الأخت أدما حبيبي

ما هي القيمة الحقيقية للأشياء؟ ساعة بـ ثلاثمئة دولار أم ساعة بثلاثة آلاف دولار هي الأفضل؟ بالطبع الجواب واضح أليس كذلك؟ فالأعلى سعرًا هو ذو القيمة النفيسة. لكن ما هو الفرق في النتائج؟

 

أعني أليست الساعة التي هي بـ 300 دولار تنبئك بالوقت تمامًا كما تشير إليك الساعة التي هي بـ 3000 دولار؟ أم أن التوقيت يتغيّر؟ بالطبع لا. ثم ماذا لو عشنا في مسكن مساحته 300 مترًا أو 3000 مترًا مربعًا، فهل يؤثر ذلك على مستوى الشعور بالوحدة يا ترى؟ أليست النتيجة واحدة؟ جاءت هذه الأمثلة في مقولة قصيرة تحت عنوان: أقوال خلَّدها التاريخ، قرأتها في صفحة التواصل الاجتماعي.  ويقول ناقل القول: "وفي النهاية لسوف ندرك أنَّ السعادة لا تتيسَّر في الأِشياء المادية! فسواء ركبتَ مقعد الدرجة الأولى في الطائرة أو الدرجة السياحية الثانية فإنَّك ستصل لوجهتِك في الوقت المحدد." ويختم القول: لذلك لا تحثُّوا أولادكم أن يكونوا أغنياء بل علِّموهم كيف يكونوا سعداء، وعندما يكبرون سينظرون إلى قيمة الأشياء لا إلى ثمنها." 

هذه خلاصة حكيمة بالفعل وقيِّمة. لكن هل يطبِّقها الكثيرون أم القليلون؟ من خلال زياراتي أنا وزوجي المتعددة التي قمنا بها في Bay area في شمالي كاليفورنيا، بِحُكْم علاقاتنا وارتباطها بخدمتنا، قابلنا أشخاصًا عديدين تركوا بصماتهم في قلوبنا، والأثرَ الطيِّب في نفوسنا حتى بات من الصعب جدًا أن ننساهم ما دمنا أحياء.  من بين هؤلاء زوجان متقدِّمان في السن الآن. هو طبيب جرّاح وهي رئيسة الممرضات في غرفة العمليات. هذان الزوجان (جون ومي) لم تبرحْ قصة حياتهما من فكري. إذ قيل عنهما ما يلي: بعض الزيجات تبدأ في السماء حين يجمع الله بين قلبين فيهما من الحب الكثير والأهداف السامية التي تلتقي مع خطة الله ودعوته له في حياتهما. جون ومي التقيا في المستشفى حين كان يقوم جون بالتمرين في حقل الجراحة العامة، ومي كانت ترأس الممرضات في غرفة العمليات الجراحية. وسرعان ما اكتشفا حبهما الواحد للآخر، وكذلك انجذابهما كليهما إلى العمل المُرسلي وخدمة الرب خاصةً بعد أن زار Dr. Lionel Gurney مدرسة الطب تلك في محاولة منه لتجنيد أو تطويع أطباء شباب من أجل الخدمة الإرسالية. وDr. Lionel Gurney كان المؤسس لإرسالية البحر الأحمر Red Sea Mission في العام 1952، وشعار هذه الإرسالية هو: "المسلمون يجب أن يسمعوا". تأثر جون ومي بحماس هذا الطبيب جدًا ونمت فيهما الرغبة الشديدة للخدمة، حتى صارت فيما بعد جزءًا هامًا من حياتهما الطويلة معًا، وبالأخص هذه الإرسالية بالذات إرسالية البحر الأحمر التي تغيَّر اسمُها فيما بعد إلى Reach Across الوصول إلى العَبْر."

لم تتوقف قصة هذا الزوجان هنا، بل كانت هي البداية، إذ بعد أن استقرّا مع عائلتهما انتميا إلى كنيسة Valley Church في Sunnyvale وكانت آنئذ كنيسة حديثة العهد يتمحور منهاجها حول العمل المرسَلي والكرازة بالإنجيل للخليقة كلها. وكان نفس الطبيب Lionel يزور هذه الكنيسة ويتكلم من على منبرها، ويقيم في بيتهما هو والعديد من المرسلين وخدام الرب. وهكذا أُتيحت الفرصة لأولادهما الخمسة الاطلاع على قصص كثيرة من الكتاب المقدس على فمه، وعلى اختباراته المتنوعة في الوصول إلى النفوس المحتاجة. كما راح يخبرهم عن الحاجة الماسَّة التي عليهم أن يلبّوها حالما يكبرون في تبليغ البشارة إلى غير المسيحيين. 

ومع مرور السنوات، كان جون ومي يذهبان إلى بلاد مختلفة في العالم ليملآ مكان شخصٍ مرسل مسافر أو خادم يحتاج إلى العودة إلى بلده لفترة من الزمن. وكانت مهارة الطبيب جون في الجراحة وكذا اختصاص مي بالتمريض، مصدرا ترحيب بهما دائمًا في أي مكان ذهبا إليه. لم يذهب الزوجان معًا فحسب، بل في بعض الرحلات الطبية أخذا أولادهما معهما في رحلة إلى المكسيك وجمهورية الدومينيكان. وهذه الرحلات القصيرة حرَّكت قلوبهم الغضَّة الطريَّة لتصبح مثقلةً فيما بعد بخدمة النفوس الضالة. وعندما كبُرت الفتياتُ الثلاث وأصبحن مراهقات رافقن والديهما جون ومي في رحلة لمدة خمسة وأربعين يومًا إلى أفريقيا فتركت هذه الرحلة أثرها العميق في حياتهن، إذ رأينَ بأمِّ أعينهنَّ الفقر المدقع، والأمراض المختلفة المنتشرة، وكذا الأمّية والجهل، كما شاهدن آلام الناس المهمَّشين في قلب المجتمع الأفريقي. فدرست آن البنتُ الكبرى التمريض لاحقًا متتبعةً مثال والدتها مي، وحصلت على شهادة القابلة القانونية لكي تذهب فيما بعد مع زوجها وتخدم في مجتمع صعبٍ وغريب عنها في بلاد اليمن السعيد كما كانت تلقَّب. 

نعم، إن الأولاد الخمسة، شابين وثلاث فتيات، يتذكَّرون جميعًا ذلك الطبيب المرسل الذي كان يزورهم في بيتهم ويحدِّثهم عن البلدان المحتاجة إلى رسالة الإنجيل والبشارة المفرحة. وعليه فهُم يعتبرونه جدَّهم الروحي الذي زرع فيهم هذه البذرة الحية. إذ كان يقول لهم بعد أن يخبرهم عن اختباراته في تلك البلدان البعيدة: يومًا ما سترافقونني إلى هناك. أو كان يقول: متى ستذهبون وتعملون في خدمة السيد؟ أما جون ومي فلقد منحا أولادهما الخمسة كلَّ الفرص لكي يذهبوا ويخبروا بالبشارة السارة.  وشجَّعاهم بأن يذهبوا إلى حقل الخدمة بأنفسهم ويروا الخدام الآخرين وهم يقومون بتقديم الرسالة إلى الناس ويشاركونهم في احتياجاتهم وسدِّ رمقهم. لقد كانت لهذه الرحلات القصيرة الأثر الفعال في حياة كلٍّ منهم، إذ جعلت أولادهم الخمسة يتخذون القرار الحاسم بأنفسهم ولأنفسهم في هذا المنحى في حياتهم فيما بعد. 

أما الابن الأكبر John Junior فلقد تبع مثال والده هو الآخر فدرس الطبّ وتخرَّج في حقل الجراحة وتزوج من شابة مؤمنة طبيبة للأطفال. وذهبا معًا يخدمان السيد في إحدى المستشفيات المعروفة في أحد البلدان غير المسيحية. تاركَيْن وراءهما حياة الرفاهية والترف في أميركا. وسعيا كلاهما لكي يصلا إلى النفوس التي تخفي وراء أجسادها المريضة تعبًا وهمًّا وقلقًا لا ينتهي وحياةً لا تعرف استقرارًا ولا سلامًا. أما باقي الأولاد فلبَّى الواحد منهم بعد الآخر دعوة المسيح في المأمورية العظمى للسيد المسيح حين قال: اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها.  وذهب كلُّ واحد وواحدة من هؤلاء الأولاد الخمسة ليعملوا في اختصاصاتهم المتنوعة بين التعليم والتطبيب والتوليد تاركين وراءهم الغنى والمال والجاه والمركز، غير عابئين بمال العالم ولا بمادياته الزائلة. سافروا مع أزواجهم وزوجاتهم عبر البحار حاملين معهم رسالة الأمل والرجاء إلى عالمٍ فاقدٍ له، عالمٍ يغوص في الظلام يومًا بعد يوم، عالم يحتاج إلى نور الإنجيل الذي يشع في القلب والضمير. نعم، هذه هي قصة الزوجين المميّزيْن الَّلذين صارا في سن الشيخوخة الآن، وأصبحا أجدادًا كبارًا. إن جون ومي لا يزالان يصليان، ويدعمان، ويشجعان أولادهما الخمسة وأحفادهما وأولاد أحفادهما. 

كان من الممكن أن يبقى أولادهما هنا في بلاد الترف والرخاء والعيش الكريم، لكنّهم فضَّلوا جميعًا أن يكنزوا لهم كنوزًا في السماء. " فالسماء تفرح بخاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين لا يحتاجون إلى توبة." فهل نزرع في قلوب أولادنا هذه القيم الروحية لأنَّها وحدها الباقية وذات أبعاد أبدية؟ هذا هو الهدف الأسمى والأرقى في حياة فانيةٍ زائلة، الهدف الأبعد والأعمق والأفضل. وهل نحن مستعدون أن نخرج من دائرة الأمان التي أحطنا بها أنفسنا لنصل إلى قلوب كئيبة، مضلَّلة، تجهل معنى الحرية الحقيقية؟ قال الرب يسوع: "إن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحرارًا." 

فالسعادة يا قارئي، كما قلنا في البداية، ليست هي بالماديات أو المقتنيات أو الممتلكات لأنها كلها أمور ثانوية في نظر الله الآب الذي ومن فرط محبته أرسل الابن الوحيد الرب يسوع المسيح الذي بدوره أخلى نفسه من أجلنا نحن البشر. نعم، من له أذنان للسمع فليسمع، وكذا من له عيون فليقرأ ويتمتَّع بهذه الحقائق الثمينة.

المجموعة: آب (أغسطس) 2016