الدكتور القس منيس عبد النور"وإن مات، يتكلم بعد!" (عبرانيين 4:11)
نعم، ما زال وسيظل يتكلم بأعماله وأقواله ومشورته، وسيظل تعليمه وحكمته تنبض في عقولنا وقلوبنا. فكل من تعامل معه رأى نور المسيح يسطع من شهاداته وخدمته وتضحيته لمن فداه وخلّصه ودعاه إلى حقله للخدمة المباركة. وقد ارتأينا أن ننقل إليكم هذه الرسالة التي كتبها قبل انتقاله للمجد!

تبدو هذه المعجزة غريبة علينا، فقد تعوّدنا أن نرى المسيح يشفي المريض، ويقيم الميت، أما في هذه المعجزة فنراه يلعن شجرة تين غير مثمرة (مرقس 11:11-26؛ متى 18:21-22).
يمكن أن نتعلم كثيرًا من هذه المعجزة لحياتنا الروحية بالنسبة لتوقعات الرب منا، فلا نعتمد على محبته اعتمادًا يدفعنا لنستسلم إلى اللامبالاة في سلوكنا الإيماني. صحيح أنه إله المحبة والغفران، لكنه أيضًا القاضي والديّان العادل!
أعطى الله هذه التينة كل إمكانيات الإثمار، وتجاوبت الشجرة فقدّمت الورق الأخضر، وهذا يجعل الناظر إليها يتوقّع أن يجد فيها ثمرًا، فجاءها المسيح ينتظر منها أن تعطيه ما وعدته به، ولكنه لم يجد فيها إلا ورقًا فقط.
جرت هذه المعجزة في يوم الاثنين من أسبوع الآلام، ونذكر أن يوم الأحد الذي سبقه كان يوم دخول المسيح الانتصاري إلى أورشليم عندما طهّر الهيكل. لقد كان الهيكل جميلاً في منظره ومبانيه، وعامرًا بالعابدين المقبلين على تقديم ذبائحهم وعشورهم للرب. لكن بالرغم من هذا المنظر الخارجي الظاهري، لم تكن فيه عبادة بالروح والحق! فكان المسيح عنيفًا مع الباعة، طردهم وقلب موائد الصيارفة وكراسي باعة الحمام قائلاً: "مَكْتُوبٌ: بَيْتِي بَيْتَ الصَّلاَةِ يُدْعَى. وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ." (متى 13:21)
وفي اليوم التالي مرّ المسيح بتلك الشجرة المورقة، التي تشبه الهيكل العامر بالعبادة ولكن بلا روح. كانت الشجرة عامرة بالخضرة خالية من الثمر! وكما أعلن المسيح الدينونة على الهيكل إذ قال: إنه لا يُترك فيه حجرٌ على حجرٍ لا يُنقض، وتمّ قوله بالفعل، هكذا حدث مع التينة التي أدانها، فيبست في الحال.
كان الأتقياء اليهود يجلسون تحت أشجار التين يتعبّدون ويتأملون كلمات الله، هكذا جلس نثنائيل (يوحنا 48:1)، فكان منظر شجرة التين يوحي بالتقوى والتعبّد. ولكن التينة التي لعنها المسيح أظهرت عكس هذا المعنى.
كذلك ترمز التينة للسلام والوفرة، وترمز التينة أيضًا للأمة الإسرائيلية. كان الرب ينتظر من تينته أن تكون مثمرة لسائر الشعوب، لكن الأمة الإسرائيلية اكتفت بمظهر العبادة دون روح العبادة، فتركهم واتّجه إلى الأمم التي تصنع أثماره.
ونجد في حدث لعن شجرة التين أربعة دروس نحتاجها نحن اليوم:

عدم الفائدة يجلب الخراب

بالرغم من أن التينة كانت مورقة، وكانت تحتل مكانًا من الأرض، وتأخذ من التربة عصارة، لكنها لم تعطِ ما يُنتظر منها: أن تصنع ثمرًا. فكان عدم فائدتها سببًا في يبَسها.
لقد أوجدنا الله في الأرض لنأتي بثمر: "لأننا نحن عمله، مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة..." (أفسس 10:2) لقد كنا أمواتًا بالذنوب والخطايا فأحيانا المسيح وأقامنا من موت خطيتنا، وأجلسنا معه في السماويات لنثمر، ويجيء المسيح إلينا ليفتش عن ثمرنا، وعن النور الذي فينا: هل هو نور حقيقي أو ظلام؟ ويسألنا عن الفائدة التي ترجع منًا لملكوته وعلى العالم. لذلك يجب أن نبرّر وجودنا، بأن نكون نافعين للمحيطين بنا.

النفاق يجلب الدينونة

أعطت الشجرة صورة الثمر التي تمثّلت في الورق الأخضر، ولكنها لم تحمل ثمرًا، وبهذا أصبحت رمزًا للرياء والنفاق.
كان يمكن أن يكون الزعيم الهندي غاندي مسيحيًا، فقد كان في مطلع حياته في جنوب أفريقيا يصلي في كنيسة. وكانت الكنيسة التي حضرها في جنوب أفريقيا أشبه بنادٍ يجتمع فيه الناس للاستمتاع بأنفسهم وبأصدقائهم، بغير رسالة خلاص وبغير اهتمام بالآخرين. وعندما درس في إنجلترا كان يذهب إلى الكنيسة بانتظام. ويومًا ما جاءه المشرف على النظام وطلب منه أن ينتقل ليجلس في مكان خاص بذوي البشرة الداكنة... بعدها صرح غاندي: "لولا المسيحيين لصرت مسيحيًا." ولو صار غاندي مسيحيًا لكان ذا تأثير على الهند كلها، ولكنه احتكّ بمسيحيين يشبهون التينة غير المثمرة.
قال المسيح: "كل غصن فيّ لا يأتي بثمر ينزعه، وكل ما يأتي بثمر ينقّيه ليأتي بثمر أكثر... اثبتوا فيّ وأنا فيكم." (يوحنا 2:15، 6)
تحدث الرسول يهوذا عن "غيوم بلا ماء." (يهوذا 12) فما فائدة الغيمة إن لم تمطر لتُخرج الأرض ثمرًا؟ إنها تكون منافقة، تُعطي الأمل في هطول المطر... "لك اسم أنك حيّ وأنت ميت." (رؤيا 1:3) له اسم وصورة، لكنه في حقيقة الأمر خالٍ من الحياة، مظهر بلا جوهر.

محاولة ستر الذات

لما أخطأ أبوانا الأولان في جنة عدن، خاطا أوراق تين وصنعا لهما مآزر (تكوين 7:3). من المستحيل لتلك الأوراق المعرّضة للجفاف أن تسترهما. وفتح الله أعينهما ليدركا أنهما محتاجان إلى ثوب الخلاص "وصنع الرب الإله لآدم وامرأته أقمصة من جلد وألبسهما." (تكوين 21:3) إن الستر بأقمصة من الجلد (أي من ذبيحة كفارية حيوانية) جاء بالوعد القائل: إن نسل المرأة يسحق رأس الحية (تكوين 15:3). فالمسيح بذبيحة نفسه أوجد لنا فداء أبديًا، لما مات البار من أجل الأثمة. فنرى في محاولتهما سَتر نفسيهما بورق التين محاولة بشرية فاشلة تمامًا.

الصلاة الفعالة

يقول البشير متى: "عندما رأى التلاميذ ذلك تعجّبوا قائلين: كيف يبست التينة في الحال؟ فأجاب يسوع: الحق أقول لكم إن كان لكم إيمان ولا تشكّون، فلا تفعلون أمر التينة فقط. بل إن قلتم أيضًا لهذا الجبل انتقل وانطرح في البحر، فيكون." (متى 20:21-21) وهذه الآية لها مكانة خاصة في تاريخ المسيحيين المصريين، ففي عهد الدولة الفاطمية أخبر يهوديٌّ الخليفة العزيز بالله الفاطمي عن هذه الآية، فاستدعى العزيز بالله البطريرك الأرثوذكسي وطلب منه أن يُثبت صحة إنجيله بأن ينقل جبل المقطّم... وبعد صوم وصلاة انتقل الجبل، الأمر الذي كان له أكبر الأثر في حياة رجال الدولة الفاطمية.
فليكن لنا بنعمة المسيح حياة الصلاة العميقة المستجابة، التي لا تتوقّف. فالصلاة الفعّالة تزيل جبال المعطلات، وتساعدنا لنعمل عمل الله، وتجعلنا نقبل نعمته فنتغيّر، وتمنحنا قوة لنحتمل كل الصعاب مهما كانت.

المسيح والمعجزة

وُجّهت إلى المسيح انتقادات بسبب لعن التينة:
كيف انتظر المسيح من شجرة التين تينًا، مع أنه لم يكن وقت التين؟ (مرقس 13:11)
والإجابة: إن ذلك كان وقت "باكورة التين" وهي ثمار أصغر حجمًا من الثمرة الناضجة، كثيرة الحلاوة، ولكن لم توجد تلك الثمار الصغيرة التي طلبها المسيح.
لماذا لعن المسيح التينة ولم يعطها فرصة لتثمر؟
الإجابة: نحن لا ندرك ظروف تلك الشجرة؟ لا بد أن المسيح عرف أنها نالت نصيبها من طول الأناة ولذلك أصدر حُكمه باللعن. نعلم أن الشجرة لا تشعر بالألم عندما تيبس. إن هذه التينة لم تكن مملوكة لأحد فيُضار صاحبها في حالة يَبَسها، لأنها كانت في الطريق. فالمسيح بهذه المعجزة لم يؤذِ أحدًا، ولكنه ألقى علينا درسًا في إدانة النفاق، ولنركز على:
قوة المسيح: أحيانًا نتعوّد على معجزات المسيح معنا، ولكننا نحتاج أن نتعلّم الانبهار بها كلما رأينا قوة الله بيننا.
عدالة المسيح: استحقّت التينة غير المثمرة اللعنة. هذا عدل المسيح الذي أتاح لها فرصتها.
دعونا نطلب من الله أن يجعلنا مثمرين، وأن تكون أناته علينا سببًا في دفعنا لنثمر، وليزيد ثمرنا.
صلاة: أبانا السماوي، نشكرك لأنك زوّدتنا بكل ما يمكن أن يجعلنا مثمرين. سامحنا على ضعفنا الذي يفشل في تحقيق انتظارك منّا. ضع يدك الكريمة على ما يُعطّل إزهارنا فإثمارنا، وأعطنا القوة لننزعه فنثمر، ويزيد ثمرنا ويستمر، باسم المسيح، آمين.

المجموعة: شباط (فبراير) 2016