Voice of Preaching the Gospel

vopg

لكي نقول عن شخص ما إنه ثائر عظيم، يتحتم علينا أن نفحصه من ثلاثة زوايا. وقد تناول الكاتب في الحلقة الماضية أثره في التاريخ ونوعية ثورويته. أما في هذه الحلقة الأخيرة فيبحث الكاتب نوعية شخصيته، هل هي شخصية ثوروية؟ بمعنى، هل هو قائد وقدوة، وهل هو صاحب شخصية قيادية ترفض الخنوع والاستسلام للأوضاع الخاطئة، وقادرة على إحداث التغيير، أم هو شخصية عادية خدمتها الظروف، أو شخصية انتهازية صعدت على أكتاف غيرها؟ فتعال معي لنتابع تطبيق هذه المعايير على المسيح.


هل كانت شخصية المسيح شخصية ثوروية؟!

هل يقال عن الحمل الذي ارتبط اسمه في الأذهان بالرقة والحنان، أنه ثورويًا؟!

هل يمكن أن يكون ثورويًا صاحب التعاليم السامية، والتي يساء فهمها، كقوله: "من لطمك على خدك الأيمن فحوّل له الآخر أيضًا"؟

هل يمكن أن يكون ثورويًا من قال عنه أبو الثورة الفرنسية جان جاك روسو: "عندما يصف أفلاطون الإنسان المثالي الكامل الذي يستحق أسمى جوائز الفضيلة، فإنه يصف بالضبط شخصية يسوع المسيح"؟

أقول بملء الفم: نعم، وألف نعم! كان سيدي المسيح ذا شخصية ثوروية، أحبها وأفخر بها، بل وأراه أعظم ثائر عرفه التاريخ. وإليك غيض من فيض ما يؤكد ثورويته.

    لم تسجل الأناجيل إلا قصة واحدة عن مرحلة طفولته، كتبها لوقا الطبيب عنه، تصفه وهو في الثانية عشر من عمره (لوقا 41:2-52). هذه القصة الوحيدة تكشف عن شخصية مستقلة لدرجة لا يتصوّرها عقل؛ استقلال يمكّنه من الاستغناء عن أهله وهو طفل لمدة ثلاثة أيام - دون أدنى قلق أو انزعاج - قضاها في بلد بعيد ووسط أناس غرباء هم جمع من الشيوخ والمعلمين يناقشهم ويحاورهم دون أدنى وجل حتى أبهرهم! كانت هذه الاستقلالية المبهرة هي منبع شخصيته الثوروية التي غيّرت التاريخ. والعجيب أن هذا الاستقلال الكبير، امتزج بخضوع راقٍ وبديع، سواء للسلطة السماوية الإلهية بقوله لأمه: "أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي مَا لأَبِي؟" أو للسلطة الأرضية الأسروية عندما قال عنه لوقا: "نزل معهما... وكان خاضعًا لهما!" هذا الخليط البديع من الاستقلالية والخضوع لم يظهرا إلا في شخصه الفريد. وكان هو منبع ثورته الفريدة التي تُغيِّر دون أن تُخرِّب، هذا لأنها تثور وتخضع في آن واحد!
    عندما خرج لخدمته الجهارية بين الناس، بدأها بعمل ثوري كبير - عندما أعلن توحّده مع جموع التائبين وقبوله لمعمودية يوحنا (متى 3)؛ تلك المعمودية التي لم تقبلها السلطة الدينية آنذاك بكافة طوائفها من رؤساء كهنة وفريسيين وناموسيين - ليعلن مبكرًا جدًا، بل ومن اليوم الأول في خدمته، الصدام الجهاري مع السلطة الدينية بكافة مؤسساتها. لقد كان صدامًا صامدًا استمر كل أيامه، وكلّفه سبع محاولات لاغتياله، نجحوا في آخرها. (متى 13:2؛ يوحنا 30:7؛ 59:8؛ 31:10 و39؛ 10:11 و53؛ 17:19-18).
    كشفت أول زيارة له للهيكل بعد خروجه للخدمة الجهارية (يوحنا 12:2-17) عن شخصية ثوروية لا تحتاج إلى اجتهاد لاكتشافها. فبمجرد وصوله للهيكل ورؤيته لما يجري فيه من كذب، وزيف، وخداع، وتجارة بالدين؛ صنع سوطًا من حبال وابتدأ يطرد الباعة والتجار المدعومين بقوة من رؤساء الكهنة، وقلّب موائد الصيارفة. فطهر الهيكل دون أن يؤذي أحدًا. وكرر نفس الفعل في آخر زيارة له بعد أكثر من ثلاث سنوات (لوقا 45:19). أي لم تضعف ثوروية شخصيته ولم تلنْ بمرور السنين على الرغم من المصادمات.
    أما مسألة اختياره الدائم والمتعمد ليوم السبت ليصنع فيه معجزات رحمة وشفاء - التي بسببها تقلّب عليه جموع المرائين الأغبياء، وتزايد حنق المتشدقين بالدين - كانت ولم تزل تثير حيرتي، وتزيد من إعجابي وانبهاري بشخصيته الثوروية. لقد كان مصرًا على أن يصدمهم بخبطات موجعة على رؤوسهم - لعلها تعود وتعمل فتفكر - بعد أن نامت كثيرًا على وسادة التقاليد الأبوية المتسخة، وبعد أن تعطّنت شخصياتهم في جو البحث عن الذات الرطب والعفن.
    وهل تحتاج شخصيته الثوروية إلى إشارة أو توضيح وأنت تسمعه يرد على من قال له: اخرج واذهب من ههنا لأن هيرودس يريد أن يقتلك، فيجيب بالقول: "امْضُوا وَقُولُوا لِهذَا الثَّعْلَبِ: هَا أَنَا أُخْرِجُ شَيَاطِينَ، وَأَشْفِي الْيَوْمَ وَغَدًا، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ أُكَمَّلُ" (لوقا 31:13- 33).
    وكما ظهرت ثورويته في رده على هيرودس في الجليل، ظهرت أيضًا في رده على تلاميذه من جهة اليهودية. لقد كان خارجًا لتوّه من محاولة اغتيال في اليهودية (يوحنا 10)، ومع هذا قرر الذهاب إلى اليهودية ثانية ليقيم لعازر من الموت، وهو يعلم مسبقًا موقف اليهود الحالي منه، وما ستتمخض عنه إقامة لعازر من ضجة ستجعل اليهود يقررون نهائيًا قتله، دونما أي توان أو إبطاء، بل وقتل لعازر معه! قال له عندئذ تلاميذه: يا معلم، الآن كان اليهود يطلبون أن يرجموك وتذهب أيضًا إلى هناك؟ فأجابهم بهذا القول البديع: "أليست ساعات النهار اثنتي عشرة. إن كان أحد يمشي في النهار لا يعثر لأنه ينظر نور هذا العالم. ولكن إن كان أحد يمشي في الليل يعثر لأن النور ليس فيه" (يوحنا 11: 8-10).
    أما قمة ثورويته فقد كانت في يوم صلبه. وما أكثر مشاهدها؛ سواء في اعترافه الحسن أمام المجمع الديني الرهيب المكوّن من جميع رؤساء الكهنة والشيوخ والكتبة، الاعتراف الذي جعل رئيس الكهنة يشق ثيابه، معلنًا دون أن يدري نهاية كهنوته طبقًا للشريعة. أو اعترافه أمام بيلاطس البنطي، والذي ألقمه حجرًا، وأسكته أبدًا، عندما قال له: "أَمَا تُكَلِّمُنِي؟ أَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّ لِي سُلْطَانًا أَنْ أَصْلِبَكَ وَسُلْطَانًا أَنْ أُطْلِقَكَ؟ أَجَابَ يَسُوعُ: لَمْ يَكُنْ لَكَ عَلَيَّ سُلْطَانٌ الْبَتَّةَ، لَوْ لَمْ تَكُنْ قَدْ أُعْطِيتَ مِنْ فَوْقُ. لِذلِكَ الَّذِي أَسْلَمَنِي إِلَيْكَ لَهُ خَطِيَّةٌ أَعْظَمُ" (يوحنا 10:19-11).

هذه الأمثلة مجرد نذر قليل يكشف بوضوح عن شخصية ثوروية، هي أبعد ما تكون عن الخنوع. لقد كان بحق ثائرًا صنديدًا لم يتراجع قط عن قضيته والتي كلفته في النهاية حياته.

وقبل أن أترك هذه الحزمة من الأدلة على ثوروية شخصيته، أقول إنه من الناحية الأخلاقية، إذا قبلنا بما يُجمع عليه مؤرخي العالم ومفكريه الأفذاذ، مثل وليم ليكي وفيليب شاف وروسو وغيرهم، على أن المسيح هو المثال الأكمل للفضيلة، فإنه من المحتم أن يكون المسيح ثورويًا. لأن الثوروية، من وجهة نظري، وكما نتعلم من التاريخ، هي فضيلة تفسد لغيابها النفوس والمجتمعات. بل وكانت هي دائمًا وراء كل محاولة إصلاح. طالما كانت بالطبع لغرض نبيل وليست لمجرد التمرد والعصيان. وبالتالي ليس من المقبول غيابها عن من قيل عنه "هو الفضيلة متجسدة".

في النهاية أتوقف عند عينة من أقواله التي يساء فهمها لعمقها وبلاغتها... أقوال أراها في منتهى الثوروية، بينما البعض يفهمها على أنها تعلم الخنوع والاستسلام.

"سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: عَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَاتْرُكْ لَهُ الرِّدَاءَ أَيْضًا" (متى 5: 38-42).

في إيجاز سريع أقول: لم يقصد المسيح أبدًا المعنى الحرفي لسببين:

أولاً: لقد استخدم اللغة المجازية كثيرًا في هذه العظة مثل قلع العين إن اعثرت صاحبها، وبالطبع لم يكن يقصد القلع الحرفي على الإطلاق.

والثاني: إنه لم يطبّق هذا النص حرفيًا عندما تعرض له. ما كان الرب يريد أن يقوله هو: وأنتم ماضون في طريقكم لفعل الخير وتمجيد الله - كملح للأرض وكنور للعالم - سيقاومكم الأشرار ويخاصمونكم. فاحذروا عندئذ من خدعة العدو أن يجركم لمقاومة الشر، أو للانشغال بقضايا شخصية تافهة، فتنصرفوا عن قضيتكم الكبرى ورسالتكم العظيمة. كونوا على استعداد للمثابرة والصمود مهما كانت التكلفة. فإن لطموكم على خدكم الأيمن استمروا في طريقكم معلنين استعدادكم لمزيد من اللطمات. وإن أرادوا تعطيلكم بأخذ ثوبكم فاتركوا لهم الرداء أيضًا ولا تتوقّفوا عن ركضكم! أليست هذه منتهى الثوروية؟!

"سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ".

إذا سالمنا من يسالمنا فأي فضل لنا؟ إننا سنكون مجرد "مفعول به" أظهر "رد فعل" لا "فاعل" يفعل شيئًا! وإذا عادينا من يعادينا فقد استسلمنا للضعف الطبيعي المخزي والذي أفسد العالم وجعله بحرًا من البغضة والعار. لكن القوة الحقيقية هي في هذا الإصرار الثوروي المقدس على التغيير، تغيير البيئة التي نعيش فيها. فإن عاداني الضعيف وأبغضني سأحبه وأصلي من أجله فأكسر دائرة البغضة الجهنمية وأطفئ نيران الكراهية الكئيبة.

أليست هذه منتهى الثوروية؟

logo

دورة مجانية للدروس بالمراسلة

فرصة نادرة تمكنك من دراسة حياة السيد المسيح، ودراسة حياة ورسائل بولس الرسول. عندما تنتهي من هاتين الدراستين تكون قد أكملت دراسة معظم أسفار العهد الجديد. تتألف كل سلسلة من ثلاثين درسًا. تُمنح في نهاية كل منها شهادة خاصة. للمباشرة بالدراسة، أضغط على خانة الاشتراك واملأ البيانات. 

صوت الكرازة بالإنجيل

Voice of Preaching the Gospel
PO Box 15013
Colorado Springs, CO 80935
Email: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
Fax & Tel: (719) 574-6075

عدد الزوار حاليا

109 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

إحصاءات

عدد الزيارات
10557660