لو لم تُفصح النبوات عن جميع التفاصيل الدقيقة لحياة الرب يسوع المسيح خلال فترة تجسده، لما استطاع كثيرون أن يتعرفوا عليه ويؤمنوا به. لأن فصول تلك المدة القصيرة من الزمن التي قضاها المخلّص على الأرض اشتملت على أعظم الأعمال وأجلّها. لكن كيف احتُقر شخص كهذا الكائن السماوي المتنازل لكي يعيش بين الناس حاملاً لهم أعظم أشكال المحبة، والتضحية، والحكمة، بكل تواضع وصبر وطول أناة؟ ولماذا رُفض وأُهين وظُلم من بني شعبه "بحسب الجسد" الذين جاء لكي ينقذهم فطلبوا أن يهلكوه؟!!

 

عرّفه الكتاب بأنه مشتهى كل الدهور، الذي عاش مرفوضًا من أهل الشر والفساد والفجور. لا لعيب فيه بل بسبب رياء المتمسكين بالتقاليد البالية المزيفة، وأصحاب الغيرة الكاذبة على رموز تديّنهم وتقواهم الظاهرية المقيتة!

"أَلَيْسَ هذَا هُوَ النَّجَّارَ ابْنَ مَرْيَمَ، وَأَخُو يَعْقُوبَ وَيُوسِي وَيَهُوذَا وَسِمْعَانَ؟ أَوَلَيْسَتْ أَخَوَاتُهُ ههُنَا عِنْدَنَا؟" (مرقس 3:6)؟ هذه العبارات قالها باستهتار واحتقار أهل الناصرة، المدينة التي تربّى فيها يسوع، وذلك عندما كان "يُعَلِّمُ فِي الْمَجْمَعِ. وَكَثِيرُونَ إِذْ سَمِعُوا بُهِتُوا قَائِلِينَ: مِنْ أَيْنَ لِهذَا هذِهِ؟ وَمَا هذِهِ الْحِكْمَةُ الَّتِي أُعْطِيَتْ لَهُ حَتَّى تَجْرِيَ عَلَى يَدَيْهِ قُوَّاتٌ مِثْلُ هذِهِ؟" وللأسف الشديد، فإن مثل هذه الأقوال ما زالت تترَدّد على لسان كثيرين حتى يومنا هذا، وبكل صلف وازدراء!! فقد أعمت الخطية بصائر الكثيرين، وأغلق الشر أذهانهم، وقسّت أهواء الجسد قلوبهم، لكي لا يؤمنوا به ولا يسيروا في طريقه المستقيم، فلا يدركوا خلاصه ولا عطايا نعمته الغنية، وغفرانه الكريم.

وكما كان الأمر بالنسبة للسيد المسيح هكذا كان بالنسبة للمنطقة التي عاش فيها أغلب أيام تجسده، فقد كانت محتقرة في نظر اليهود كما قالت عنها النبوة: "كَمَا أَهَانَ الزَّمَانُ الأَوَلُ أَرْضَ زَبُولُونَ وَأَرْضَ نَفْتَالِي" (إشعياء 10:9). وقد خصّوا بهذه الإهانة مدينة الناصرة التي نُسب إليها يسوع. فحين كلم فيلبس نثنائيل قائلاً: "وَجَدْنَا الَّذِي كَتَبَ عَنْهُ مُوسَى فِي النَّامُوسِ وَالأَنْبِيَاءُ يَسُوعَ ابْنَ يُوسُفَ الَّذِي مِنَ النَّاصِرَةِ. فَقَالَ لَهُ نَثَنَائِيلُ: أَمِنَ النَّاصِرَةِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ صَالِحٌ؟ قَالَ لَهُ فِيلُبُّسُ: تَعَالَ وَانْظُرْ" (يوحنا 45:1-46).

 

"أليس هذا هو النجار؟"

1- لقد عرفوا لقبه وحرفته

فنطقوا بتلك العبارة احتقارًا لأن أصحاب الحِرف كانوا محتقرين في عرف ذلك الزمان. ولكن من المعروف اليوم أن هؤلاء قد أسهموا إسهامًا كبيرًا في تقدم البشرية.

وكما مر في مطلع هذا المقال فقد أُعجبوا بأقواله، كما يعجب بها كثيرون فيرددونها كأمثال في الحكمة المأثورة. فنحن نسمع غير المؤمنين بالمسيح، وحتى الذين يعادونه، يرددون هذه الأقوال: "وَكَمَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ افْعَلُوا أَنْتُمْ أَيْضًا بِهِمْ هكَذَا". و "مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟". "أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا للهِ للهِ"، وهي عبارات خالدة في جلال مقاصدها الهادفة إلى تكوين جيل يعرف خالقه ويسير في رضاه.

وقد انذهلوا من أعماله، كما هو حال البعض في أيامنا الذين يذكرون كيف طهّر الأبرص، وشفى الكسيح، وابرأ السقيم، وفتح أعين العميان، وأقام الموتى، وأشبع الألوف من طعام زهيد، وسكّن العواصف والأمواج! وهم لا يدركون أن هذه الأعمال ليست بمقدور بني البشر!!

 

2- لقد عرفوا نسبه وعشيرته الأرضية ولم يعرفوا أصله السماوي

إذ حبلت به العذراء المباركة بالروح القدس، بدون زرع بشر، فوُلد خاليًا من الميل الموروث للخطية، طاهرًا قدوسًا في الجسد الذي اتخذه نقيًا، كي يقدمه ذبيحة طاهرة مقبولة لدى الله الآب، للتكفير عن خطايا بني البشر العاجزين عن فداء نفوسهم وتخليصها.

 

3- تعجبوا من حكمته ولم يعرفوا مصدره

"من أين لهذا هذه؟" غير مدركين أن كل إناء ينضح بما فيه... فالأشخاص الأرضيون يتكلمون بحكمة من هذه الأرض، لا يستطيعون تجاوزها... أما الذي من السماء فهو يتكلم بحكمة السماء. لقد عرف يوحنا المعمدان هذه الحقيقة بإرشاد الروح القدس فقال عنه:

"يَنْبَغِي أَنَّ ذلِكَ يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ. اَلَّذِي يَأْتِي مِنْ فَوْقُ هُوَ فَوْقَ الْجَمِيعِ، وَالَّذِي مِنَ الأَرْضِ هُوَ أَرْضِيٌّ، وَمِنَ الأَرْضِ يَتَكَلَّمُ" (يوحنا 30:3-31).

فلا نظنّن أنفسنا نكرم المسيح حينما نعجب بأقواله كما نعجب بأقوال غيره من فلاسفة وحكماء الأرض، بل نحن نوجّه عندئذ إهانة كبرى لمكانة الكلام الذي نطق به روح الله القدوس في شخص المسيح المتجسد. لكن المطلوب هو أن نطيع أوامره بكل إجلال وإكرام، وننفذ مقاصده حبًا دون إكراه وإرغام.

 

4- لم يعرفوا مصدر قدرته وسلطانه

"وَمَا هذِهِ الْحِكْمَةُ الَّتِي أُعْطِيَتْ لَهُ حَتَّى تَجْرِيَ عَلَى يَدَيْهِ قُوَّاتٌ مِثْلُ هذِهِ؟". أليس السؤال نفسه يدين سائليه؟ فإن الأعمال العظيمة والعجائب الباهرة قام بها يسوع بقدرته الذاتية وبسلطان لاهوته، فقال للبحر والموج: "اهدأ. ابكمْ". وقال للأبرص: "أريد فاطهر".

وقال للعازر الميت الذي كان جسده قد بدأ بالتحلل في قبره بعد أربعة أيام من موته: "لِعَازَرُ، هَلُمَّ خَارِجًا! فَخَرَجَ الْمَيْتُ وَيَدَاهُ وَرِجْلاَهُ مَرْبُوطَاتٌ...".

رغم ذلك لم يؤمن به الذين رأوه وسمعوه، وقد قال، له المجد، لأحد تلاميذه عندما ظهرت آياته، وهي قيامته من بين الأموات بعد ثلاثة أيام: "لأَنَّكَ رَأَيْتَنِي يَا تُومَا آمَنْتَ! طُوبَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَرَوْا". وذلك بعد أن رأى آثار الصلب فهتف: "ربي وإلهي" وسجد له.

 

5- لم يعرفوا مقدار حبه وحنانه

رغم أنه قرأ على مسامعهم النبوة المكتوبة عنه: "رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ ولِلْعُمْيِ بِالْبَصَرِ، وَأُرْسِلَ الْمُنْسَحِقِينَ فِي الْحُرِّيَّةِ، وَأَكْرِزَ بِسَنَةِ الرَّبِّ الْمَقْبُولَةِ" (لوقا 18:4-19). وقد توقف عند تلك العبارة الأخيرة دون إتمام قراءة النبوة كما جاءت في إشعياء 1:61-2 فلم يقرأ عبارة "وبيوم انتقام لإلهنا"، إذ أن مضمونها مؤجل إلى يوم النقمة في مجيئه الثاني. ولذا فقد قال لهم في ذلك الحين: "إِنَّهُ الْيَوْمَ قَدْ تَمَّ هذَا الْمَكْتُوبُ فِي مَسَامِعِكُمْ". فمَن غير المسيح استطاع أن يدّعي أنه جاء إلى العالم ليحقق مثل تلك الأهداف بحب ليس له مثيل؟!

 

6- ولم يدركوا عطايا نعمته

حيث جاء إلى أرضنا الملوثة بالخطية، وهو القدوس البار، فعاش بين الناس الخطاة الأردياء، الذين أهانوه واحتقروه وافتروا عليه شتى الافتراءات، فبذل ذاته محتملاً كل أنواع الآلام النفسية والجسدية ومات مصلوبًا لكي يفدي الخطاة، ويصالحهم مع الله الآب، بعد أن وفّى مطاليب العدل الإلهي. ولكنهم رفضوه ورذلوا كل مبادرات نعمته الغنية المخلّصة، "وتعجب من عدم إيمانهم".

 

7- وقد فاتتهم فرصة خلاصه التي ضاعت إلى الأبد

فقد أصروا بكل عناد على أن يعرفوه "كنجار الجليل" رغم كل الإعلانات الواضحة من أقواله وأعماله، ونبوات الأنبياء، التي قيلت عنه بأنه "عمانوئيل" الذي تفسيره "الله معنا". لقد عرفه الذين فتح روح الرب بصائرهم وأنار عقولهم، فتكلموا عنه موضحين حقيقة ذلك الشخص العجيب، وعرّفوه بكل ما يستحقه من الإكرام والعبادة. فهذا يوحنا البشير يكتب في مقدمة بشارته 1:1-34 معرّفًا إياه كالكلمة الأزلي الذي هو الله الذي تجسد "وحلّ بيننا ورأينا مجده". وها هو بطرس يصرّح: "أنت هو المسيح ابن الله الحي" (متى 17:16). وها بولس الرسول يهتف من أعماقه: "وَبِالإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ، تَبَرَّرَ فِي الرُّوحِ، تَرَاءَى لِمَلاَئِكَةٍ، كُرِزَ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، أُومِنَ بِهِ فِي الْعَالَمِ، رُفِعَ فِي الْمَجْدِ" (1تيموثاوس 16:3).

عزيزي القارئ، ثق بأن خلاص نفسك الثمينة جدير بأن يحثك لكي تبحث عنه وتعرفه على حقيقته كحمل الله الذي يرفع خطية العالم؛ عمانوئيل الذي تفسيره "الله معنا"، لكي تتمتع بغفرانه وخلاصه الأبدي، والرب معك.

المجموعة: 201106