا الإلهية التي جعلها الله لهم أعمدة راسخة يرتكز عليها وجودهم وسلامهم.

وكان سقوط أبوينا الأولين في خطية العصيان رهيبًا في نهجه، مريعًا في نتائجه. فقد فتح الباب واسعًا أمام الأنسال المتوالية، للتوجّه نحو الاستقلالية عن الخالق، والاستغناء عن إرشاداته الحكيمة، وإنذاراته القيّمة، وهذا ما يعبّر عنه روحيًا بـ "وراثة الطبيعة الفاسدة" حيث صاروا يستخدمون أقدس عطايا الله الأزلية وهباته الثمينة، كالحرية والمعرفة والإبداع للإمعان في المعصية والرفض لكل ما هو صالح ومستقيم في نظر الله. حتى تحوّل هذا الرفض إلى رفض كامل لسلطان الله وسيادته ولله نفسه في نهاية المطاف. وقد كان ذلك بسبب الانصياع لإرادة "روح الشر" الذي طفق يزرع في نفوس بني البشر بذور الشك في صلاح المقاصد الإلهية والكبرياء والتمرّد على سلطان الله وسيادته لكي يسقطهم من رحمته كما سقط هو نفسه قبل ذلك. وهكذا صار الكثيرون يقلبون أعمدة الحكمة الإلهية الصالحة، ليقيموا بدلاً منها أعمدة بشرية واهية سرعان ما تنهار فتدمّر مقوّمات بقائهم وسلامهم.
ولنتأمل في بعض هذه الأعمدة وأهمّها:

1- عمود المحبة لله والخضوع لسلطانه

حيث أوصى قائلاً: "فَتُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كُلِّ قُوَّتِكَ." (تثنية 5:6) ولقد ظنّ الكثيرون في أجيال مختلفة – كما تعلنه بعض معتقداتهم الخاطئة – أن الله أقام هذا العمود لكونه إلهًا أنانيًا، خلق الإنسان لكي يستعبده في رفع شأنه، وتعظيم ذاته. بينما نعلم من كلمة الله أن مقاصده أسمى من ذلك بكثير، فهو قد خلق الإنسان بدافع حبّه السامي، وأراد له أن يحيا تحت مظلة رحمته، لكي يتمتّع بأبوّته الصالحة ويكون في مأمن من الابتعاد عن مهاوي الخيبة والخذلان، حيث يقول الرب: "ومحبة أبدية أحببتك، من أجل ذلك أدمت لك الرحمة." (إرميا 3:31)
ويصف أيوب كيف قلب أهل زمانه هذا العمود بقوله: "فَيَقُولُونَ ِللهِ: ابْعُدْ عَنَّا، وَبِمَعْرِفَةِ طُرُقِكَ لاَ نُسَرُّ. مَنْ هُوَ الْقَدِيرُ حَتَّى نَعْبُدَهُ؟ وَمَاذَا نَنْتَفِعُ إِنِ الْتَمَسْنَاهُ؟" (أيوب 14:21-15) ألا ترون معي أن التاريخ ما برح يعيد نفسه أيضًا؟

2- عمود العلاقات الأخوية

لقد أوصى الله أيضًا بمحبة القريب: "تحب قريبك كنفسك." (لاويين 18:19) وقد جعل المسيح، له المجد، هذه الآية مرادفة لآية المحبة لله وتأتي بعدها مباشرة في سلّم الأولوية، موضحًا أبعاد هذه العلاقة وذلك بقوله الكريم: "سمعتم أنه قيل للقدماء: تحب قريبك (وتبغض عدوّك)" – وهذه العبارة الأخيرة غير مذكورة نصًا ولكن اليهود فهموها ضمنًا بالمقابلة مع كلمة قريبك – "سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ، لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ." (متى 43:5-45) أي لتكن هذه خطتكم في الحياة نحو جميع إخوتكم في البشرية كما هي خطة الله – ولكن هذا العمود ينقلب حيث يحاول البعض أو يوائم بين فكر الله الصالح وأفكار الحقد والبغضاء والكراهية وعدم قبول الآخر.
ولكن الطبيعة نفسها تعلّمنا أن هذا المسعى هو من صنوف المحال، وكل عاقل مدرك يفهم مقدار الفرق واتساع البعد بين هذين التوجهين.

3- عمود السلّم الاجتماعي

لقد أوصى الله القدوس قائلاً - بالمطلق - "لا تقتل"، وهو بهذا يعبّر عن رفضه التام والقاطع لاعتداء الإنسان على أخيه الإنسان - فالخالق هو معطي الروح وله وحده الحق بأخذها - وقد وسّع المسيح "له المجد" مفهوم القتل لكي يشمل أسبابه الكامنة في القلوب، بقوله: "قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَقْتُلْ، وَمَنْ قَتَلَ يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلاً يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ، وَمَنْ قَالَ لأَخِيهِ: رَقَا (أي تافه)، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْمَجْمَعِ (أي العقاب)، وَمَنْ قَالَ: يَا أَحْمَقُ، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ نَارِ جَهَنَّمَ." (متى 21:5-22) فهو بهذا القول الرائع يحافظ على قدسية الحياة، ويقيم السلم الاجتماعي، ويرفع قيمة وكرامة النفس البشرية. أما في المقلب الآخر فإننا نجد الشرائع الأرضية وقد ألبسها الشيطان لبوس التشريع الذي هو من فوق، ولكنه بالحقيقة صادر من أعماق الجحيم، لأن تشريعات كهذه تطعن في صلاح الله، وقدسية مقاصده، وعظمة حبّه لخليقته، لأنها تصوّره إلهًا ظالمًا حقودًا فاقدًا لمشاعر الحب والرحمة.

4- عمود العدالة الإنسانية والأممية

إننا نشهد يومًا بعد يوم أن أعمدة العدالة والمساواة سواء منها الأممية أو الدولية أو الشعبية لا تنقلب فحسب ولكنها تنهار وتتفتّت. فمنظمات هذا العالم الأممية أو المحلية أصبحت منظمات لحقوق الأقوياء، ولواجبات الضعفاء. وعلى قدر ما تزداد صيحات المفكرين والأدباء، وعلماء الاجتماع، والسياسيين رافعة شعارات العدل والمساواة، فإننا نجد النتائج العملية عكسية تمامًا بحيث تصبح تلك الشعارات فارغة من مضمونها ولا معنى لها. تقول كلمة الله: "لأَنَّهُ حِينَمَا تَكُونُ أَحْكَامُكَ فِي الأَرْضِ يَتَعَلَّمُ سُكَّانُ الْمَسْكُونَةِ الْعَدْلَ. يُرْحَمُ الْمُنَافِقُ وَلاَ يَتَعَلَّمُ الْعَدْلَ. فِي أَرْضِ الاسْتِقَامَةِ يَصْنَعُ شَرًّا وَلاَ يَرَى جَلاَلَ الرَّبِّ." (إشعياء 9:26-10) وتشير النبوة إلى السيد المسيح قائلة: " اِبْتَهِجِي جِدًّا يَا ابْنَةَ صِهْيَوْنَ، اهْتِفِي يَا بِنْتَ أُورُشَلِيمَ. هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِي إِلَيْكِ. هُوَ عَادِلٌ وَمَنْصُورٌ وَدِيعٌ، وَرَاكِبٌ عَلَى حِمَارٍ وَعَلَى جَحْشٍ ابْنِ أَتَانٍ." (زكريا 9:9) وقد تمّت هذ النبوّة حرفيًا بدخول المسيح "الملك الآتي" إلى مدينة أورشليم في مجيئه الأول، وبدون عمل روح المسيح في القلوب لا تستطيع أن تمارس العدالة أو أن تعيشها، ولذلك فقد انقلبت أعمدة العدل لدى الذين رفضوا سيادة المسيح على قلوبهم.

5- عمود الحرية والكرامة الإنسانية

لقد خلق الله الإنسان حرًّا ومتّعه بالقدرة على التفكير، والتصميم والعمل، وتلك الحرية شغلت عقول وأذهان الفلاسفة والمفكرين في جميع الأجيال. فالفيلسوف الألماني Immanuel Kant الذي يعتبر أحد أعظم الفلاسفة في جميع العصور، قامت فلسفته على ثلاث موضوعات:
1) موضوعة وجود الله.
2) موضوعة خلود النفس.
3) موضوعة الحرية. فقد اعتبر أن الحرية هي الركيزة التي تقوم عليها جميع المبادئ الأدبية ولا قيمة لأي فكر أو معتقد أو عمل ما لم يصدر عن إرادة حرة من أي مؤثر خارجي. ولكننا نرى أن هذه الحرية تغتصب بشدة حتى في أيامنا هذه ونحن في مطلع القرن الحادي والعشرين للميلاد - وعلى جميع المستويات - حيث نرى أن الفئات الحاكمة تحاول إرغام الآخرين على اعتناق أفكارها السياسية كما تحاول المجتمعات المتديّنة اغتصاب حريات الذين يخالفونها الرأي أو المعتقد. فأية كرامة تبقى للمرء بعد مصادرة حريته في أن يفكر أو يؤمن بما يشاء؟ لقد أطلق الله لعباده كامل الحرية كما نقرأ في نص الكتاب المقدس: "أُشْهِدُ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ. قَدْ جَعَلْتُ قُدَّامَكَ الْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ. الْبَرَكَةَ وَاللَّعْنَةَ. فَاخْتَرِ الْحَيَاةَ لِكَيْ تَحْيَا أَنْتَ وَنَسْلُكَ." (تثنية 19:30)
فمن هو الإنسان - والحالة هذه - الذي له الحق بتنصيب نفسه قيّمًا على عباد الله بدلاً من الله نفسه؟ فلقد انهار عمود الحرية بشكل مريع! في مثل تلك الحالات المخيفة يسأل داود الملك قائلاً: "إذا انقلبت الأعمدة فالصدّيق ماذا يفعل؟" (مزمور 3:11). ونجد جوابًا من الرب لهذا التساؤل: "هَلُمَّ يَا شَعْبِي ادْخُلْ مَخَادِعَكَ، وَأَغْلِقْ أَبْوَابَكَ خَلْفَكَ. اخْتَبِئْ نَحْوَ لُحَيْظَةٍ حَتَّى يَعْبُرَ الْغَضَبُ. لأَنَّهُ هُوَذَا الرَّبُّ يَخْرُجُ مِنْ مَكَانِهِ لِيُعَاقِبَ إِثْمَ سُكَّانِ الأَرْضِ فِيهِمْ." (إشعياء 20:26-21)
وقد وضّح الرب يسوع هذه الآيات حين قال: "وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَلَّيْتَ فَادْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ وَأَغْلِقْ بَابَكَ، وَصَلِّ إِلَى أَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً." (متى 6:6)
وما يعزينا هو أنه رغم انقلاب الكثير من الأعمدة الأدبية في أيامنا هذه فإن أبانا السماوي حيّ يرى ويسمع ويطالب، وهو الذي يستجيب لصلوات أولاده الذين يصلون لأجل سلام واطمئنان هذا العالم، وهو يحفظهم تحت مظلة رحمته السرمدية حتى مجيء رئيس السلام الذي سيغيّر شكل هذا العالم البائس. فهل تنتظر هذا المجيء المبارك؟

المجموعة: آب (أغسطس) 2015