القس يعقوب عمارييخاطب الله شعبه في سفر ملاخي بقوله: "أيسلب الإنسان الله؟ فإنكم سلبتموني! فقلتم: بمَ سلبناك؟ في العشور والتقدمة... هاتوا جميع العشور إلى الخزنة ليكونَ في بيتي طعام، وجرّبوني بهذا إن كنتُ لا أفتح لكم كوى السماوات وأفيض عليكم بركة حتى لا توسَع." (ملاخي 7:3-10)

والسؤال هنا: هل الله بحاجة للطعام؟! فهو يُطعم الطيور التي لا تزرع ولا تحصد، ويُطعم وحوش البرية بلا حساب. إنما يدعونا أن نقدّم مما جاد به علينا فنُسهِم في خدمة كنيسته، فنحن في أمراضنا نركض إلى الكنيسة لتسعفنا بالصلاة، وفي أفراحنا نطلب بركة الكنيسة لتدوم علينا، وفي أحزاننا نرجو تعزياتها لتخفيف حدة ما أصابنا، وفي حيرتنا نطلب مشورتها، فكيف تواصل الكنيسة خدماتها ونشر رسالتها بخزينة فارغة؟!
وكما أننا في انتمائنا للوطن، ندفع ضريبة المواطنة والانتماء لجسم الأمة، كذلك علينا في انتمائنا لكنيسة الله أن نشارك في سدّ احتياجاتها لصيانة مبانيها ومعيشة رعاتها وتوسُّع خدماتها واهتمامها بالفقير والمحتاج.
ثم إن الكنيسة عضو فعّال في المجتمع الذي تعيش فيه، ومن الطبيعي أيضًا أن تسْهِمَ بالخدمات الإنسانية الطارئة في محيطها بالقدر الذي تستطيع. لكن من أين يتوافر كل هذا إن لم يكن من جيوب المؤمنين أغنياء وفقراء، كلٌّ ممّا يمتلك، والكل من نعم الله وسخاء عطاياه؟
ذات مرة، ذهبتُ في زيارةٍ لإحدى عائلات الكنيسة التي كانت تسكن في غرفة نوم واحدة، فضلاً عن غرفة صغيرة لاستقبال الزوار ملحقة بها. وفي أثناء الزيارة اجتذب انتباهي على جدار الغرفة رزنامة التقويم الشهرية مطبوعة بإتقان، وكل يوم من أيام الشهر مستقل في مربع خاص به. ولاحظت وجود أرقام مكتوبة بقلم الرصاص على مربعات متفرقة من أيام الشهر، بعضها كتب عليه رقم 11 وبعضها 8 وأخرى 12 وهكذا.
فدفعني الفضول للسؤال عما تعنيه هذه الأرقام فابتسموا ونظر بعضهم لبعض باستحياء ولم يجيبوا. فكرَّرت السؤال. عندئذٍ قالت سيدة البيت: "يا ابني، هذا عدد ما تجمَّع من بيض دجاجاتنا في قنّ الدجاج خلف البيت."
فقلت: "وماذا يعني هذا؟" قالت: "كي نحسب عشور البيض في نهاية الشهر فنقدمها للكنيسة مع ما يتوافر من عشور دخل أخرى."
ولما بدا على وجهي الاندهاش، قالت: "للكنيسة واجب علينا يا ابني، لنشارك في احتياجاتها بقدر ما نملك، فقراء كنا أم أغنياء. ففي القديم كان الفلاح يقدم عشور قمح حقله وشعيره، وعنب كرمه، والغنّام يقدّم عشور مواليد أغنامه، كلٌّ حسب محصول دخله، وهكذا نحن!"
فأكبَرْتهُمْ وتعلّمت درسًا في أمانة الانتماء للرب لا أنساه. وكنت حينها طالبًا في كلّية اللاهوت أتهيّأ لخدمة الرب.
الكنيسة لا تفرض على أعضائها التبرّع بالعشور. فالعملية طوعية تُدْفعُ من قلب سمح. فيقول الإنجيل: "المعطي المسرور يحبه الله." (2كورنثوس 7:9)
وقف المسيح يومًا مقابل خزانة بيت المال في الهيكل حيث كانت تُلقى تبرعات المصلين. ولاحظ الأغنياء وهم يلقون بقرابينهم في الخزانة، ورأى أيضًا أرملة فقيرة ألقت في الخزانة فلسين. فدعا تلاميذه وقال لهم: "الحق أقول لكم إن هذه الأرملة الفقيرة قد ألقت أكثر من جميع الذين ألقوا في الخزانة، لأن الجميع من فضلتهم ألقوا، وأما هذه فمن إعوازها ألقت كل ما لها، كل معيشتها!" (مرقس 43:12-44)
تدعونا الوصية الثامنة لنكون أمناء على ما للغير كيفما وصل إلى أيدينا، فتقول: "ردّ الأمانة إلى أصحابها."
حدثني زميل في خدمة المسيح قائلًا: "سافرتُ بالطائرة من الكويت إلى بيروت، بعد زيارة لأنسبائي العاملين في الخليج، وحمَّلوني حقيبة يدٍ مليئة بعشرات الألوف من الدولارات من مُدّخرات عملهم لتوصيلها لذويهم في بيروت.
نزلت في مطار بيروت واستقللت سيارة أجرة، وجرى حديث ممتع بيني وبين السائق طوال الطريق إلى أن وصلنا البيت، وعندها نزلت وأخذت حقائبي ودفعت الأجرة وشكرت السائق وذهب.
وبعد أقل من نصف ساعة قرع جرس البيت، ففتحت الباب وإذ بي أمام سائق السيارة نفسه وهو يحمل حقيبة اليد التي تحوي الأموال، فُذهلت وكاد يُغمى عليَّ، فابتسم الرجل وهدّأ من روعي، وقال: "يبدو يا سيدي أنك نسيتها أثناء الحديث الطيب معك، وفيها أموال والدنيا أمان!" تناولت الحقيبة من يده وأنا في ذهول، ثم شكرت الرجل وحاولت أن أكرمه فاعتذر بشدة وغادر.

المجموعة: تشرين الأول (أكتوبر) 2016