MunirFaragallaكثيرًا ما أقف أمام يسوع محتارًا مذهولاً وأنا أتابع ما كتبه البشيرون عنه في بشائرهم! أراه حينًا رقيقًا حنونًا متعاطفًا، ثم أراه حينًا آخر حازمًا قويًا عنيفًا. وأظن أن الكثيرين منكم يتفقون معي في ذلك.


وأنا لا أقصد بالرقة ما يصوّره بعض الرسامين والكتّاب ومنتجي الأفلام، وهم يبالغون في التعبير عن قداسته وتقواه وطهارته، فيجعلونه يبدو رخوًا ضعيفًا ناعمًا، حتى ألوانه تبدو شاحبة باهتة فاتحة. نظراته تائهة ومقلتاه متجهتان إلى أعلى، حركاته وتحركاته بطيئة كليلة زاحفة كأنه يسبح في الفضاء. صور ساذجة زائفة غير حقيقية، فقد جاء يسوع المسيح إلى عالمنا ليعيش إنسانًا مثلنا، جاء "ابن الإنسان". رقته وحنانه وتعاطفه كانت دائمًا إيجابية فعالة نشطة تتفاعل مع الناس وتبادر إلى معونتهم.
نراه مثلًا وهو يقترب من موكب جنازة ابن أرملة نايين، وهو ينظر إلى الأم الثكلى وهي منحنية تحت ثقل مأساتها، فيتحنن عليها ثم يتحرك نحو النعش ويمد يده ويلمسه فيقف حاملوه. يقترب أكثر وينادي بقوة وقدرة وسلطان:
- أيها الشاب، لك أقول قم...
حنان وتعاطف إيجابي فعال أقام الشاب من الموت ودفعه إلى أحضان أمه.

ونراه مرة أخرى وهو وسط الجماهير خارج أريحا وأعميين جالسين على الطريق يصرخان ويطلبان منه أن يرحمهما. رغم اعتراض الجمع ومحاولة إسكاتهما، سمعهما ووقف واتجه نحوهما وسألهما باهتمام ماذا يريدان.
- يا سيد أن تفتح أعيننا.
أدرك احتياجهما وقوة إيمانهما فتحنن وتقدّم ولمس أعينهما فأبصرا.

وحين أتى إليه الأبرص وجثا أمامه وقال:
- إن أردت تقدر أن تطهرني.
مست الكلمات البسيطة الصادقة عواطف يسوع، فتحنن ومدّ يده نحوه ولمسه وقال بكل جدية واهتمام وإعجاب:
- أريد فاطهر.

ولما التقى بمريم خارج بيت عنيا ورآها ترتمي تحت رجليه وتقول بكلمات متحشرجة تنزف عتابًا وألمًا ويأسًا:
- لو كنت ههنا لم يمت أخي!
وينزعج يسوع بالروح ويضطرب ويسأل وهو يتحرك إلى الأمام:
- أين وضعتموه؟
- يا سيد، تعال وانظر.
وذهب إلى القبر، ولما رأى دموع مريم ومن حولها تجمّعت في عينيه كل مشاعر الحنان وسالت دموعًا... بكى يسوع... وتقدم في عزم وصرخ بقوة وصوت عظيم، ودوت صرخته في الفضاء، وهزت جدران المغارة:
- لعازر. هلمّ خارجًا!
خرج لعازر من القبر حيًا صحيحًا بعد أن كان في القبر أربعة أيام.
وغير ذلك من المواقف التي تظهر مشاعر الحنان والرحمة والعطف الإيجابية.

لكنه في ذات الوقت كان حازمًا حاسمًا صارمًا في مواجهة أي انحراف عن الحق والعدل دون هوادة أو مهادنة.
دعاه سمعان الفريسي إلى العشاء في بيته مع بعض أصدقائه، وبينما هو متكئ يتناول الطعام، اقتحمت المكان امرأة خاطئة كانت معروفة في المدينة. تلفتت تبحث عنه، ولما رأته أسرعت إلى حيث كان متكئًا ووقفت عند قدميه، وأخذت تبكي بحرقة، وانهمرت دموعها غزيرة وبلّت قدميه. فكّت غطاء رأسها، وحلّت ضفائر شعرها، وأخذت تجفّف قدميه المبتلتين بالدموع بخصلات شعرها وتقبلهما. ثم أخرجت من ملابسها قارورة طيب دهنت به قدميه. استمرت في ذلك بعض الوقت والمتكئون يشاهدون ما تفعل في صمت. لم يكن يُسمع في القاعة غير صوت بكائها وشهيقها. رغم صمتهم كان داخلهم يصخب بتعليقات وانتقادات واعتراضات. سمعان كان يقول في نفسه:
- لو كان هذا نبيًا لعلم من هذه المرأة التي تلمسه وما هي! إنها خاطئة!
ورغم أنه لم ينطق بما يختلج داخله، عرف يسوع وسمع فقال له:
- يا سمعان، عندي شيء أقوله لك: كان لمداين مديونان، على الواحد خمسمئة دينار وعلى الآخر خمسون. وإذ لم يكن لهما ما يوفيان سامحهما. أيهما يكون أكثر حبًا له؟
- أظنّ الذي سامحه بالأكثر.
- بالصواب حكمت.
والتفت إلى المرأة ثم إليه وقال له بكلمات حادة كالسيف كيف أنه دخل بيته ولم يعطه ماء لغسل رجليه، أما هي فقد غسلت رجليه بالدموع ومسحتهما بشعر رأسها. قبلة لم يقبله، أما هي فلم تكف عن تقبيل رجليه. زيت لم يدهن رأسه، أما هي فقد دهنت بالطيب رجليه. واعتدل يسوع وواجه سمعان أمام كل المتكئين وقال:
- قد غفرت خطاياها الكثيرة، لأنها أحبت كثيرًا، والذي يُغفر له قليل يحب قليلاً.
وللمرأة قال:
- مغفورة لكِ خطاياك. إيمانك قد خلصك. اذهبي بسلام.
لم يجامل يسوع أو يمالئ مضيفه كما تقتضي التقاليد المألوفة في ذلك الوقت وكل وقت. واجهه علنًا وبحزم دون اعتبار لما يمكن أن يظن الموجودون به.
أخطأ سمعان وواجهه يسوع بخطئه أمام الجميع دون مواراة وقارن بوضوح بينه وهو الفريسي وبين المرأة الخاطئة.

كان وديعًا متواضع القلب... وكان حازمًا حاسمًا في الحق!
تنبأ عنه إشعياء النبي في 1:42-4 "هُوَذَا عَبْدِي الَّذِي أَعْضُدُهُ، مُخْتَارِي الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي. وَضَعْتُ رُوحِي عَلَيْهِ فَيُخْرِجُ الْحَقَّ لِلأُمَمِ. لاَ يَصِيحُ وَلاَ يَرْفَعُ وَلاَ يُسْمِعُ فِي الشَّارِعِ صَوْتَهُ. قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لاَ يَقْصِفُ، وَفَتِيلَةً خَامِدَةً لاَ يُطْفِئُ. إِلَى الأَمَانِ يُخْرِجُ الْحَقَّ لاَ يَكِلُّ وَلاَ يَنْكَسِرُ حَتَّى يَضَعَ الْحَقَّ فِي الأَرْضِ، وَتَنْتَظِرُ الْجَزَائِرُ شَرِيعَتَهُ".

المجموعة: شباط (فبراير) 2015