الرب في الوسط! كلمات ثلاث لا يتعدى الحيّز الذي تشغله عند كتابتها سوى سنتمترات قليلة، وعند النطق بها لا يتعدى الزمن الذي تستغرقه سوى ثوانٍ معدودات، ولكنها تشتمل على أعظم الحقائق وأمجدها على الإطلاق. وهذه الحقيقة يُقصد بها ليس حضورُ عظيمٍ من عظماء الأرض مهما سمت مكانته، ولكن حضور الرب الذي "السماوات غير طاهرة بعينيه"، والذي "مجده كل الأرض"، "ملك الملوك ورب الأرباب".

والكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد يتحدث عن المكان المفضل الذي يريد أن يكون فيه... الوسط. "الله في وسطها فلن تتزعزع". "أكون لها سور نار من حولها، وأكون مجدًا في وسطها". "حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم".


وبعد قيامة المسيح من الأموات، ظهر للتلاميذ المجتمعين في العلية مرتين. وفي كل مرة كان يقف في الوسط ويقول: "سلام لكم". ورأى يوحنا سبعة مناير ذهبية وشبه ابن إنسان متسربلاً بثوب إلى الرجلين في وسطها. فليتنا نعطي الرب المكان الذي يفضله وسط الحياة الفردية والأسرة والكنيسة.

وللفائدة نتأمل في كلمات ثلاث. أولاً: شروط حيوية؛ ثانيًا: دلائل قوية؛ ثالثًا: بركات غنية

أولاً: شروط حيوية

لكي يكون الرب في الوسط لا بد أن تتوافر بعض الشروط:

 

1- الصلاة القلبية

الصلاة ركن هام وشرط جوهري لحضور الرب في الوسط، ولأجل هذا ركز الكتاب المقدس عليها وتحدث عنها كثيرًا... صلى إيليا صلاة قلبية فحلّ الرب في الوسط، وحدثت معجزات عظيمة. صلى أن لا تمطر السماء فلم تمطر لمدة ثلاث سنين وستة أشهر. ثم صلى أيضًا فأعطت السماء مطرًا وأخرجت الأرض ثمرها... وعلى جبل الكرمل صلى من أجل نزول نار من السماء فنزلت وأكلت الذبيحة ولحست المياه... صلى فأقام ابن أرملة صرفة التي لصيدون... اندهشتُ كثيرًا عندما قرأت كلمات الوحي المقدس: "وصلى إيليا صلاة"، وقلت في نفسي: "ما هذا؟"! أنا أعلم أن كل من يصلي تكون كلماته صلاة. ولكن الروح القدس أوضح أمامي أن ليست كل صلاة هي في الحقيقة صلاة! فما أكثر الصلوات التي تكون عبارة عن كلمات متراصة وجمل منمقة أحسن المصلي اختيارها، خالية من روح الصلاة تمامًا... إن الصلاة الحقيقية هي الصلاة الصادرة من القلب... قال الرب يسوع تبارك اسمه: "ينبغي أن يُصلّى كل حين ولا يُملّ". وقال الرسول بولس: "صلوا بلا انقطاع"، "مواظبين على الصلاة"، "مصلين بكل صلاة وطلبة كل وقت في الروح وساهرين لهذا بعينه بكل مواظبة وطلبة لأجل جميع القديسين".

 

2- الوحدة الحقيقية

الرب يحلّ في القلب الكامل أي غير المجزّأ... يحل في وسط الأسرة المتحابة المترابطة غير المنقسمة، ويحل في وسط الكنيسة المتحدة غير المنقسمة.

فالقلب المجزّأ الموزع بين الماديات والروحيات لا يمكن أن يحلّ فيه الرب، والأسرة المنقسمة التي لا يطيق أحد أفرادها الآخر لا يمكن أن يوجد فيها الرب. والكنيسة المنقسمة التي يتحارب أعضاؤها ويبغض كل واحد الآخر لا يمكن أن يحل المسيح فيها.

عندما سمع الرسول بولس من أهل خلوي أن كنيسة كورنثوس ظهرت فيها الانقسامات والخصومات، لا شك أنه تألم في داخله وكتب لهم يقول: "كل واحد منكم يقول أنا لبولس، وأنا لأبلّس، وأنا لصفا، وأنا للمسيح. هل انقسم المسيح؟ ألعلّ بولس صُلب لأجلكم، أم باسم بولس اعتمدتم؟".

سمعت عن كنيسة منقسمة إلى فريقين. إذا طلب واحد من الفريق الأول ترنيمة فلكي يُسكِت الفريق الآخر. وإذا صلى واحد من الفريق الثاني يصلي آخر من الفريق الأول. وأغرب ما عرفت عن هذه الكنيسة أنه إذا مات واحد من الفريق الأول يتناوب الفريق الآخر على زيارة الراعي ليحرموه فرصة القيام بواجب العزاء.

في الصلاة الشفاعية، صلى المسيح، له كل المجد، من أجل الوحدة الحقيقية لتابعيه قائلاً: "ليكون الجميع واحدًا، كما أنك أنت أيها الآب فيّ وأنا فيك، ليكونوا هم أيضًا واحدًا فينا". والرسول بولس في ختام رسالته الثانية إلى كورنثوس قال: "أَخِيرًا أَيُّهَا الإِخْوَةُ افْرَحُوا. اِكْمَلُوا. تَعَزَّوْا. اِهْتَمُّوا اهْتِمَامًا وَاحِدًا. عِيشُوا بِالسَّلاَمِ، وَإِلهُ الْمَحَبَّةِ وَالسَّلاَمِ سَيَكُونُ مَعَكُمْ".

 

3- القداسة العملية

يذكر الوحي المقدس في سفر التثنية: " لأَنَّ الرَّبَّ إِلهَكَ سَائِرٌ فِي وَسَطِ مَحَلَّتِكَ، لِكَيْ يُنْقِذَكَ وَيَدْفَعَ أَعْدَاءَكَ أَمَامَكَ. فَلْتَكُنْ مَحَلَّتُكَ مُقَدَّسَةً، لِئَلاَّ يَرَى فِيكَ قَذَرَ شَيْءٍ فَيَرْجِعَ عَنْكَ". وقال يشوع للشعب: "وَقَالَ يَشُوعُ لِلشَّعْبِ: تَقَدَّسُوا لأَنَّ الرَّبَّ يَعْمَلُ غَدًا فِي وَسَطِكُمْ عَجَائِبَ".

يختلف الناس في رؤيتهم عن القداسة. يرى البعض أن القداسة غير ضرورية. فاللص الذي صُلب مع المسيح وآمن به في اللحظة نفسها سمع الصوت المبارك: "اليوم تكون معي في الفردوس". ولكن ماذا يقول هؤلاء عن الآية التي ذكرها الوحي المقدس: "الْقَدَاسَةَ الَّتِي بِدُونِهَا لَنْ يَرَى أَحَدٌ الرَّبَّ".

وفريق آخر يرى أن حياة القداسة - الناتجة عن اختبار التقديس - حياة صعبة، واضعين نصب عيونهم أن البشر وهم في الجسد لا يمكنهم أن يحيوا حياة القداسة. أقول لهؤلاء إن الله هو الذي يقوم بهذا العمل. "وَإِلهُ السَّلاَمِ نَفْسُهُ يُقَدِّسُكُمْ بِالتَّمَامِ".

وفريق ثالث يرى أننا لن نحصل على اختبار التقديس إلا عند الخلاص من الجسد، أي عند مجيء الرب. ولهؤلاء أقول: "وَإِلهُ السَّلاَمِ نَفْسُهُ يُقَدِّسُكُمْ بِالتَّمَامِ. وَلْتُحْفَظْ رُوحُكُمْ وَنَفْسُكُمْ وَجَسَدُكُمْ كَامِلَةً بِلاَ لَوْمٍ عِنْدَ مَجِيءِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ". وهذا ما يؤيد تحقيق هذا الاختبار في الحياة. الرب يكون في الوسط حيث وجدت حياة القداسة العملية.

 
ثانيًا: دلائل قوية بأسلوب أوضح أقول:

كيف نتأكد من وجود الرب في الوسط؟

 

1- الرائحة الذكية

حيث يوجد الرب تفوح الرائحة الذكية في المكان، ويؤيد هذا قول سليمان الحكيم: "ما دام الملك في مجلسه أفاح نارديني رائحته". وعندما أتحدث عن الرائحة الذكية للرب لا أقصد الرائحة التي ملأت البيت الذي كان فيه المسيح والتي نتجت عن دهن مريم لقدميه بالطيب، ولا تلك التي انتشرت من دهن المرأة الخاطئة قدمي المسيح في بيت الفريسي، ولكني أقصد رائحته الطبيعية الذاتية، رائحة اسمه، "اسمك دهن مهراق لذلك أحبتك العذارى"؛ ورائحة فمه، "ليقبلني بقبلات فمه لأن حبك أطيب من الخمر"؛ ورائحة ثيابه، "مَنْ ذَا الآتِي مِنْ أَدُومَ، بِثِيَابٍ حُمْرٍ مِنْ بُصْرَةَ؟ هذَا الْبَهِيُّ بِمَلاَبِسِهِ، الْمُتَعَظِّمُ بِكَثْرَةِ قُوَّتِهِ"؛ ورائحة حياته، قال الرب يسوع مرة: "من منكم يبكتني على خطية؟". وشهد له بيلاطس: "لم أجد علة في هذا الإنسان". وبعد أن غسل يديه قال: "إني بريء من دم هذا البار". وحتى يهوذا الذي أسلمه قال: "أخطأت إذ سلمت دمًا بريئًا".

ورائحة المسيح الذكية تَظهر على تابعيه كما يظهر هذا من قول الرسول بولس، "لأننا رائحة المسيح الذكية لله، في الذين يخلصون وفي الذين يهلكون".

 

2- الأنوار البهية

حيثما يشع الرب تشع منه أنوار بهية تملأ المكان. ألم يقل هو عن نفسه: "أنا هو نور العالم. من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة"؟ "أنا قد جئت نورًا إلى العالم، حتى كل من يؤمن بي لا يمكث في الظلمة". هذا الذي شهد له يوحنا شهادة صادقة. "كان إنسان مرسل من الله اسمه يوحنا. هذا جاء للشهادة ليشهد للنور، لكي يؤمن الكل بواسطته. لم يكن هو النور، بل ليشهد للنور. كان النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان آتيًا إلى العالم". انظروه على جبل التجلي وقد تغيرت هيأته قدامهم (بطرس ويعقوب ويوحنا) وصارت ثيابه تلمع بيضاء جدًا كالثلج لا يقدر قصار على الأرض أن يبيّض مثل ذلك.

يقول الوحي المقدس: "والمدينة لا تحتاج إلى الشمس ولا إلى القمر ليضيئا فيها، لأن مجد الله قد أنارها، والخروف سراجها. وتمشي شعوب المخلصين بنورها". "ولا يكون ليل هناك، ولا يحتاجون إلى سراج أو نور شمس، لأن الرب الإله ينير عليهم".

لقد انعكست أنوار الرب على تابعيه فصاروا هم أيضًا نور. في ذلك يقول الرب يسوع في عظته على الجبل: "أنتم نور العالم... فليضئ نوركم هكذا قدام الناس، لكي يروا أعمالكم الحسنة، ويمجدوا أباكم الذي في السماوات".

 
ثالثًا: بركات غنية

عندما يكون الرب في الوسط تتدفّق البركات من كل جانب على من يكون الرب في وسطهم. تنهمر بركات مادية حتى يصعب استيعابها. ووجوده في الوسط يجعل القليل الذي في يد كل واحد من تابعيه خيرًا من ثروة أشرار كثيرين.

بيديه أمسك خمسة أرغفة من الشعير وسمكتين فأشبع بها خمسة آلاف رجل ما عدا النساء والأطفال، وفضّل عنهم اثنتي عشرة قفة ممتلئة... ومرة أخرى بسبعة خبزات وبعض من صغار السمك أشبع أربعة آلاف رجل ما عدا النساء والأطفال وفضّل عنهم سبع سلال مملوءة.

إن الرب لا يمكن أن يتغاضى عن احتياج حقيقي... فلا يجب أن نهتم بما نأكل ولا بما نشرب ولا بما نلبس... لأن الرب يعلم أننا نحتاج إلى هذه كلها ويوفرها. إن كان يعطي الطيور - التي لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن - طعامها في حينه، ويهتم بزنابق الحقل التي لا تتعب ولا تغزل ولكن الله يلبسها أفضل مما كان يلبس سليمان في كل مجده. فإن كان الرب يهتم بالعصافير وزنابق الحقل فكم بالحري بنا نحن أولاده؟

وبجوار البركات المادية توجد أيضًا بركات روحية أذكر منها:

 

1- بركة السلام الأكيد بوجود الرب في الوسط يملأ القلب سلامًا. بعد ما صُلب الرب يسوع ومات امتلأت قلوب التلاميذ بالخوف والرعب فدخلوا العلية وأغلقوا أبوابها جيدًا، ولكن في اليوم الثالث قام شخص الرب من بين الأموات، وعند المساء دخل المسيح العلية والأبواب مغلّقة وقال لهم: سلام لكم. فاختفى منهم كل خوف ورعب وحل في قلوبهم السلام العجيب. هذا السلام الذي وصفه الرسول بولس بأنه "يفوق كل عقل".

دعني أهمس في أذن كل باحث عن السلام قائلاً: لا سلام بعيدًا عن الرب يسوع، فهو إله السلام ورئيس السلام ومانح السلام.

 

2- الفرح المديد: حيثما وُجد يسوع تفرح القلوب وتبتهج النفوس. ألم يقل الوحي المقدس: "ففرح التلاميذ إذ رأوا الرب"؟! إنه فرح قلبي، فرح كامل وفرح دائم. فرح لا يُنطق به ومجيد. فرح لا يتأثر بتجارب الحياة الكثيرة والشديدة "احسبوه كل فرح يا إخوتي حينما تقعون في تجارب متنوعة". فرح لا يُنزع "ولا ينزع أحد فرحكم منكم". لماذا كان هذا؟ لأنه فرح الرب. "افرحوا في الرب كل حين وأقول أيضًا افرحوا".

 

3- التعليم السديد

الرب في الوسط يعلّم تعاليم مباركة. يقدم للخطاة تعاليم إرشادية تقودهم إلى خلاص نفوسهم - خلاصًا تامًا، ويقدم للمخلصين تعاليم ترشدهم إلى طريق النمو والتقدم.

انظروا تعاليمه العظيمة السامية المباركة التي قدمها في عظته على الجبل. إنها تعاليم أسمى وأرفع وأمجد ما قدّم. قرأها القائد الهندي الشهير غاندي وأُعجب بها أيما إعجاب ولكنه بكل أسف قال: لولا المسيحيين لصرت مسيحيًا.

 

4- الانتصار المجيد: يحقق تابعو الرب يسوع الذي يحل في وسطهم انتصارًا تلو انتصار. هذه الانتصارات تتحقق عندما نتكل عليه لا على أنفسنا. عندما نحمل سلاحه الكامل "طوباك يا شعبًا منصورًا بالرب".

 

5- المجد العتيد

بعد انتهاء حياتنا الأرضية سوف ندخل الأمجاد السماوية، ونسمع الصوت: "نعمَّا أيها العبد الصالح والأمين! كنت أمينًا في القليل فسأقيمك على الكثير. ادخل إلى فرح سيدك". وهناك سننسى أتعابنا وآلامنا وسنكون كل حين مع الرب وسيتم القول: "هوذا مسكن الله مع الناس، وهو سيسكن معهم، وهم يكونون له شعبًا، والله نفسه يكون معهم إلهًا لهم. وسيمسح الله كل دمعة من عيونهم، والموت لا يكون في ما بعد، ولا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع في ما بعد لأن الأمور الأولى قد مضت. وقال الجالس على العرش: ها أنا أصنع كل شيء جديدًا.