Jacob Ammari Pictureتوقفت اليوم أمام مشهد في سفر الخروج جرى بين موسى النبي وشعبه. وهذا السفر هو الثاني بين أسفار موسى الخمسة في الكتاب المقدس. فشدّ انتباهي ما نطق به موسى النبي في توبيخ شعبه بعد تململٍ أو تمردٍ قاموا به ضده شخصيًا؛ مع أنه هو الذي كلفه الله إنقاذهم من عبودية ثقيلة رزحوا تحتها لسنين طويلة تحت حكم فرعون. وفي تمردهم على موسى، أعرب البعض عن رغبتهم في البقاء تحت إمرة فرعون، ليس حبًا به، ولا ولاءً له بل خوفًا من بطشه فيما لو قدِّر له أن يعود ويبسط سلطانه عليهم من جديد بعد أن حررهم موسى من قبضته!

وكأن التاريخ يعيد نفسه كما بالأمس واليوم وغدًا في الكثير من الأحداث التي تتكالب على الشعوب المستضعفة تحت جبروت الطغيان.

 

 

بعد تمردهم، تدخّل موسى النبي كرجل الله وقال لهؤلاء: "لا تخافوا. قفوا وانظروا خلاص الرب الذي يصنعه لكم اليوم". بمعنى، اصمتوا ولاحظوا كيف سيحقق الله نجاتكم من دكتاتورية فرعون. لا ترتعبوا من بطش فرعون فلن تروا وجهه بعد اليوم. وكانوا حينها يغادرون مصر وصاروا على مقربة من شواطئ البحر الأحمر هاربين من فرعون بقيادة موسى.

وهذا ما حصل فعلاً في نفس ذلك اليوم. فبعد سويعات غرق فرعون وجنده ومركباته في مياه البحر الأحمر، أما الشعب بقيادة موسى فخلص ونجا إلى بر الأمان.

ذكّرني هذا بمشهد آخر ورد ذكره في المزمور العشرين وينسجم مع ما ذكرت. والمزمور هناك يتحدث وكأن معركةً قامت بين فريقين: فريق مؤمنٌ اتكل على الرب واعتز به، وفريق آخر تعظم بخيله ومركباته الحربية ومناعة حصونه وقلاعه الجبارة، ولكن من دون الله.

ويقارن المزمور بين الفريقين بقوله: "هؤلاء بالمركبات وهؤلاء بالخيل، أما نحن فاسم الرب إلهنا نذكرز هم جثوا وسقطوا أمّا نحن فقمنا وانتصبنا". بمعنى، أن هؤلاء اعتزوا بمركباتهم وبخيلهم وبأدواتهم الحربية، ورغم ذلك جثوا وسقطوا، أما الفريق الآخر فقاموا وانتصبوا.

مشهدٌ عجيبٌ حقًا، وهذه حقيقة لا يدركها إلا قلة من الناس الذين يمتلكون عيونًا إيمانية ثاقبة ترى ما لا يرى، وتدرك ما هو فوق الإدراك.

من منا يا قارئي الكريم لا يتذكر قصة داود وجليات الجبار؟! فهناك نلحظ تطبيقًا آخر لمثل هذا المشهد. كان داود شابًا فتيًا، ومؤمنًا حلوًا، ولم تكن لداود خبرةً في الحروب وحمل السلاح، وكانت مهمته، بين أفراد عائلته، أن يقوم ببعض الخدمات البسيطة ومنها رعاية أغنام أبيه في البرية؛ فهو أصغر إخوانه السبعة. وفي يومٍ أرسله أبوه ليسأل عن سلامة إخوته في جيش شاول الملك، وكان شاول يواجه عدوًا عنيدًا يعتدّ بجبروته ويتحدّاه للدخول معه في معركةٍ مصيرية.

وصل داود إلى إخوته بين الجنود واطمأن على سلامتهم، وتلهّى قليلاً وهو يتمعن بطبيعة الحياة الجندية وأحوال الحروب. وقبل أن يغادر المكان، برز من بين صفوف جيش الأعداء في الطرف المقابل رجلٌ جبارٌ، ضخمٌ، طويل القامة، يصل طوله إلى أكثر من مترين، ويحمل بيمناه رمحًا طويلاً، وعلى يساره سيف، وفوق رأسه خوذة فولاذية، وحول صدره درع من زردٍ حديدي يقيه من سيوف أعدائه. وعُرف الرجل بجليات الجبار. وقف جليات وأخذ يُعيِّر صفوف أعدائه ويتحدى إن كان بينهم من يجرؤ على منازلته منفردًا… ولما لم يبادر أحد بمنازلة الرجل دبّت الحمية في قلب الفتى داود فتطوّع لمنازلته، وتقدم نحوه لا يحمل سوى مقلاعًا بيده وخمسة حجارةٍ مُلْسٍ التقطها من الوادي في طريقه إلى جليات. وفي اقترابه من هذا المارد الضخم، رفع الصبي صوته عن بعد وقال لجليات: "أنت تأتيني بسيفٍ ورمحٍ، وأنا آتيك باسم الله رب الجنود. اليوم يحبسك الرب بيدي...". وتقدّم داود ووضع حجرًا أملس في مقلاعه وصوّبه نحو الرجل ورماه بعزمٍ باتجاه جليات، فارتزَّ الحجر على جبين جليات بقوة، فسقط الرجل على الأرض فاقد الوعي، وركض داود ووقف فوقه واستلَّ سيف جليات وقطع به رأسه ورفعه بيده وهو يرشح دمًا على مرأى من الصفين المتحاربين.

وعندما رأى جند جليات أن سيدهم مات، هربوا وولّوا الأدبار، فتم فيهم القول: "هؤلاء بالمركبات وهؤلاء بالخيل، أما نحن (كما لو كان داود المتكلم)، فاسم الرب إلهنا نذكر. هم جثوا وسقطوا، أما نحن فقمنا وانتصبنا.

أيها الأصدقاء، مشاهد كهذه يخاطب الله بها المؤمن الحقيقي الذي لا يعتز بغير الله. لكن الاعتزاز بالله لا يكون بمجرد الكلام اللفظي أو بالعبارات التقليدية التي نسمعها دائمًا تتردد على الألسنة هنا وهناك. فكم من أناس نسمعهم يتحدثون بكلماتٍ خالية من المضمون، وشعارات رنانة لا تخرج عن كونها معانٍ لفظية. أما الاعتزاز الحقيقي بالله فيقترن بالطاعة لله، والانسجام معه فيما يحبه، والالتزام بما ينهي عنه.

فسألني صديقي:

كيف تُعرِّف بهوية المعتز بالله، وكيف تصفه؟

قلت: المعتز بالله لا يؤذي الناس، ولا يظلم الناس، ولا يتعدى على حقوق الآخرين. ثم إن اعتزازه بالله يقرّبه من الله ويعكس على شاشة قلبه وضميره قبسًا من نور الله، ومن حب الله، ومن تسامح الله، ومن طيبة الله.

المعتز بالله إنسان إيجابي متسامح ومحب، طيب المعشر، لا يحقد ولا يتعصب، ولا يدخل في مشورة تؤذي الناس. إنسانٌ هذه صفاته يحبه من يعرفه، ويشهد بطيبه. فعن مثله يتحدث الوحي في المزمور الأول ويقول:

"طوبى للرجل الذي لم يسلك في مشورة الأشرار. وفي طريق الخطاة لم يقف. وفي مجلس المستهزئين لم يجلس، لكن في ناموس الرب مسرته وفي ناموسه يلهج نهارًا وليلاً فيكون كشجرة مغروسة عند مجاري المياه التي تعطي ثمرها في أوانه وورقها لا يذبل وكل ما يصنعه ينجح".

المعتز بالله لا يسلك في مشورة الأشرار لأن الأشرار يفرّقون ولا يجمعون. المعتز بالله لا يمشي في طريق الخطاة لأن الخاطئ لا ولاء له سوى لنفسه. المعتز بالله لا يقف في مجلس المستهزئين الساخرين الشاتمين المُكفّرين لمن لا يلعب على طبلتهم ولمن لا يغني على نغمة مزمارهم. إذ لكلٍ منا خصوصياته؛ ولغته، وعقيدته الدينية، وتقاليده وعلينا أن نحترمها.

فالمزمور في حديثه عن المؤمن المعتز بالله، يصفه بشجرةٍ مغروسةٍ عند مجاري المياه التي تعطي ثمرها في أوانه وورقها لا يذبل. بمعنى أن طيبها يبقى ويدوم في صيف أو شتاء، في حربٍ أو سلم، مهما هبت الرياح أو عصفت الزوابع. أما الأشرار فيقول فيهم المزمور: ليس كذلك الأشرار لكنهم كالعصافة التي تذرّيها الريح. ثم يقول: "لا تقوم الأشرار في الدين، ولا الخطاة في جماعة الأبرار، لأن الرب يعلم طريق الأبرار، أما طريق الأشرار فتهلك". فالمؤمن والشرير لا يستويان في يوم الدين!

أود أن أعود وأقول للمتألمين في شرقنا الحبيب: كفى ما مر بكم من أوجاعٍ، فأنتم اليوم مع تعدد منابتكم، وقومياتكم، ومعتقداتكم الدينية، تمثلون بهذه التعددية شجرة وردٍ جميلةٍ متعددة الألوان. وجاء الوقت لبناء الوطن من جديد بالحب، والعطاء، والتسامح، والانتماء، بالانصهار في أخوّةٍ وطنية إنسانية، تسمو فوق جراح الماضي لتعيد للوطن مجده.

فاجعلوا من تعدُّديِّتكم مثالاً يحتذى.