"حياتي دموع، وقلبٌ وَلوع، وشوقٌ وديوانُ شعرٍ وعُودْ.

حياتي، حياتي أسىً كلُّها إذا ما تلاشى غدًا ظلُّها، سيبقى على الأرض منه صدىً،

هنا مُنشِدا:

حياتي دموع، وقلبٌ وَلوع وشوقٌ وديوانُ شعرٍ وَعُود."

هذا الشعر للشاعرة الفلسطينية المعروفة فدوى طوقان، وجَّهَ نظري إلى لغة الدموع التي يَندُرُ التكلمُ عنها إلى حدِّ التنكُّر لها في أحيانٍ كثيرة. لكن، هل فكّرنا مرةً في لغةِ الدموع يا ترى؟ هذه اللغةُ الحسَّاسة المرهفة التي لها من القوة والتأثير ما لقوةِ الكلمة المدوَّنة أيضًا من فعالية؟


 

 

هذا التعبيرُ الصامتُ لحشرجاتِ القلب واختلاجِ الوجدان، هذا التعبيرُ الفطري عندما تعجزُ الكلمات وحينما تنبَهِرُ حنايا الإنسان من أحداثِ الحياة الجِسام!! فتَحُلُّ لغةُ التواصلِ الجديدة المرئية مكانَ التفوُّه ببَناتِ الشَّفَة، وهكذا تتدفَّقُ الأحاسيسُ لتأخذَ شكل العَبَرات وتنطلق من محاجرِ العيون وتنساب على الخدين مِدرارًا، وهي تفيض كالينبوع بالعواطف الجياشة، علَّها تشفي القلبَ الجريح من جرّاء موقفٍ حزين أليم، أو عساها تُشعِرُ صاحبَها بقمَّة النشوةِ والارتياح، في موقفٍ آخرَ بهيج.

نعم، إنَّها لغةُ التخاطب الجديدة، لغة الدموع التي طالما تعلَّمنا منذُ صِغَرنا بأنَّها لا يمكنُ أن تجدَ طريقَها إلى محاجرِ الرجال، لأنَّ الرجلَ قويٌّ كالصخر ومن غير المقبول أن يبكي. فدموعُ الرجال عزيزةٌ ونادرة، لأنَّ البكاء ليس للرجال والدموع هي للضعيف. بل إنَّ لغةَ الدموع هي مقتصرة على النساء والنساء فقط. فالمرأة مختصة بها، لأنَّ دمعتَها سخيَّةٌ، وهي أبدًا جاهزةٌ للانهمار في كلِّ الأوقات وكذا في كل المناسبات. أليستْ عواطفُ المرأة جيَّاشة؟! أليست هي مرهفةَ الأحاسيس وسريعةَ الانفعال؟! إزاءَ أفراحِ وأتراح الحياة سَواء؟!

لكنَّ ما تعلَّمناه في الصغر يا إخوتي ليس هو الحقيقة في كل حال. لأنَّه من غير الممكن ألاَّ يبكي الإنسان ومهما كان! قاسيًا ظالمًا طاغيًا وكائنًا مَن كان. لأنَّ مخلوقات الله التي تمتازُ بالوعي والإدراك لا بد أن تعبر عمَّا في دواخلها من حشرجات في الوقت المعين. أفلا يبكي الرجل مثلاً، وحتى أكبرُ الرجال، حين يجورُ عليه الزمان؟ ومَن يداهمه الخطبُ الجَلَل؟ ألا يبكي الرجل حين تصيبُه الويلاتُ والكوارث؟ ألا يذرف دمعه حين يفقد ولدَه؟ ألا يبكي في وقت التَّرح؟ نعم وأيضًا في وقت الفرح؟ لا بدَّ أنه يفعل كذلك حين يعانق ابنه العائد من بعيد، أو حين تنجبُ زوجتُه وليَّ العهد المنشود، أو حين يُطلُّ حفيدُه برأسه على هذه الدنيا! لغة الدموع هذه، لا يمكنُ أن تختفي من قاموس الإنسان ما دام يحمل الطبيعة البشرية هذه في جسده المجبول بالحسّ والعطف والحنوّ، رجلاً كان أم امرأة، طفلاً أم شيخًا. نعم، ويبكي الكبار كما الصغار أحيانًا عندما يعجزون عن التعبير بواسطة الكلام لأنَّ الدموع استجابة طبيعية لما يحدثُ في داخل الإنسان من انفعالٍ أو توتر أو حماس، أو لما يحلُّ به من حزن وألم وفقدان.

وحَذارِ! حذارِ من كبتِ الانفعالات أو العواطف الجيَّاشة لأنها سرعانَ ما تتحوَّل إلى حسَرات وربما آهات قد تؤدي إلى دمار في الصحة وربما الهلاك. وهذا ما توصَّلت إليه دراسة أمريكية جديدة وهو أنَّ كبْتَ المشاعر لدى الإنسان يجعل المرءَ أكثر عدائية، بينما التعبُ الجسدي لا يؤثر على ذلك. ووجد الباحثون الذين أجروا الدراسة في جامعة تكساس (أوستن) أنَّ مَن أُجبروا على كبتِ مشاعرهم وعدم إظهار أيةِ ردَّة فعلٍ بشأن مَشاهدِ فيلمٍ مثير للاشمئزاز، كانوا أكثرَ عدائيةً ممَّن سُمِح لهم بإظهار هذه المشاعر. وقال الباحث المسؤول عن الدراسة (آرثر ماركمان) إنَّ البحث أظهر أن الأشخاص قد يصبحون أكثر عدائيةً بعد كبْتِ مشاعرهم. كما يرى العلماء أيضًا أنَّ الدموعَ الأصلية - سواءً كانت دموعَ الفرح أم التَّرح - تساعد على إعادة التوازن لكيمياء الجسم. كما أنَّها تساعد على العلاج النفسي. فالإنسان عندما يشعر بالحزن مثلاً يفرزُ جسدُه موادًا كيميائية ضارّة تساعد الدموعُ على التخلص منها وتَزيد من ضربات القلب فتُعتبَرُ تمرينًا مفيدًا للحجابِ الحاجز. وعند الانتهاء من البكاء تعود عضلة القلب إلى وضعها الطبيعي وتسترخي وعندها يتسلَّل إلى الإنسان شعورٌ غريب بالراحة يساعده على أن ينظرَ إلى الهموم نظرةً أكثرَ وضوحًا وموضوعية. فالدموع تغسلُ أحزان النفس فتعيدُ إليها القدرةَ على التحمُّل والصبر. وفي دراسة أخرى أُجريت على الدموع تبيَّن أن 85٪ من النساء و73٪ من الرجال قد شعروا بالارتياح بعدها. هذا هو الارتياح الذي تَنشده النفس ويطلبه الجسد.

لكن ماذا عن ارتياح الروح في حضرة الله تعالى الخالق المهوب والقدوس العظيم؟

كيف تحظى الروحُ بارتياحٍ مستديم؟

نعم، إنَّ تلك الدموع التي نذرِفُها أسفًا على ذنوبنا وخطايانا وآثامنا التي نرتكبها في حياتنا، دموعَ التوبة المخلصة والندم الحقيقي على تعدياتنا، هذه الدموع هي وحدها التي تعيدُ إلينا الصفاءَ والنقاء لعلاقة صحيةٍ وصحيحة مع خالقنا وصانعنا ونافخِ نسمة الحياة فينا. فهلاَّ شعرتَ بأهميتها يومًا ما في حياتك يا قارئي؟

هل دخلْت يومًا إلى مخدعك، وأغلقتَ بابك، وجلست منفردًا في حضرة الله القدوس والطاهر الموجود في كل مكان وكلِّ آن؟

وهل بدأتَ عندها في محاسبة نفسك وأنتَ في الحضرة الإلهية؟

لقد حَظِيَ مرَّةً النبي إشعياء برؤية مشهدٍ عن قداسة الله فصاح بأعلى صوته وقال:

"وَيْلٌ لِي! إِنِّي هَلَكْتُ، لأَنِّي إِنْسَانٌ نَجِسُ الشَّفَتَيْنِ، وَأَنَا سَاكِنٌ بَيْنَ شَعْبٍ نَجِسِ الشَّفَتَيْنِ... فَطَارَ إِلَيَّ وَاحِدٌ مِنَ السَّرَافِيمِ وَبِيَدِهِ جَمْرَةٌ قَدْ أَخَذَهَا بِمِلْقَطٍ مِنْ عَلَى الْمَذْبَحِ، وَمَسَّ بِهَا فَمِي وَقَالَ: إِنَّ هذِهِ قَدْ مَسَّتْ شَفَتَيْكَ، فَانْتُزِعَ إِثْمُكَ، وَكُفِّرَ عَنْ خَطِيَّتِكَ" (إشعياء 5:6-7).

ليس الشفتانِ اللتان تفوهان بالكلام هُما بحاجة إلى لمسة من هذه الجمرةِ المتوهجة فحسب، بل هو القلبُ والكيان أيضًا، حيث مصدرُ الكلام ومنبعُ كلِّ التعابير، هو الذي يحتاج إلى لمسةِ النار هذه ليحظى حقًًا بالتغيير والتبرير تمامًا كما فعلت المرأة الخاطئة عندما "جَاءَتْ بِقَارُورَةِ طِيبٍ وَوَقَفَتْ عِنْدَ قَدَمَيْهِ (قدمَي الرب يسوع) مِنْ وَرَائِهِ بَاكِيَةً، وَابْتَدَأَتْ تَبُلُّ قَدَمَيْهِ بِالدُّمُوعِ، وَكَانَتْ تَمْسَحُهُمَا بِشَعْرِ رَأْسِهَا، وَتُقَبِّلُ قَدَمَيْهِ وَتَدْهَنُهُمَا بِالطِّيبِ باكيةً".

لم تهتم بما يقوله الناس عنها، بل أتت إليه بكل انكسار وراحت تذرف الدموع، دموع الأسف والتوبة عن خطاياها. عندها "قال لها يسوع: مغفورة لكِ خطاياك... إيمانكِ قد خلصك، اذهبي بسلام" (لوقا 7).

الارتياح التام والسلام العام كانا من نصيبَ هذه الامرأة النادمة عن خطاياها. هنا، وهنا فقط، ترتاح الروح لأنَّها تحظى بالغفران الأكيد والسلام الوطيد من فادي الأنام والمخلص الوحيد الرب يسوع المسيح.

ما أحرانا، أصدقائي، أن نذرفَ دموعًا سخينةً معلنين بذلك عن توبة حقيقية وعودة مخلِصة إلى الله الآب، وهكذا نستعيد صفاءنا الأول ونقاءنا الذي يريدنا الله أن نعيش فيه دائمًا وأبدًا. إنَّ الله الآب، فاتحٌ ذراعيه، يقبل كلَّ من يأتي إليه. والابنُ المتجسد الرب يسوع المسيح، لا يردُّ كائنًا مَن كان يأتي إليه باكيًا وتائبًا عن خطاياه لأنه عنده الخلاص الأكيد. أليس هو الذي قال: "تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم" (متى 28:11)؟ والروح القدس، الأقنوم الثالث، يعمل في حنايا القلب الداخلية لكي يعرِّف الإنسان على حقيقة نفسه الخاطئة فيبكِّته ويدفعه إلى التوبة عنها وبعد ذلك يقدّس حياته يوميًا. فهل اختبرت اختبارَ التغيير هذا في حياتك يومًا يا قارئي؟

الدموعُ نذرفها في الفرح والترح، والدموع نذرفُها حين تئنُّ الروح أيضًا تحت وطأة الذنوب وهي تشتاق إلى العودة إلى الخالق المحب. فهل بكيتَ على خطاياك يومًا؟ إنَّ دم يسوع الذي سُفك فوقَ الصليب من أجل إنقاذك من عقاب الخطية لسوف يطهِّر قلبك بالتمام إن أتيتَ إليه بصدق وإخلاص. وستغدو الحياةُ فرَحًا مُستمدًّا من النبع الذي لا ينضب، وسلامًا أكيدًا يفوق كلَّ عقل وكل وصف. نعم، ولن تعود الحياة أسىً كما قالت الشاعرة فدوى طوقان، لأنَّ الأمل بالرجاء هنا على الأرض وفي دار النعيم لسوف يبزغُ مع فجرِ يوم الولادة الجديدة.